سيبقى الثامن ماي لعنة تلاحق المجرمين حتى في قبورهم، فقد جمعت فيه فرنسا “خصالا” فظيعة، أقلها شأنا خيانة الضمير الإنساني، وأعلاها درجة زرع الموت وسحق الحياة، وما بينهما كان الغدر والصلف والإجرام والطغيان، لا لشيء إلا لأن الجزائريين كانوا قد خرجوا متظاهرين، فرحة بانتهاء الحرب وعودة بقايا أبنائهم من جبهة الموت، من جهة، ومن جهة أخرى، أملا في أن تتحقق الوعود الاستعمارية بمنح الجزائر الحرية والاستقلال.
لكنّ الذي حدث، هو أنه وفي اليوم الموعود، رفع الشباب شعارات الحرية والسلام، إلى جانب العلم الوطني الذي رفرف لأول مرة، بشكله الحالي، فوق رؤوس المتظاهرين وعلى مرأى من أعين المستعمرين، وقد لوّح به الكشاف الرمز، «بوزيد سعال» الذي سقط جرّاء ذلك شهيدا، محررا جحافل الشعب من ربقة الخوف والتردد، لتنفجر الانتفاضة وتنتشر مثل النار في الهشيم، معلنة عن تمرد عارم ضد الاستعمار، عبر المداشر والقرى المجاورة لمدينة سطيف، عين عباسة، عين أرنات، عين الكبيرة، عموشة، تيزي نبشار إلى خراطة ثم العلمة وبني عزيز، فعين أزال وعين ولمان.
إلى بقية مدن الجزائر وحواضرها، في حراك شامل بتصعيدات متفاوتة من منطقة إلى أخرى، انصدم لها الكيان الاستعماري البغيض والذي كان قد ظنّ، لزمن غير يسير، بأن الجزائر قد خلت له يعبث فيها كيف يشاء، ولذلك جاءت ردة فعل أجهزته الأمنية والعسكرية همجية ووحشية، فهو مثل جبان جريح لا يلوي على شيء إلا وفتك به صلفا وعدوانا، انتقاما “لكبريائه” المنكسر مرتين: مرة أمام الجيوش الألمانية التي لم تأخذ أكثر من أسبوع لاحتلال فرنسا، وأما الثانية، فهذا التمرّد الصادم الذي لم يكن في الحسبان، والذي أبان عن مستوى رفيع من الوعي السياسي، الكامن لدى “الأهالي” وهم يطالبون بالحرية والاستقلال، ليس في مدينة سطيف وكبريات المدن فقط، وإنما في القرى والمداشر والجبال وفي كل مكان من ربوع البلد الجريح.
كان القمع بمنتهى الوحشية التي يعجز العقل عن تخيلها، زرعا للرعب وكسرا لشوكة المد الوطني الذي أخذ منحنى تصاعديا، صار يقضّ مضاجع السلطات الاستعمارية، يقول الراحل «فرحات عباس» في كتابه «ليل الاستعمار»: كانت الاضطرابات دامية بعمالة قسنطينة خاصة، وقد سقط فيها من الأوربيين (102) مقابل عشرات الآلاف من الضحايا الجزائريين، اندلعت الجرائم بأمر من الجنرال «دوفال» والعقيد «بودريلا»، حيث داهم «اللفيف الأجنبي» والرماة السنغاليون و «الفيلق المغربي» القرى والمداشر، ولم تنج من فظائعهم لا النساء ولا الأطفال، كما قام المستوطنون المدعومون بالشرطة والجيش بارتكاب مجازر لا يمكن وصفها، مجازر لا تليق بالعالم المتحضر الذي يدعونه.
وقد دفع الشباب من إطارات “أحباب البيان والحرية” ضريبة ثقيلة، بعد أن صبّ المستوطنون المنتظمون في عدد من الميلشيات جام حقدهم على سطيف والعين الكبيرة وخراطة ووادي المرسى وقالمة وعنابة، حيث أعدموا الآلاف من الشباب، بعد أن أذاقوهم أبشع أشكال التعذيب، فقد عادت مطاردة العربي مثلما كانت في عهد المجرمين الأوائل من أمثال «روفيغو» و «سانت آرنو»، وأصبحت ميليشيات المستوطنين تنتحل حق المحاكمة والإعدام، وظلت كل هذه التجاوزات من دون عقاب، بعد أن رفضت الحكومة القائمة حينذاك ـ حكومة الجنرال دوغول ـ أن يُطبق العدل والقانون على رعاياها، كما جاء في تقرير الجنرال «توبار».
وبعدما قامت الحكومة الفرنسية باستعمال كل وسائل القمع والتقتيل الجماعي، بما فيها القوات البرية والجوية والبحرية، كانت النتيجة، قتل أكثر من 45.000 جزائري، أولهم كان الكشاف القائد: سعال بوزيد، إلا أن بعض الهيئات والصحف العالمية كانت قد قدرت الرقم ما بين: 50000 إلى 70000 قتيل، كجريمة حرب ضد الإنسانية، موثقة وقائمة الأركان، حيث لا تزال فرنسا ترفض الاعتراف تهربا من المسؤولية الأخلاقية والمادية التي يمكن أن تترتب على ذلك.
«ليستراد كاربونال» عامل قسنطينة آنذاك، يقول لمسؤوليه في باريس، “إننا بهذه العملية، نكون قد ضمنا لفرنسا عشر سنين من الهدوء والاستقرار، وأما بعد ذلك فلا أضمن شيئا..”، في إشارة واضحة إلى حجم العملية الإجرامية التي تم من خلالها سحق عدد رهيب من المناضلين الوطنيين، وتداعيات ذلك على المديين القريب والمتوسط.
لكن الاستعمار، وكما وصفه الجنرال «جياب» بأنه “تلميذ غبي لا يفهم إلا بالتكرار”، لم يكن يعي بأن نار التمرد التي التهبت في هذا اليوم التاريخي، كان قد أوقدها الأمير «خالد» أبو الأمة، ونفخ فيها من صدورهم المليئة حبا للوطن وحقدا على الاستعمار، زعماء الوطنية، واحتطب لها الشيخ «ابن باديس» أبو الإصلاح والتربية، وجمعية العلماء وبقية التيارات الوطنية التي ساهم كل منها بما تيسر له من كفاح ونضال بما قل أو كثر.
إذا، كان شهر ماي، أو أيار، أو مايو، شهرا مباركا قد شهد ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة الشيخ «عبد الحميد بن باديس»، المصلح الثائر الذي صدح بملء فيه في وجه الطغاة والبغاة ودعاة المزج والإدماج:
شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب
كالبرق تلألأ وجه الشيخ الجليل يشق جلابيب الدجى والظلام، وكالرعد كان صوته مدويا تزلزلت على إثره بروج الوهم والبهتان، أو هكذا شاء القدر أن يكون ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ذات ماي من عام واحد وثلاثين تسعمائة وألف، أي، بعد مائة سنة من الظلم والصلف والفجور الفرنسي القذر، وسيتضح أن هذه الجمعية سيكون لتأسيسها الأثر البالغ في إنارة العقول وإثارة القلوب وشحذ الهمم، على درب الإصلاح الديني والاجتماعي، فكانت بحق بمثابة شوكة دامية في حلق الاستدمار الخبيث.
يقول الشيخ الهمام: “فنحن لا نهاجر، نحن حرّاس الإسلام والعربيّة والقوميّة، بجميع مدعماتها في هذا الوطن..”، وذلك في سياق رده على بعض دعاة الهجرة من البلد بدعوى الفرار بالدين من ربقة الكفر وطغيان الاستعمار، ثمّ أردف: “إنّ هذه الأمّة الجزائرية الإسلاميّة ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت”، ليقطع بذلك دابر الشك باليقين، لدعاة الإدماج والاندماج ضمن المنظومة الكولونيالية الإستلابية الماكرة.
اشتدّ عود الجمعية وذاع صيتها وبان للاستعمار “خطرها”، وفي الوقت ذاته كانت عائلة «بن باديس» تمر بأصعب أيامها، حيث أثقلت الديون كاهل الوالد وأشرفت العائلة على الإفلاس، فاستغل الاستعمار تلك الظروف من أجل المساومة والابتزاز، فكتب الشيخ رده إلى الوزير المكلف بشؤون الأهالي «ميرانت»: “اقتُل أَسِيرَك يا ميرانت، أمّا أنا فمانع جاري (الجمعيّة)، اقتل «مصطفى بن باديس» واقتل معه ابنَه عبد الحميد، واقضِ على أسرة «ابن باديس» إنْ مَنَحَك الله هذه القدرة، ولكنّك لن تصل أبدا إلى قتل «جمعيّة العلماء» بيدي، لأنّ «جمعيّة العلماء» ليست جمعيّة «عبد الحميد بن باديس»، وإنمّا هي جمعيّة الأمّة الجزائريّة المسلمة، وما أنا إلاّ واحد فيها، أتصرّف باسمها واسم الأمّة كلّها، ومُحَالٌ أن أتصرّف تصرّفا أو أن أقف موقفا يكون فيه قتل (الجمعيّة 9 على يدي، أقول هذا وحسبي الله ونعم الوكيل..”.
كان الشيخ يدري ما يفعل ويعي ما يقول، فعلى أيدي تلك الأجيال التي صنعتها الجمعية وبثت فيها روح النصر والتحدي، كانت انتفاضة الثامن ماي، ثم كان بعدها الانفجار العظيم، ثورة التحرير العظمى التي حررت البلاد وخلصت العباد وطهرت الأرض من أقدام السوء والسواد.