منذ نشأة المجموعة المالية الدولية، أو منظومة “بريتون وودز” العام 1944م، التي أوجدت صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وفقراء العالم يزدادون فقرا وأثرياؤه يزدادون ثراء، في معادلة مختلة الموازين لا يعرف مجاهيلها سوى الأقوياء مالا وجاها، وسطوة وسلطانا في العالم، وذلك ليتسنى لهم ابتزاز ضعفاء الأرض مرتين، عندما يقومون باستنزاف ثرواتهم الطبيعية بأبخس الأثمان.. وعندما يستنزفون “جيوبهم” تحت طائل برامج تنموية فاشلة، ثم يقرضونهم لتمويل الاستثمارات وإعادة التمويل، ثم هيكلة الاقتصاد وإعادة الهيكلة، ثم جدولة الديون وإعادة الجدولة.. في دوامة جهنمية تنتهي عادة بتجريد الدول من سيادتها، وتحويلها إلى مجرد “كانتونات” وظيفية ليس إلا.
فإذا كان الفقر يقصم ظهور الرجال غلبة وإذلالا، فإن الديون الخارجية تقصم كاهل الأمم هيمنة واحتلالا، فتتملك القوى الخارجية حاضرها، وترتهن مستقبلها، وتهدد كيانها، وهنا يقول حكماء المال والأعمال: الدين خُدعة مميتة. ولذلك لم تعد عملية إخضاع الشعوب بحاجة إلى تعبئة الجند وتوفير الوسائل العسكرية، ولا إلى تجهيز الآليات الحربية وإعداد العدة والعدد.. وإنما تحتاج فقط إلى استدراج هذه الأوطان إلى “مستنقع” الاستدانة الذي ليس له قرار.. فالديون تقوم بتأدية مهمة الإخضاع بكل جدارة واقتدار.
يُحكى عن عائلة كبيرة كانت تعيش في بيت واسع فسيح، كثر عدد أفرادها، ولم يعد في وسع رب البيت تلبية حاجياتها المتزايدة، فاضطر إلى الإنفاق من الأموال المدخرة.. ويوما بعد يوم، تزداد الحاجة فيزداد الإنفاق، ورصيد المدخرات يضمحل ويتناقص، إلى أن أشرف على النهاية والفناء.. وهنا، لم يجد رب البيت من حيلة لتوفير دخل إضافي، إلا اللجوء إلى تأجير مرآب المنزل مقابل عائد إضافي، لكن هذا لم يلبث أن أصبح لا يفي بالحاجة.. فعرض عليه مستأجر المرآب بأن يستأجره غرفة داخل البيت مقابل أجرة أخرى.. وأمام الحاجة الملحة المتزايدة، لم يجد رب البيت سوى الإذعان وقبول العرض.. رغم ذلك، لم يتمكن من سد ثغرة الإنفاق المتسعة.. فعاد وعرض عليه مستأجر المرآب استئجار غرفة ثانية لزوج أخته.. وثالثة لابن خاله.. ورابعة وخامسة.. كثر المستأجرون وتضاعف عددهم، حتى تجاوزوا عدد أفراد العائلة.. وجرى المال في يد الأسرة وكثر، وكثرت معه أبواب الإنفاق، لكن عوض أن تستثمره في مشاريع ربحية نفعية، ظلت تنفقه على مستهلَكَاتها اليومية الكمالية غير الضرورية، ومن دون القيام بتوفير دينار واحد.. عاشت الأسرة أيام رخاء وسعة، إلى أن بدأت الأعطاب تظهر في البيت، وبدأ معها ضجر المستأجرين يتصاعد؛ فمرة جراء تسرب المياه، ومرة من قلتها.. مرة جراء قنوات الصرف، ومرة من انسدادها.. مرة من عطل في شبكة الكهرباء، ومرة من انقطاعها.. وهكذا، إلى أن أجبروا العائلة على الاستدانة منهم للإصلاح والترميم، مقابل سعر فائدة تراكمي زهيد؛ فاقترضت منهم لإصلاح التسربات.. ثم اقترضت لإصلاح شبكة الصرف.. ثم اقترضت لإصلاح شبكة الكهرباء.. ثم اقترضت منهم لترميم ممرات الحديقة وتجديد السياج وتحسين الصباغة ووو.. إلخ.. والقرض يكبر والفوائد تتراكم.
حل موعد التسديد فحل معه جحيم الأقساط.. الأول والثاني والثالث والرابع وو… إلى أن عجزت عن تسديد أول عاشر الأقساط، وهنا وجدت نفسها مجبرة على السماح لغرباء جدد بدخول البيت واستئجار غرفه.. ثم سمحت للنزلاء بالاستمتاع بالحديقة ومحيط البيت.. ثم تركت لهم البيت كله وسكنت فوق السطوح.. ثم لم تجد بُدًّا من أن يشتغل أفرادها في خدمة هؤلاء الغرباء؛ فالأم للطهي.. والبنت للتنظيف.. والعم للحديقة.. والولد الأكبر للأحمال.. والأب للحراسة.. والعمة للتسوق… فأصبحوا خدماً للغرباء، بعدما كانوا هم سادة البيت والمكان.. كل ذلك ليتمكنوا من تسديد الديون المتراكمة، حتى لا يسلبهم النزلاء العابرون منزلهم.
ضاق الابن الأكبر ذرعا بهذا الوضع البائس، فصرخ متذمرا: إن هذا البيت لم يعد بيتنا، فقد أصبحنا غرباء فيه..
انتفض الأب غضبانا أسفا لما سمع من ولده، وأسرع إلى فتح صندوقه الحديدي السري، وأخرج منه ورقة قديمة، وراح يصرخ بدوره؛ البيت بيتنا ونحن أهله وورثته أبا عن جد.. ولا أحد يمكنه سلبنا حق الآباء والأجداد.
رد الابن بغضب زائد: ما دمت تتمتع بكل هذه الأوراق وتدّعي أنك المالك وصاحب البيت، فلماذا فتحت الأبواب والحجرات للغرباء حتى استعمرونا بأموالهم، فأصبحنا نحن الغرباء وهم أرباب البيت والوطن؟
هكذا تُسْلب الأوطان من أبنائها، وتجرّد من هيبتها، وتسلخ من كرامتها، وتسحب من سيادتها، وتسحل من كبريائها.. ولذلك، لا يمكن الحديث عن السيادة والقيادة إلا إذا كان الوطن في منأى عن الهيمنة الاستعمارية الجديدة، التي تجعل من الأموال والديون مطيتها لاختطاف الأوطان وسرقة الأحلام واستعباد الشعوب.