في أجواء مفعمة بالوطنية والتضامن الشعبي، احتفل الإيرانيون بالذكرى الـ 46 لانتصار الثورة الإسلامية، هذا الحدث التاريخي الذي غيّر مسار البلاد وأعاد تشكيل توجهاتها الإقليمية والدولية. هذه الثورة التي أطاحت بنظام الشاه في عام 1979، لا تزال حاضرة بقوة في وجدان الإيرانيين، حيث شكّلت منعطفاً سياسياً واجتماعياً، وحوّلت إيران من دولة تدور في فلك الإمبريالية الغربية إلى قوة إقليمية ترفع شعارات المواجهة ضد أمريكا والكيان الصهيوني. وفي هذه المناسبة، شهدت طهران ومدن البلاد مسيرات حاشدة، وسط تأكيد القيادة الإيرانية على مواجهة التحديات الراهنة بوحدة الشعب وصلابة الموقف”.
أحيا الإيرانيون، يوم أمس الاثنين، الذكرى السادسة والأربعين لانتصار الثورة الإسلامية والإطاحة بنظام الشاه في عام 1979، عبر تنظيم مسيرات حاشدة في العاصمة طهران ومختلف المدن والقرى في البلاد. وقد شهدت المناسبة حضوراً شعبياً واسعاً عكس روح التضامن الوطني، فيما أكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن بلاده قادرة على تجاوز كافة التحديات وحل مشكلاتها الداخلية، مع مواجهة الولايات المتحدة ومخططاتها.
ومنذ ساعات الصباح الأولى، عرض التلفزيون الرسمي مشاهد مباشرة للمشاركين في المسيرات، الذين غمروا شوارع المدن على وقع أغانٍ شعبية وأناشيد وطنية. وفي طهران، بدأ السكان بالتوافد مبكراً إلى التجمع الرئيسي حول برج آزادي (‘الحرية’ بالفارسية) غرب العاصمة.
وفي كلمة له بهذه المناسبة، قال بزشكيان: ‘نقف اليوم متلاحمين مع قائد الثورة والجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، الذي يمثل فصل الخطاب في مسيرتنا’. وأضاف: ‘سنسير على درب الشهداء، وعلينا أن ننبذ الأنانية والخلافات ونتحد تحت قيادة قائد الثورة’. كما أشار إلى أن الأعداء يحاولون زرع الفتنة وزعزعة استقرار البلاد، مؤكداً أن هذه المحاولات ستبوء بالفشل.”
بزشكيان واصل في خطابه التأكيد على أهمية الوحدة الوطنية لمواجهة الحرب الاقتصادية المفروضة على إيران، مشدداً على أن التحالف الأمريكي-الصهيوني هو المسؤول الحقيقي عن زعزعة استقرار المنطقة. وأعرب عن شكوكه في جدية الولايات المتحدة بخصوص الدعوات للحوار، منتقداً استمرار فرض العقوبات بالتزامن مع التصريحات التي تدّعي السعي للتفاوض.
وأكد بزشكيان أن إيران لن تقع في فخ المؤامرات التي يدبرها الأعداء، ولن تستسلم للقوى الأجنبية، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن بلاده لا تسعى إلى الحرب. ووجّه رسالة إلى الولايات المتحدة قائلاً: ‘إذا أردتم السلام في المنطقة، فلا تدافعوا عن الظالم’. كما تساءل بزشكيان: “إذا كانت الولايات المتحدة صادقة في دعوتها للحوار، فلماذا تواصل فرض العقوبات علينا؟”.
صور احتجاجية ضد ترامب ونتنياهو
وفي سياق متصل، أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخراً سياسة ‘الضغط الأقصى’ ضد إيران، والتي تضمنت جهوداً لمنعها من امتلاك سلاح نووي وتشديد العقوبات عليها. وفي تصريح له يوم السبت، أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن رفع العقوبات عن إيران يتطلب مفاوضات قائمة على الاحترام المتبادل، وليس في ظل سياسة الضغوط القصوى.
وأشار عراقجي إلى أن ‘التفاوض من منطلق ضعف يعني الاستسلام، وهذا أمر ترفضه إيران بشكل قاطع’. وأضاف أن التجارب السابقة أظهرت أن الولايات المتحدة تخل بوعودها، مؤكداً أن طهران لن تسمح بتكرار مثل هذه التجارب. ونقلت وكالة ‘بلومبرغ’ الأميركية أن أولى العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب استهدفت ثلاث سفن تتعامل تجارياً مع الصين، لكنها لم تصل إلى مستوى حملة ‘الضغط الأقصى’ التي تعهدت بها الإدارة الأمريكية آنذاك.
وفي المدن الإيرانية الكبرى مثل شيراز، بندر عباس (جنوب)، رشت (شمال)، مشهد (شرق)، وكرمانشاه وسنندج (غرب)، امتلأت الشوارع بالمتظاهرين الذين رددوا شعارات تقليدية مثل ‘الموت لأمريكا’ و’الموت لـ(إسرائيل)’. وفي أجواء وطنية، رفع المشاركون أعلام إيران بألوانها الأخضر والأبيض والأحمر، إلى جانب رايات المقاومة في فلسطين ولبنان، وصور المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.
نشرت وسائل الإعلام الإيرانية صوراً ساخرة خلال المسيرات، أظهرت الرئيس ترامب ورئيس وزراء الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو مرتديين زي السجن داخل قفص معدني، بينما قام بعض المشاركين بتعليق دمية تمثل ترامب على مشنقة، في مشاهد رمزية تعكس رسائل الاحتجاج تجاه السياسة الأمريكية والصهيونية.
تمثل هذه الذكرى الوطنية إحياءً لسقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي، آخر حكام الملكية المطلقة في إيران، وذلك بعد عودة الإمام آية الله الخميني إلى البلاد في الأول من فيفري عام 1979. وكان الشاه قد غادر إيران في 16 جانفي من العام ذاته بعد أشهر طويلة من الاحتجاجات الشعبية التي أنهت حكمه المدعوم من الولايات المتحدة.
وفي سياق الاحتفالات، دعا العديد من المسؤولين الإيرانيين الشعب إلى المشاركة بأعداد كبيرة في المسيرات، والتي تأتي في وقت حساس مع استمرار سياسة ‘الضغوط القصوى’ التي انتهجها الرئيس الأمريكي خلال ولايته.
2500 عام من الملكية.. طيّ السجل
قبل 46 عاماً، انتهى حكم الشاه، ليطوي بذلك صفحة قرابة 2500 عام من الملكية المطلقة في إيران. بدأت إرهاصات الثورة منذ عام 1975، حيث لعبت الرسائل الصوتية المسجلة للإمام الخميني، التي أرسلها من منفاه الأول في العراق، ثم من منفاه الثاني في فرنسا، دوراً حاسماً في تأليب الشعب الإيراني على نظام الشاه.
وفي السابع من جانفي 1978، نشرت صحيفة ‘إطلاعات’ المؤيدة للشاه مقالاً بعنوان ‘إيران والاستعمار الأحمر والأسود’ تحت اسم مستعار، واعتُبر المقال إهانة للعلماء المسلمين، مما أثار غضب المعارضة. أعقب ذلك مظاهرات حاشدة في التاسع من جانفي بمدينة “قم”، التي تُعد معقلاً دينياً رئيسياً، حيث قُتل واعتُقل المئات من المحتجين على يد قوات النظام. كانت هذه الأحداث الشرارة الأولى للثورة التي امتدت لتشمل جميع أنحاء البلاد خلال الأشهر التسعة التالية.
مع تصاعد الغضب الشعبي وعجز الشاه عن استعادة السيطرة، أعلن في 16 جانفي 1979 تنحيه عن السلطة ومغادرته إيران متوجهًا إلى مصر. وفي الأول من فيفري، عاد الإمام آية الله الخميني إلى طهران على متن طائرة فرنسية، ليحظى باستقبال جماهيري حاشد من الشعب الإيراني. وبعد عشرة أيام فقط، وتحديدًا في 11 فيفري 1979، انهار نظام الشاه نهائيًا عقب القضاء على آخر جيوب المقاومة المسلحة التابعة له.
عشرة الفجر..
في مثل هذا اليوم من عام 1979 انتصرت الثورة الإسلامية وسُمِّيَت “عشرة الفجر” تفاؤلا بالآية القرآنية الكريمة: “وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ”، ذلك أنها استمرّت عشرة أيام، ابتدأت بعودة “آية الله روح الله الخميني” إلى العاصمة الإيرانية طهران في الأول من فيفري، بعد حوالي 15 سنة عاشها في المنفى متنقّلا بين تركيا ثم العراق في الأخير فرنسا، وانتهت بسقوط آخر حكومات “الشاه”.
في اليوم الأول من “عشرة الفجر” احتشد مئات الآلاف من الإيرانيين في المطار وعلى الطريق المؤدي إلى مقبرة “جنة الزهراء” (بهشت زهرا بالفارسية) في جنوب طهران، واستقبلوا الإمام “الخميني” الذي ألقى على مسامعهم أول محاضرة له بعد عودته من منفاه.
في اليوم الثاني من “عشرة الفجر”، تمّ تعليق العقود الكبيرة المُبرمة مع الدول الأجنبية، المتعلقة بالمصانع والطاقة النووية والتسلّح وغيرها من العقود.. وفي اليوم الثالث، أعلن الإمام “الخميني” عن إنشاء “المجلس الوطني الإسلامي”، في أول مؤتمر صحفي أقامه بعد عودته على بلاده. وفي اليوم الرابع، عبّر ضبّاطٌ في سلاح الجو عن تأييدهم للإمام “الخميني” من خلال إضرابهم عن الطعام، وقد تخلّف عشرون بالمائة من الجنود عن الالتحاق بثكناتهم.
وفي السادس من شهر فيفري، اختار الإمام “الخميني” أحدَ المعارضين الإسلاميين لنظام “الشاه”، وهو المهندس “مهدي بازركان” رئيسا للحكومة الانتقالية المنبثقة عن الثورة. وقد دعا أئمّة المساجد إلى مظاهرات شعبية عارمة شارك فيها ملايين الإيرانيين، وأعقبتها إضرابات في القطاع النفطي.
توالت الأحداث متسارعة في مختلف القطاعات الحيوية، لاسيما العسكرية، وانتهت ببيانٍ صدَر ليلا، وجاء فيه: الثورة قد انتصرت”، وهيئة الأركان وقوات الحرس الإمبراطوري ومختلف وحدات الجيش قد “انضمت إلى الحركة الشعبية”.
“عشرة الفجر” طوَت صفحات من تاريخ إيران تحت حكم “الشاه”، وفتحت صفحات أخرى في ظلال الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي راهنت على الشعب في بناء دولة قوية وعزيزة لا تعتمد على الغرب ولا تحتمي به. دولة تُعلي القضايا الإسلامية، لاسيما القضية الفلسطينية، وتدعم حركات التحرّر، وتواجه قوى الغرب الذي يؤرّقه أن يرى دولةً إسلامية تملك عناصر قوتها الذاتية، وتمتلك القدرة على التصنيع والإبداع التكنولوجي والمنافسة في ميادين العلوم المعاصرة.
إنّ الاحتفال بذكرى انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية هو تذكيرٌ للأمة الإسلامية بأن المراهنة على الشعب وعلى الطاقات والمقدرات الوطنية هو الخيار الأمثل لإحراز مكانةٍ بين أمم العالم لا يملك الغرب إلاّ أن يحترمها حتى وإن كان يُناصبها العداء بشكل مُعلنٍ وخفي.
والاحتفال تذكيرٌ أيضًا بأن الأوطان يُمكن أن تُجدّد ولادتها وتبعث روحها الحضارية وتمتلك قوة التّحدي عندما تجد الحكمة الراشدة والإرادة المُخلصة والرؤية الجليّة الواضحة المتحرّرة من الغبش الذي عمل ويعمل الغرب الأوروبي والأمريكي على زراعته في العيون “الإسلامية” حتى لا تُبصر قوتها ولا تستبصر حقيقتها الحضارية الضاربة في عُمق القرون.
من المُجدي أن نَسوق بعض أقوال قائد الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام “آية الله الخميني”، فقد قال: إنّ الاستعمار يريد منّا أن نقتصر في عملنا على الصلاة حتى لا ندخل معه في صراع سياسي.. إن الاستعمار يريد، ويقول لنا ذلك بكل صراحة: صل أيها المسلم ما شئت، إننا لا نريد منك إلا نفطك، أمّا ما تقنتُ به مِن صلاةٍ في مسجدك فلا يهمّنا في شيء، ولا نعارض فيه إطلاقا، إذ كل ما يهمّنا هي ثرواتك المعدنية وأسواقك لمنتوجاتنا واستثماراتنا”.
وقال أيضًا: “عندما تحقّق دولة صناعية إنجازًا جديدا في الميدان العلمي أو التقني، يحسّ الكثير منا بعجزهم ويرون أنّ قصورنا ذلك آتٍ من ديننا، وبالتالي ليس لنا من مخرج من ذلك الوضع إلا إلغاء الإسلام وشريعته، لنلحق بركب الأمم المتقدمة. وعندما نزلَت بعض الدول فوق القمر، تأكد أولئك الضِّعاف المُتردِّدون منا أنّ ديننا هو الذي منعنا من الوصول إلى القمر!”.
القضية الفلسطينية في قلب إيران
بمناسبة الذكرى السادسة والأربعين لانتصار الثورة الإسلامية، أصدر حزب الله بيانًا هنأ فيه قائد الثورة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، علي خامنئي، والرئيس بزشكيان، والشعب الإيراني، معربًا عن تمنياته بمزيد من النجاح والتقدم لإيران.
ورأى حزب الله أن الثورة الإسلامية غيّرت مسار الأحداث ووجه التاريخ، حيث أطاحت بنظام الطغيان والاستبداد، وأرست أسس دولة إسلامية قوية ومستقلة لا تخضع لهيمنة القوى العالمية، بل تعتمد على إرادة شعبها وقيمها الدينية والإنسانية.
وأشار البيان إلى أن هذه الثورة، بفضل قيادتها الحكيمة، استطاعت توجيه الشعب الإيراني نحو بناء دولة مقتدرة ونموذجية في مجالات الاستقلال السياسي، والتطور العلمي، والتقدم الصناعي. وأكد أن إيران تمكنت، رغم الحصار والعدوان والمؤامرات التي استهدفتها، من أن تصبح قوة إقليمية راسخة ومؤثرة في الساحة الدولية، مما جعلها ركيزة أساسية في معادلات المنطقة والعالم.
وشدد البيان على أن إيران، منذ نشأتها، كانت حاضنة للقضايا العادلة في المنطقة، حيث وقفت دائمًا إلى جانب الشعوب المستضعفة، وكانت الداعم الحقيقي لحركات المقاومة، لا سيما القضية الفلسطينية التي تتعرض لمحاولات التصفية والطمس من قبل قوى الاستكبار، خاصة في ظل الإدارة الأمريكية التي تسعى لفرض مشاريع تصفوية تزيل فلسطين من وعي الأمة ووجدانها.
كما نوّه البيان بالدور الأساسي الذي لعبته إيران في دعم حركات المقاومة، خصوصًا في لبنان، حيث وقفت إلى جانبها منذ انطلاقتها عام 1982، مقدمةً كافة أشكال الدعم الممكنة، مما مكنها من تحقيق انتصارات غيرت معادلات الصراع في المنطقة.
وفي ختام البيان، عبّر حزب الله عن تمنياته للجمهورية الإسلامية الإيرانية بمزيد من الاقتدار والتقدم والاستقرار، مؤكدًا أن المبادئ التي قامت عليها الثورة الإسلامية – وعلى رأسها رفض التبعية لقوى الاستكبار، ودعم تحرير فلسطين، وتعزيز الوحدة الإسلامية – تمثل الضمانة لمستقبل الأمة وازدهارها.
والسبت الماضي، استقبل مرش الثورة الإيراني آية الله خامنئي وفدا عن حركة المقاومة الإسلامية يضم كلا من رئيس المجلس القيادي لحركة حماس محمد إسماعيل درويش ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس في غزة خليل الحية، ورئيس المكتب السياسي للحركة في الضفة الغربية زاهر جبارين، والقياديين محمد نصر وعزت الرشق.
وقال خامنئي خلال اللقاء مع قادة “حماس”: “انتصرتم على الكيان الصهيوني وأميركا، ومنعتموهم من تحقيق أهدافهم بلطف من الله”، مضيفاً أن أهالي غزة تحوّلوا إلى “أسوة” لكلّ محبي المقاومة، مشيداً بفريق “حماس” المفاوض، قائلاً إن “الاتفاق يمثل إنجازاً عظيماً، واليوم من واجب جميع العالم الإسلامي، وداعمي المقاومة مساعدة سكان غزة لتخفيف آلامهم ومعاناتهم”.
كما أشاد المرشد الإيراني بالعمل الإعلامي والدعائي لحركة حماس، قائلاً إن “هذا الأداء كان ممتازاً ويجب أن يستمر”، ومؤكداً أن “مسألة الدفاع عن فلسطين وشعبها ليست محلّ تساؤل في أذهان الشعب الإيراني”، مشدداً على أن “القضية الفلسطينية أصبحت قضية أساسية لنا، وانتصار فلسطين موضوع حتمي وقطعي”.
من جهته أعرب رئيس مجلس شورى القيادة لحركة حماس محمد اسماعيل درويش، عن سعادته لزيارة طهران ولقائه والوفد المرافق مع المرشد الإيراني آية الله خامنئي، ورئيس الجمهورية مسعود بزشكيان وكذلك رئيس البرلمان، مهنئا بمناسبة عيدي انتصار الثورة الإسلامية في إيران والانتصار للمقاومة في غزة.