في حِكْمةِ عَجُوزٍ صقلته المحن وأوهنته التجارب، فلم يبق منه إلا بعض من مؤشر ينبئ بخراب وأفول أي أمة، سألته ابنته: ماذا يحدث في حالة الحرب؟ ليجيبها: ينهار الاقتصاد، لتسأله: وماذا يحدث بعدها؟ فيرد العجوز: تنهار الأخلاق؟ ليكرر سؤالها: ثم ماذا؟ فيكون الجواب الصدمة من الزعيم الهندي “جواهر لال نهرو”لابنته “أنديرا غاندي”: وما الذي يبقيك في بلد انهارت أخلاقه؟!
القصة معروفة، وقد تناولتها رئيسة الوزراء الهندية آنذاك في مذكراتها، لكن ما هو متعامى عنه في تفاصيلها الصغيرة، أنها تؤسس للحدود الحقيقية للأوطان بعيدا عن “جغرافية” الموقع وخرائط ما تحت وفوق التراب من ثراء وثروات، إذ الهزيمة في الحروب، ليست في فقدان الأرض جغرافية وطينا، ولكن في فقدان منظومة القيم التي تعني أن الإنسان هو الحدود التي إن انهارت انهار كل شيء، تحت عنوان: وماذا تفعلين في بلد انهارت أخلاقه؟!
قبل أن ينتهي العالم لهكذا مسخ وتمييع ودهس لمنظومة القيم ـ ليست الدينية فقط، ولكن الإنسانية في حدها الأدنى ـ لم يكن لأحد أن يتصور أن تهوي الأمم إلى مستوى لم تصله حتى “البهيمية” في أسوأ صورها ومآلاتها الدنيا، حيث محطة “شرعنة” الشذوذ وتقنينه كحق له منظمات ومدافعون ودول تستثار وتحمي وتنتصر لمثليته بمحاصرة ومعاقبة من يقف ضده مدافعا عن الفطرة قبل الدين، وكل ذلك تحت مسمى التفتح والثقافة والحرية الشخصية وغيرها من عناوين “مسخ”، جعلت من شاذ لا يقاس عليه، واقعا يُحتكم إليه ويُلزم المجتمعات أن تتعايش معه طوعا أو كرها..
ما هو مؤكد ـ كمخططات ودراسات مخبرية التحكم والتسيير والاستمرارية ـ أن إستراتجية المسخ والتمييع والتهجين للأصل، سبقت إستراتجية السيطرة والتحكم في العالم جغرافيات وثروات ودولا بسنوات ضوئية، فمن وقف وراء “عَوْلَبَة” العالم ليكون على “قالب” واحد، ما كان له أن يجسد أهدافه بهذا السقوط والتهاوي الذي نعيش، لو لم يخترق “الفطرة” ليعدل جيناتها ويجعل من المجتمعات كيانات “بهيمية” قابلة للتشكل وفق ما يريد مهندس وعاجن اللعبة وصاحب إستراتجيتها المتوسطة والبعيدة المدى.
وطبعا القضية ليست مجهود فئة أو إرادة شخص ولكنها مخططات متوارثة ومطبوخة على أعلى مستويات الطهي وعمرها من عمر الصراع الوجودي بين “حرب” الخير ومعارك الشر المتواصلة التأطير و”القولبة”، والمعلق من أسئلة في هكذا واقع ممسوخ، هل كان يمكن السيطرة على العالم بشكل عام وعلى المكون العربي مجتمعات ودولا وحضارة آنفة الذكر والذكرى، لو لم تتم السيطرة على إنسانه من خلال إلغاء وتمييع وقولبة كل مقوماته الفطرية ممثلة في منظومة الأخلاق والقيم والمبادئ التي تولد معه؟
الإجابة على السؤال، يمكن أن نقف على مخلفاتها في المجتمعات العربية، وما انتهى إليه حالها من اختراق، قبل أن يطال جغرافيتها، طال إنسانها الذي تم إفراغه من مقوماته التاريخية والعقائدية، ليتم تشكيله على مقاس “كرة” حيثما قذفتها أقدام ميسي ورونالدو ـ مثلا ـ استقرت وهللت فرحة، أو من خلال تفسخ “أخلاقي” بمسمى فني، جعل من الأقطار العربية مراقص متفتحة، ليس فقط على عولمة “الشطح” ولكن على “مثلية” الواقع وشذوذه الذي انتهى بنا إلى أنه لم تعد للأمة العربية والإسلامية التي بعث رسولها الكريم، صلوات الله عليه وسلامه، ليتمم مكارم الأخلاق، فإذا بأمة رسالتها الأخلاق، تعيش زمنها المثّلي بكل شذوذه وتصبح جزءا من منافسة معولمة نحو المسخ والانحلال والتهاوي..
حين قال نهرو لابنته: وما الذي يبقيك في بلد انهارت أخلاقه؟ كان قصده أبعد من قراءة بسيطة في جملة عابرة وضعت الإصبع على مكمن الداء، فانهيار الأخلاق يعني انهيار أسرة، وانهيار أسرة يعني انهيار أجيال، وانهيار أجيال يعني ضياع أوطان لم تعد صالحة للعيش، فالوطن بمفهومه الحقيقي ليس ذلك الذي حدوده جغرافية المعالم ولكنه الإنسان الذي إن سقطت حدود مقوماته، سقطت الأمة انتماء ووجودا، لذلك، فإن إستراتجية السيطرة بوجهها الحداثي الناعم، لم تعد قوة سلاح وعتاد وجيوش مدججة ولكنها “قُدرة” اختراق واحتواء وصياغة لمجتمعات “مُدَجنة”، تصبح هي معاول الهدم لأوطانها، وكل ذلك تحت غطاء مهلوسات العولمة والتفتح والحريات الشخصية التي تعني التخلص من كل قيود القيم والثوابت والأخلاق وعلى رأس كل ما سبق تحييد “الدين” كمرجعية سماء تؤطر ـ ليس فقط معنى الحياة ولكن ـ مفهومها الكامل حين تكون الرقابة ضميرا سماويا وليست قانونا وضعيا تتحكم فيه أدوات الردع.
ما يحدث الآن في المجتمعات العربية، من سيطرة وتبعية واحتواء عام للعقل الجمعي، هي أخطر حرب ضروس كسبها الغرب من مكاتبه المكيفة بعد أن أقال الشعوب العربية من دورها المحوري في كونها إنسان الأمة والأوطان، فالقضية أبعد من ثروة منهوبة أو نفط متحكم في جريانه ولكنها في “قابلية” الاستقالة وفي الاكتفاء بدور الشاهد على السقوط إن لم يكن أداته، فحين نرى مثلا كيف تم التسويق لأرودوغان تركيا في “ذهن” الأمة المقرصن، في صورة “مهند” الورع والتقي الذي يمكنه أن يجمع بين الأختين في فراش واحد، يذرف فيه دموع الإيمان والتقوى مرة ويعيره للمثلية والشذوذ مرات أخرى.
حين نرى ذلك، لن نستغرب كيف انتهى الوعي العام لرعي “هوام”، انتهى بإنسان الأمة، لأن يكون مشروع استغباء تجاوز القابلية للاستعباد إلى القابلية للاستحمار المزمن، الذي يفرح ويهلل مكبرا لسجدة “كرة” قيمتها ملايير الدولارات من جبين “الشيخ” رونالدو، قدس الرب قدمه وهدفه وسجدته الخارقة التي اهتدى بسببها الملايين حسب رواة وشيوخ السلطان..
مشكلة الأمة اليوم، لم تعد في حكامها الميامين، ممن نعرف أنهم جزء من تعويم وتمييع شامل ومُدول أوصلنا لهاوية تجاوزت التنازل عن الأرض إلى التخلي عن الشرف، ولكنها في مجتمعات تم جرها إلى المستنقعات لتكون جزءا من حلقة الضفدعة العامة، دون تملل أو حتى “نقنقة”، وتكون النهاية أن الابتذال والسقوط كان إنسانا هو كل الحدود الجغرافية، والنتيجة المؤسفة، أننا لم نعد نريد استرجاع أوطاننا ولكن كل ما نحلم به أن نستعيد إنساننا بمنظومة قيمه التي كانت هي كل الحدود وكل الحصون وبسقوطها تجسد لنا قول نهرو لابنته: وماذا تفعلين في بلد انهارت أخلاقه؟
يروى كخاتمة قول في مجال، إلى أين نحن “مُذهبون”، وليس ذاهبون،أنه في زمن من تواريخ الأفول والصراع، وبعد أن انتهت ألمانيا إلى ما يشبه الفناء عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، حين لم يبق من برلين إلا بقايا حياة متخمة بمخلفات الحرب وطوابير النكبة الإنسانية وهي تتدافع للملمة ما تبقى من محاولة عيش وتعايش من الأنقاض، ثارت عجوز كانت تنتظر دورها لركوب القطار، في وجه شاب تجاوز مسرعا طابور المصففين، لتنهره قائلة: “خسرنا الحرب ولم نخسر أخلاقنا يا هذا، فعد إلى مكانك”.
بعبارة متخمة بكل تهاوينا: أيها السادة، يا رجال العلم يا ملح البلد، من يصلح الملح إذا الملح فسد؟!