اندلعت غزوة طوفان الأقصى المفاجئة، فابتهجت الشعوب العربية واستبشرت، عسى أن تجعل منها الأنظمة الحاكمة فرصة تاريخية للمّ شمل الوطن الممزق منذ عصور، وأن تتوخى الحزم في مواجهة الصلف الصهيوني، الذي لن يتوانى عن ارتكاب المجازر وتجاوز كل الحدود، في الردّ على أهل الأرض والدّار؛ فهو كيان إرهابي قاتل قذر لا خلاق ولا ذمة ولا عهد له.. لكن، وبكل مرارة وأسف، فعوض أن يكون الأمر على ما تمنت الشعوب وحلمت، تفاجأ العالم بأن اكتشف عربا أكثر صهيونية من الصهاينة أنفسهم.
ذلك أنه، وفي الوقت الذي قررت فيه بعض الدول الحرة الشريفة تأجيل أفراحها الوطنية على عظمتها، تضامنا مع الشعب الفلسطيني في محنته، عمدت أخرى إلى التمادي في إبراز مظاهر الاحتفال والاحتفاء وبثّ مشاهد الأفراح والمسرات، من دون أدنى اكتراث لما يعانيه الأبرياء في فلسطين من ظلم وآلام وجراح.. احتفالات، كان من الممكن تأجيلها، على الأقل إلى حين أن تصمت فوهات المدافع وتتوقف وحشية القتل وتهدأ آلة الدمار بحق إخوة الدم والدين والدار، احتراما لأرواح الضحايا وإظهارا للحد الأدنى من مشاعر التعاطف والتضامن والتآزر.
كانت البداية من السعودية بمهرجان موسم الرياض، أرض الحرمين والتوحيد والحج والاعتمار، حيث شهدت زحف العراة البغاة من كل جنس ومن كل دين، تماما كما كان قد أعلن عن ذلك المستشار “تركي آل الشيخ” أحد رجال الثقة الملكية، بتنظيم موسم الرياض في موعده المحدد بكل ما يمكن من استعراضات عالمية مبهرة ومثيرة، تحت شعار”Big Time”، من تأطير وتنظيم أكبر وأفضل منظمي الاحتفالات في العالم، وبمشاركة أشهر نجوم الفن والسينما والثقافة والإعلام، وأبرز أبطال الرياضة والمنافسة والمصارعة.
المحزن في الأمر، أن معظم الأوجه التي نالت حظها الأوفر من التكريم السخي والتقدير النّدي كانت من الأوجه العالمية المؤيدة للكيان الصهيوني في عدوانه على غزة، وفي قصفه للمستشفيات، وفي قتله الأطفال والنساء والأبرياء العزل في القطاع المحاصر منذ سنين.. ففي الوقت الذي كانت القذائف القاتلة تنهمر بالموت والدمار على رؤوس الفلسطينيين، كانت “الأساطير” في الرياض بصدد قبض الملايين، بكل السخاء الممكن والجود الموجود والكرم المعقود.
لم تكد الأضواء الماجنة في الرياض تخفت، حتى ألهبها “ابن سلمان” على الساحل الغربي وعلى مشارف مكة المقدسة، أضواء بكل الألوان والأشكال، في خطوة مخزية لتعزيز مكانة مدينة جدة المحافظة التاريخية، ضمن زمرة مدائن العهر والابتذال، حيث انطلق “مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي”، في دورته الثالثة تحت شعار: “قصتك..بمهرجانك”، بحفل افتتاح جمع نجوما ومُخرجين وصُناع سينما وشواذ وشذّاذ “مرموقين” من جميع أنحاء العالم، للاحتفال هنا عند أعتاب الأرض المقدسة، في استعراض عاهر للأجساد المترنحة والسيقان الفاضحة والأيدي الملوحة.. عاريات حدّ الإباحية؛ من نصف نهد شارون ستون، إلى ربع صدر صوفيا فارغارا، إلى المخنثين من أشباه ذكور هوليوود: ويل سميث، وجوني ديب.. إلى عجائز الخلاعة والتمثيل: كاترين دونوف، نبيلة عبيد، يسرا.. إلى عدد رهيب من شياطين الدعارة والإغراء.. كل هؤلاء نزلوا باسم الفن ضيوفا عند “خادم الحرمين الشريفين”، لإخراج مملكة النفط والرمال من “ظلمات التحجر وعذاب القبر والأهوال”، إلى أنوار الانفتاح والانحلال.
هكذا ينظر حكام المملكة الجدد، الذين لم يقرأوا التاريخ ولم يتعلموا من جدهم المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود الذي ظل يردد ويؤكد أثناء توديع المتطوعين السعوديين في الحرب العربية، عقب الإعلان الغربي عن خطة توطين اليهود في فلسطين: “..أبناء فلسطين أبنائي.. فلا تدخروا جهدا في مساعدتهم وتحرير أراضيهم..”.. وهو الموقف الذي بقي محفورا في ذاكرة أبناء فلسطين والعرب، والذي ثمنه وزاده توهجا ابنه الملك “فيصل” الذي جعل القضية الفلسطينية على رأس اهتماماته السياسية وأولوياته الدبلوماسية، وذلك مذ كان وزيرا للخارجية، حيث عارض منذ البدء خطة التقسيم، وأيّد الحق الفلسطيني في الاحتفاظ بكامل الأرض من النهر إلى البحر.
كما كان له الدور الأبرز رفقة الرئيسين هواري بومدين وجمال عبد الناصر في تنظيم قمة للدول الإسلامية عقب عملية حرق المسجد الأقصى العام 1969م، والتي أسفرت عن تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، والتي ورغم اختراقها من قبل اللوبي الأمريكو – صهيوني، إلا أنها كانت ولا تزال تلعب دورا حيويا في دعم القضية الفلسطينية، على الأقل من باب الاعتراف السياسي والدبلوماسي بالدولة الفلسطينية ذات الوحدة والسيادة، ورفض الاحتلال الصهيوني للقدس وللضفة الغربية وغزّة عقب نكسة 1967م.
كما تبرز الكثير من الوثائق الموثوقة والموثّقة مواقف الشرف التي تبناها الملك “فيصل”، تشير إلى أنه وأثناء استقباله وزير الخارجية الأمريكي – آنذاك – “هنري كسنغر”، رفض كل محاولاته لثنيه عن المضي في موقفه القاضي بقطع إمدادات النفط تضامنا مع القضية العربية الأم.. حيث يسرد التاريخ وقائع اللقاء، أنه عندما قال “كيسنغر” للملك: “..إن طائرتي تقف هامدة في المطار بسبب نفاد الوقود، فهل تأمرون جلالتكم بتموينها، وأنا مستعدٌ للدفع بالأسعار الحرة…؟”.. رد الملك فيصل بكلمة تاريخية يتذكرها العالم، وهي التي أودت بحياته غدرا بعد ذلك داخل قصره: “..وأنا رجل طاعن في السن، وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل أن أموت..”.. في إشارة إلى ثباته الراسخ حيال القضية الفلسطينية بقدسها وضفتها وشعبها.. ثم أردف مستطردا: “..نحن كنا ولا نزال بدوا، وكنا نعيش في الخيام وغذاؤنا التمر والماء فقط، ونحن مستعدون للعودة إلى ما كنا عليه، أما أنتم الغربيون، فهل تستطيعون أن تعيشوا بدون النفط…؟”.. وظل يردد كلما التقى شرفاء الأمة العربية، من قبيل الرئيس هواري بومدين والرئيس عبد الناصر.. بأن الصهيونية هي سبب الأزمات الدبلوماسية كلها، وهي أصل الحروب والصراعات والفتن.. ولذلك لم يكن لديه أي استعداد للتنازل والاعتراف بهذه العصابة الإرهابية القاتلة.
فكيف تناسى “ابن سلمان” كل هذه المواقف الطاهرة الناصعة، وارتمى في أحضان الصهيونية القذرة..؟ وهو يحتفل بموسم الرياض غداة اندلاع غزوة الطوفان، غير مكترث بقساوة المشهد الفلسطيني، ويعاود الكرة مع مهرجان البحر الأحمر بجدة، مباشرة بعد انتهاء فترة الهدنة، ومواصلة الكيان الصهيوني قصف وتدمير وقتل أهالي غزّة، وقنص واعتقال أهالي الضفة.. وكأن الأمير الهمام قد استنفذ كل عبارات الشجب والتنديد، وكل الخطابات والكلمات التي لا “تسمن ولا تغني”، فضاق ذرعا بالقضية ولم يعد بين يديه ما يقدم في عزّ توهج المواجهة واشتداد البأس، ليس على أرض المعركة فحسب، وإنما في كل مكان عبر بقاع العالم، حيث لا يزال الأحرار والشرفاء يحتكمون للقيم والأخلاق وللضمير الإنساني.
فعلى نهج الشهيد البطل “محمد العربي بن مهيدي” القائل، عندما سئل عن المخارج والمآلات المنتظرة من تفجير الثورة: “..ألقوا بالثورة إلى الشارع، فسوف يلتقطها الشعب..”.. ألقى ثوار المقاومة الفلسطينية بثورتهم إلى الشارع، وها قد بدأت شعوب العالم في الاستجابة لالتقاطها بكل عفوية وعنفوان.. ولذلك، مهما كانت النتائج في الميدان بعد اليوم، فلن يعود الوضع إلى ما كان عليه قبل الغزوة العظمى؛ فالصهاينة صاروا مجرمين وارهابيين سفلة.. وأهل فلسطين هم الأحرار وهم الشجعان وهم الشرفاء، سواء تحت الأرض عند ربهم يرزقون، أو فوق الأرض بين الأحياء يتفاخرون.