بعد أن أصبحت المجازر الصهيونية روتينًا يوميًّا.. أهيَ غزّة.. أمِ العالمُ الذي انتهى؟!

وبعد أن انجلى الغبار وعرّت ساحة غزة، من تحته فَرَسٌ بسرجها الأصيل، ومن هرطقته غزوة من على بردعة حمار؟ يمكننا القول والجزم لسادة العروش والفتاوى المسطحة من جهة، ولدعاة الحرية والمستلبين بحضارة الغرب أضواءً وشهرة، من جهةٍ وضفة أخرى، إن الذي جرى ويجري في غزة المحرقة اليوم، انتهى إلى تحديد جغرافية الأرض، فلا هي كراوية كما تؤكدها البحوث العلمية ولا هي مسطحة كما تفندها العقول المعلبة، هي فقط غزة، أما حدودها وما يحدها غربا و”عربا”، فإنه التاريخ وليست الجغرافيا ما سيسجل بين صحائفه، أن الأرض يوم اهتزت دمارا لم تكن إلا غزة الأطفال والعزل والآمنين، فيما الضفة الأخرى، جغرافيات تآمر بعضها مع سبق “تَصَهيُّن” وإصرار، فيما البقيتة انبطاح على وجود أمة، أضحت مرتعا للقتل والقصف والتصفية والاستئصال العرقي بغزتها الصامدة.. الوجع والانصهار.

سيكتب التاريخ، يوما، أن ما هوى في غزة، ليست مبان أو هياكل أو بنى تحتية ولكنه الإنسان، وطبعا، لا نقصد بالإنسان ذلك الذي رُدم تحت الأنقاض في مقاصف همجية التآمر والخنوع والمباركة، وإنما ذاك الذي واصل حياته ضاما عياله إلى صدره لينام بعد أن غير تردد قناة فضائية، أذاعت أن القصف مستمر على رؤوس العزل في غـزة، وأنه بالإضافة لما سبق، فإن القادم أكثر قصفا وخسفا ونسفا..

الحكاية وما فيها، أنها ليست غزة التي انتهت ولكنه العالم الذي شيّع كل خرافته حول مزاعم الحرية والحقوق والمساواة، وحول الحياة ذاتها، فلا شيء هنا، غير أن تاريخ المذبحة بشواهد أنقاضها وقبورها وردمها ناهيك عن شهودها الزور، سجل أنه لا جغرافية على الأرض بعد غزة، وأن كل ما سبق من تعايش إنساني مُعَلب بالقيم والمثل والمبادئ المروج لها في سوق حضارة وحظائر الغرب، ليس إلا نكتة عالم فضحه التاريخ وغزة معا.

غزّة بين إنسانيّة الغرب وواقع القضيّة.. “الدم” والألم!

الملاحظ لتطور الأحداث وتداعياتها، من اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى، التي جبّت ما قبلها من خنوع عربي ووهم صهيوني وغربي، يشدّه ذلك التناغم والعزف المشترك الذي وَحَّد شتاتَ المعمورة، على تعاطف وقلب وتباك واحد، حول مفهوم الإنسانية المنتهكة على ما جرفته غزوة الطوفان من أسرى الكيان الصهيوني، قدمهم الإعلام بصفة الحمل الوديع الذي كان نائما، فنزل عليه القضاء و”الغدر”، لتتعالى الأصوات الحقوقية، منددة بما حدث، في حق بضعة عشرات من مدنيين افتراضيين وجنود حقيقين، والمهم أنه وتحت غطاء الإنسانية ودور الضحية الذي لعبه ساسة الكيان الصهيوني ومن خلالهم أرمدة إعلامية دولية، تم التأطير والقولبة لرأي عام على مقاس قصف وحشي، كان مبرمجا أن لا تُستثن من قنابله حياة بغزة، لكن المضحك المبكي في إنسانية الغرب وكذا بعض أعرابنا الذين كانوا مَلَكيِّين أكثر من الملك ومن “صهيون” ذاته، أن تلك الإنسانية المزيفة تبددت واختفى أثرها، بعد أن أصبح القتل في ساحة غزة لا يختلف عن روتين التمارين الرياضية اليومية المعتادة، فمن مئة ضحية إلى سبع مئة إلى آلاف من الأكياس التي تضم قتلانا، لم يعد العالم بعربه وغربه، يهتم بمتتالية القصف وتعداد الضحايا وحجم الدمار، فكل شيء أضحى في حكم العادي. أما غير العادي، فهو، أن يمر يوما ولا نسمع عن ضحايا جدد في ساحة محرقة متواصلة ومتتالية القصف هناك والصمت هنا، حيث العالم بعربه وغربه يواصل الحياة ويُسَيّر يومياته، وكأن شيء لم يكن.

إنسانية الغرب التي جعل منها عجوز أمريكا جون بايدن غطاء لهلوسته بالقتل لصالح الكيان الصهيوني، انتهت صلاحية استعمالها بعد أن أسقطت المقاومة ورقة الأسرى من المتاجرة الدولية، وقامت بتحرير بعض الرهائن في تأكيد منها أن طوفان الأقصى، لم يجرف فقط قوة البعبع التي لا تقهر، ولكنه جرف حتى ورقة المتاجرة بالإنسانية من سوق النخاسة الدولية. والنتيـجة اليوم، أنه إذا كان طوفان الأقصى قد عرّى وهم القوة الصهيونية المزعومة، فإن محرقة غزة عرّت بضاعة الحضارة الغربية المسماة بالقيم ومبادئ ومُثُلٍ إنسانية، كثيرا ما احتكرها الغرب للسيطرة والتحكم وكذا إدانة من هم حوله من شعوب المعمورة.

الواقع فيما نعيشه الآن من تهاو لكل القيـم، أن من مات في ساحة المحرقة ليست غزة بأطفالها وحياتها ومستقبلها القادم، ولكنه الإنسان بمفهومه الغربي والدم والقرابة والعرق بمفهومهم العربي، الذي أنهى زمن العصبية التي لم تكن تتردد حتى في زمن الجاهلية إلى نصرة الأهل، حين ينادي منادي النــخوة والشهامة والجيرة، أن انتصــروا لأهلكم فإنهم منكسرون.

ماكـرون.. حقيقة رجل مُقنّع!

زيارة الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون إلى “تل أبيب”، وما ترتب عنها من تصريحات ومواقف هجينة، صبت كلها في وعاء الكيان الصهيوني، دون الإشارة ولو من بعيد ولا من قريب إلى ما يجري من مجازر في ساحة غزة، لم تسقط فقط الأقنعة من على وجه ماكرون، عرفه العالم متلونا وبلا قيمة أو أثر، ولكنها أعادت إلى الواجهة سؤالا عميقا، تختزله مجموعة استفهامات معلقة: هل الاستعمار يتغير؟ وهل يمكن لمن كان جلاد الأمس أن يتوب ويغتسل من أدرانه السابقة؟ وهل جيل ماكرون اليوم، جيل جديد لا علاقة له بتاريخ الأمس “التليد”، أم أنها لعبة الماضي القريب من تستنسخ لها أحداثها وهمجيتها واستغلالها، بغض النظر إن كانت السياط بيد “جَدّ” قديم أو حفيد متجدد؟

الحقيقة التي كشفها لقاء ماكرون في لقاء نتنياهو، أن فرنسا هي فرنسا، سواء بأمسها أو يومها أو غدها القادم، فإن من شابه أجداده فما ظلم، وماكرون لم يفعل شيئا، سوى بكونه أثبت أنه ابن وفي ونطفة أصيلة من تاريخ الاستعمار والوحشية والغابرين من أجداد القمع والإجرام، فحين يقف مثل ذلك الماكرون حاضنا للقصف ومباركا لوحشيته، والأكثر من ذلك داعيا لتجريم الضحية بدلا من لوم الجلاد، فإن النهاية المنطقية أن نُقر أن ملة الكفر واحدة، وأن جيل ماكرون ليس إلا وجها معدلا ومحسنا عن استعمار و”جدّ” قديم النذالة والقهر حتى وإن اختلفت الملامح والطريقة ومعاول وسياط الجلاد.

فرنسا بوجهها الماكروني، اليوم، أثبتت أنه لا علاقة لها بالإنسانية مزاعما وشعارات، وأن حكايتها مع اغتصاب وإبادة الشعوب، ليست أخطاء ماض قديم، ولكنها جينـات لجنس ونوع من البشر، لا يتغيرون حتى وإن تغيرت وسائل وحشيتهم من سوط يدمي الظهر إلى حقنة سامة تقضم وتأكل الجسد من الداخل، والمهم في لقاء ماكرون بنتنياهو، أن “بعل” أمه، طالب بتصنيف المقاومة كمنظمة إرهابية، فيما كان يضم إلى صدره أكبر مجرم عرفه تاريخ القصف البشري، وآخر الكلام والأخبار في لعبة المحرقة، أنه حتى وإن انتهت غزة فإن الغد لن يسجل سوى أن الأرض لم تعد لديها مشكلة في شكلها الكروي أو المسطح، ويكفيها فخرا أنها كانت غزة، وكان العالم من حولها مجرد “رغوة” صهيونية، مهما تعالت أصوات مقاصفها إلا أن نهايتها ستكون.. القدس لأهلها وفلسطين وإن جنت عليها عواتي الدهر كلها، ستظل قِبْلةَ وصلاةَ القادمين من جيل.. إنا ها هنا صامدون وثابتون ومتجددون.

أسامة وحيد - الجزائر

أسامة وحيد - الجزائر

اقرأ أيضا