بعد فشل العدوان على غزة ولبنان.. سوريا بين فكّي أفعى الإرهاب الصهيو-تركي

  تشهد سوريا واقعًا متقلّبًا بسرعة دراماتيكية غير مسبوقة، ما جعلها عالقة في كمّاشة، فكّها الأول في الشمال، حيث تظهر الطموحات التوسّعية لتركيا، المدعومة برعايتها للفصائل الإرهابية المسلّحة التي تواصل استنزاف الجسد السوري. أما الفكّ الثاني، ففي الجنوب، حيث تصاعدت الهجمات الصهيونية الممنهجة ضد الدولة السورية وحلفائها. وسط هذا المشهد المُعقّد والمشحون، تحاول دمشق الحفاظ على ما تبقّى من سيادتها، رغم الضغوط المتزايدة والتكالب المكثّف، في وقت يبدو فيه الدور الروسي، الذي كان يومًا حجر زاوية في المشهد، متباطئًا بشكل لافت.

 الهجوم المباغت على حلب من قبل “هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها، بالتزامن مع القصف الصهيوني المكثف في الجنوب، يعكس تعقيد المؤامرة المستمرة ضد سوريا. كما يكشف عن طبيعة الصراع الذي تجاوز الحدود السورية ليصبح جزءًا من صراع أوسع على النفوذ الإقليمي والدولي لفائدة الصهيونية المتغولة بالمنطقة. وفي هذا السياق، تبدو سوريا ضحية لطموحات دولية وإقليمية متشابكة، تجعلها في مواجهة مفتوحة مع قوى إرهابية تعمل لفائدة أجندات هدفها الأول تدمير سوريا لتعويض الهزيمة في لبنان وغزة.

وحتى قبيل إعلان واشنطن هدنة بين “إسرائيل” وحزب الله، خرج رئيس سلطة الإرهاب الصهيوني بنيامين نتنياهو مهددًا الرئيس السوري بشار الأسد، واصفًا إياه بأنه “يلعب بالنار”. وتبع هذا الخطاب ضربات صهيونية متتالية على المناطق الحدودية بين سوريا ولبنان، بحجة قطع الإمدادات عن حزب الله. ومع ذلك، فإن نتنياهو، الذي واجه الهزائم العسكرية المتصاعدة في غزة ولبنان، لا يستطيع تحقيق أهدافه في سوريا دون دعم حلفائه، وأبرزهم التنظيمات الإرهابية التي تُسمى “المعارضة السورية”، وفي مقدمتها “هيئة تحرير الشام”، التي تأسست في عام 2012 تحت اسم “جبهة النصرة”.

تصريحات نتنياهو جاءت بمثابة إشارة للتحرك، حيث سارعت “هيئة تحرير الشام” وفصائل متحالفة، منها ما يُسمى “الجيش السوري الحر”، إلى تنفيذ هجوم مباغت على مناطق سيطرة القوات الحكومية في شمال وشمال غرب سوريا. وتم هذا الهجوم وفق خطة معدة مسبقًا بدعم أمريكي وصهيوني، وبمباركة تركية واضحة. ونتيجة لذلك، فقدت القوات الحكومية السيطرة على نصف مدينة حلب، في تصعيد خطير وغير مسبوق منذ سنوات من الهدوء النسبي.

الهجوم العنيف الذي تقوده الفصائل المسلحة بقيادة أبو محمد الجولاني (زعيم القاعدة السابق) لم يكن ليحدث دون دعم خارجي متداخل المصالح، بالإضافة إلى رعاة الإرهاب من بعض الأطراف العربية. أما ميدان المعركة، فقد شهد تحركات لمجموعات المرتزقة والإرهابيين القادمين من مختلف أنحاء العالم، مدعومين بطائرات مسيرة فرنسية وعتاد عسكري حديث. في الوقت ذاته، استهدف قصف مكثف قوات الجيش السوري في منطقة البوكمال على الحدود مع العراق، مما عزز التفوق الميداني لهذه الفصائل. ورغم أن الطائرات المهاجمة وُصِفَت بأنها “مجهولة”، إلا أن القرائن تشير بوضوح إلى تورط صهيوني في هذه العمليات.

جاء تجدد المعارك على جبهة ريف حلب الغربي بمثابة مفاجأة، خاصة أن التنظيمات التي بدأت الهجوم كانت دائمًا تحت قيادة تركيا، مما يطرح تساؤلاً حول تفسير اتخاذها قرارًا “مستقلاً” بالتصعيد. هذا التطور يحدث بعد نحو أربع سنوات من الهدوء النسبي، الذي لم يُخترق سوى بمناوشات محدودة. واليوم، يبدو أن هذا الهدوء قد انتهى، ليحل محله صراع جديد يدفع ثمنه الشعب السوري، في ظل غياب حلول واضحة وإرادة دولية حقيقية لإنهاء هذا النزاع الذي يتسارع اتساعه يومًا بعد يوم.

وفي حين نفت تركيا أي انخراط لها في الصراع الدائر في حلب مدعية أنها لن تسمح للإرهاب بأن يتحول إلى دولة، أعلن الاحتلال الصهيوني أمس السبت أنه هاجم بنى تحتية قرب معابر حدودية بين سوريا ولبنان يستخدمها حزب الله لنقل الأسلحة. وبالمقابل اعتبرت إيران أن الخاسرين في غزة ولبنان يقودون اليوم الهجمات المسلحة في سوريا، أما العراق فقد شدد عبر «قوات حرس الحدود» الرقابة على الحدود مع سوريا، البالغ طولها حوالي 600 كيلومتر، إضافةً إلى تكثيف عمل قواته ووضعها في حالة تأهب قصوى في ظل الأحداث الأمنية الأخيرة في سوريا.

وأعلن المتحدث باسم الحرس، حيدر الكرخي، “تركيب أكثر من 210 كيلومترات من الجدران الخرسانية في حدود محافظة نينوى باتجاه محافظة الأنبار وسيتم نصب جدران أخرى بطول 100 كيلومتر الأسبوع المقبل”، كاشفاً أن “العمل الذي تمّ إنجازه حتى الآن لتشديد الحدود مع سوريا والعمل الذي سيتم إنجازه في المستقبل لم يتم إنجازه طوال تاريخ العراق، ولا توجد فرصة للتسلل والتحرك غير القانوني في هذه المناطق”.

لكن، بعيدًا عن فحوى التصريحات، يظل الثابت الوحيد أنه بعد ساعات قليلة من خطاب نتنياهو الذي سبق الهدنة، والذي هدد فيه سوريا بمزيد من الاعتداءات، شنّت مجموعات إرهابية كبيرة تتبع فصيل “هيئة تحرير الشام” (القاعدة) الذي يتزعمه أبو محمد الجولاني، مع فصائل أخرى، وبمشاركة كتائب مما يُسمى “الجيش الوطني” الذي شكّلته تركيا، هجومًا كبيرًا عند ساعات فجر يوم الأربعاء الماضي، وهو الأعنف منذ العام 2020. واستهدف الهجوم محاور ريف حلب الغربي، وشمل قرى “قبنان الجبل” و”الشيخ عقيل” و”بسرطون” و”بالا” و”السلّوم”، بالإضافة إلى منطقة “الفوج 47” والنقاط العسكرية القريبة.

وأعلنت “هيئة تحرير الشام” عن “عملية واسعة النطاق” ضد مواقع الجيش في ريف حلب. واللافت أيضًا، أن أوساط تلك الفصائل بدأت بالإعلان عن السيطرة على مواقع لحزب الله في ريف حلب الغربي وسقوط قتلى وأسرى من الحزب، وهو ما يبدو عارياٍ عن الصحة. فليس هناك أي مواقع للمقاومة في تلك المنطقة، لكنه تماهي واضح مع السردية الصهيونية، وإثبات جديد على “وحدة الساحات” بين العدو وأدواته في الداخل والمنطقة بشكل عام.

تُعتبر هذه المعركة واحدة من أعنف وأشد المعارك التي جرت في السنوات الأربع الأخيرة على جبهات الشمال السوري، وقد بدأتها الفصائل الإرهابية المسلحة ببيانات وعدت فيها أنصارها بالوصول إلى حلب. ولهذه المعركة دلالات هامة في هذا الظرف تحديدًا، فهي تأتي أولًا، وبشكل مباشر، بعد الهدنة على الجبهة في جنوبي لبنان، التي جاءت كإعلان صريح وواضح عن عجز العدو عن تحقيق أي هدف في المعركة مع المقاومة في لبنان وغزة. وأيضًا بعد قصف واستهداف جميع المعابر والممرات بين سوريا ولبنان، واستنفاد جميع محاولات منع التواصل العسكري الهام والمفصلي بين دمشق والمقاومة في لبنان.

كما تأتي هذه المعركة عقب تهديد نتنياهو بتصعيد المواجهة مع الدولة السورية و”تدفيعها أثمانًا” على دعم المقاومة وإمدادها. وعليه، وبينما تجري نقاشات وأحاديث كثيرة عن جدوى أو ثبات أو استمرار “وحدة الساحات” لدى محور المقاومة، فقد أثبت العدو أنه يمتلك “ساحاته الموحدة” أيضًا، ليس فقط من خلال الدعم العسكري والسياسي والمالي والاقتصادي، وخطوط الإمداد المستمرة على جميع هذه المستويات ومن خلال عشرات الدول في العالم والإقليم، والتي لولاها لما استطاع هذا العدو الصمود في معركة غزة وحدها لشهر واحد.

ناهيك عن شنّه معركة الشمال ضد المقاومة اللبنانية، بل إن ساحات العدوان العسكرية الموحدة من فلسطين إلى الشمال والبادية السورية أكدت الآن أنها “ممسوكة” تمامًا من إدارة صهيونية واحدة، وأن تحريك تلك الأذرع، بالتزامن مع الاعتداءات المتواصلة من العدو نفسه، حاصل بالفعل ومرشح للتطور والتصعيد في عدة ميادين.

وبالتالي، يجدر بمحور المقاومة أن يكون مستعدًا للقتال والمواجهة على جبهات مستجدة ستكون سوريا أولها، وربما أعنفها وأخطرها، قبل أن يأتي دور اليمن والعراق. وأن خطة العدو للاستفراد بكل جبهة على حدة والإمعان في تدميرها ومحاولات تعطيلها باتت واضحة ولا لبس فيها، وعلى أهل المقاومة أن يستدركوا أي أمر يحقق للعدو أهدافه تلك، وأن تتماشى خطط إدارة الصراع لدى المحور مع مدى خطورة تلك الأهداف والوقائع الجارية بالفعل.

وفي هذا السياق، رأى الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود أن ما يحصل في سوريا بعد انتهاء الحرب في لبنان، يُثبِت أن المحرك واحدٌ، بشكل مباشر هنا وبالواسطة هناك. وقال إنه “حين كنّا نقول، منذ أكثر من عقد من الزمن، إن الحرب على سوريا هدفها خلق شرق أوسط جديد مطيع للعدو الصهيوني ومتنازل عن حقوقه وحدوده، كنا نُتهم بالانحياز”.

وسأل لحود: “أين كانت التنظيمات التكفيرية التي تحارب في سوريا حين اندلعت الحرب على غزة؟”، مشيرًا إلى أنها لم تناصر الفلسطينيين والمسلمين ولو ببيان. وأضاف لحود أن “كما فشلت محاولة اجتياح لبنان بفضل المقاومين الأبطال، ستفشل محاولة السيطرة على حلب بفضل الجيش العربي السوري الذي أسقط جميع المحاولات السابقة”.

وتابع قائلاً: “كل ذلك يحصل لأن الرئيس السوري بشار الأسد رفض مجالسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، المتعدد الأوجه والألسن”. وقال: “حسنًا فعل الرئيس الأسد لأنه اختار المواجهة، وهي اللغة الوحيدة التي يفهمها الطغاة أمثال أردوغان والعدو الصهيوني”.

وللعلم، فقد ظهرت “جبهة النصرة” بإرادة تركية –وبدعم عربي أمريكي- مع اشتداد الصراع السوري عام 2011، وتمكنت من تثبيت مكانتها بين الفصائل الإرهابية بفضل التخطيط والخبرة القتالية التي اكتسبتها في ميادين الارتزاق بإشراف أمريكي، وفي عام 2016، اندمجت مع فصائل أخرى لتصبح “هيئة تحرير الشام”، وبدأت تتوسع في إدلب مستغلة فوضى الحرب. ومع ذلك، تغيرت موازين القوى مع تقدم الجيش السوري بدعم روسي وإيراني، ما دفع الجولاني إلى تغيير استراتيجيته.

في عام 2021، ظهر الجولاني ببدلة رسمية، مبتعدًا عن مظهره التقليدي كزعيم متشدد، وأكد خلال مقابلة مع الإعلام الأمريكي أن ارتباطه بالقاعدة انتهى، وأن “هيئة تحرير الشام” لا تهدد أمن الغرب. كما سمح بإعادة افتتاح كنيسة في إدلب في محاولة لتحسين صورته، إلا أن الغرب ظل متمسكًا بتصنيفه كإرهابي، مع تخصيص مكافأة مالية للقبض عليه.

عمل الإرهابي الجولاني على تعزيز قوة “الهيئة” عسكريًا من خلال تأسيس كلية حربية وتشكيل جيش يرتدي زيًا موحدًا، وسعى إلى تقديم تنظيمه الإرهابي ككيان منظم يشبه الجيوش الرسمية. ومع تغير المشهد الإقليمي وعودة دمشق إلى الجامعة العربية، وجد الجولاني نفسه في عزلة متزايدة، خاصة مع التحولات في العلاقات التركية-السورية التي كان الروس يرغبون في أن تسير نحو التطبيع. وهذا يفسر عودة تركيا إلى استخدام الجولاني، في حين لا تزال روسيا في موقف أكثر تمهلًا، وذلك نتيجة لرفض الأسد تطبيع العلاقات مع أردوغان، كما أشار بعض المحللين.

وللتذكير، فإن وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية عبد الله بو حبيب اتصل –أمس- بنظيره السوري بسام صباغ، وبحث معه التطورات في الشمال السوري، ووفقاً لوكالة «ساناً»، أدان بو حبيب الهجوم على مدينة حلب ومحيطها، مؤكداً “دعم لبنان لوحدة سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها”.

بدوره، أعرب صباغ عن «شكره وتقديره للموقف اللبناني الداعم لوحدة سوريا وسيادتها في الوقت الذي يواجه فيه لبنان تحدي العدوان الصهيوني المستمر على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار». واعتبر أن هجمات الفصائل المسلحة “تتماهى مع المخططات الصهيونية الهادفة إلى توسيع رقعة الصراع في المنطقة، وإبقائها في حالة حرب مستمرة، وانعدام الأمن والاستقرار فيها”.

وحيد سيف الدين - الجزائر

وحيد سيف الدين - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
"غزة كشفت نفاقكم".. حفيظ دراجي ينتقد ازدواجية المعايير لدى البرلمان الأوروبي سفيان شايب يجتمع برؤساء المراكز القنصلية لتقييم الخدمات المقدمة للجالية الوطنية بتهمة التجسس.. توقيف صانع محتوى جزائري رفقة زوجته في لبنان الصين تثمن دور الجزائر في تعزيز السلام بالمنطقة والعالم نابولي يفشل في تأخير وصول مواني ليوفنتوس بن جامع يناشد المجتمع الدولي: "يجب التحرك فورا لمساعدة أطفال غزة" أسعار الذهب تقفز إلى أعلى مستوى منذ 3 أشهر زهاء 50 مشاركا في الرالي السياحي الوطني بالمنيعة الصحافة الدولية تسلط الضوء على تحرير الجزائر للرعية الإسباني قضية صنصال.. وزير الداخلية الفرنسي يهاجم "ريما حسن" التحضير لتنظيم ملتقى برلماني بخصوص التفجيرات النووية الفرنسية بالجزائر "الأرندي" يستنكر بشدة لائحة البرلمان الأوروبي "الأونروا": نحو 660 ألف طفل بغزة لا يزالون خارج المدارس الجزائر تحتضن الطبعة الإفريقية الأولى من Slush's D طقس مشمس وارتفاع في درجات الحرارة بهذه المناطق أسعار النفط تتجه نحو أول خسارة أسبوعية في 2025 استثمار كُتب السِّيَر في التربية والتعليم.. من يُوقظ أمّةً غَيّبت عظماءها في غبار التاريخ؟ مناقصة وطنية لتمويل برامج احتضان مبتكرة للمؤسسات الناشئة مبدأ "التضامن بين الأجيال".. نهج مبتكر لبناء مستقبل اجتماعي مستدام فرنسا والمخزن.. حسابات الذلّ والمهانة