ليست كاتالونيا فحسب من راودتها فكرة الانفصال أو الاستقلال في أوروبا، بل هناك مناطق أوروبية عديدة تسعى لهذا بدرجات متفاوتة ولأسباب مختلفة، ولعلّ أبرزها جزيرة “كورسيكا” التي احتلتها فرنسا مع نهاية القرن الثامن عشر، وضمتها رسميا إلى ممتلكاتها بعد انتصارها على المقاومين في معركة بونتي نوفو 1769.
تقع كورسيكا، رابع أكبر جزيرة في البحر المتوسط بعد صقلية وسردينيا وقبرص، على بعد 170 كم من جنوب فرنسا، وتبلغ مساحتها 8680 كيلومترا مربعا، وتكوّن الجبال ثلثيها، وتسكنها جماعية إقليمية ذات طابع ووضع خاص.
وعاصمة الجزيرة هي مدينة أجاسيو، وهي أكبر مدنها وتقع في الجانب الغربي منها، وفيها الكثير من الأماكن التاريخية والأثرية والمتاحف والمحميات الطبيعية.
ويطالب سكان كورسيكا القوميون بالاعتراف بلغتهم كلغة رسمية ومنحهم وضعا ضريبيا واجتماعيا خاصا، وتقريب السجناء الكورسيكيين من أسرهم والسماح بزيارتهم، لكن كل رؤساء فرنسا يرفضون ذلك.
ظهرت في كورسيكا حركة قومية نشطة منذ الستينات تدعو لمزيد من الحكم الذاتي لكورسيكا، إن لم يكن الاستقلال التام.
وشهدت كورسيكا، البالغ عدد سكانها 339,178 نسمة، على مدى عقود، أعمال عنف تمثلت بأكثر من 4500 هجوم تبناه ناشطو جبهة التحرير الوطنية لكورسيكا FLNC، قبل عودة الهدوء إلى الجزيرة في 2014 مع قرارهم بوقف القتال.
وبلغت أعمال العنف ذروتها إثر اغتيال كلاود إريجانك، الممثل الأعلى للحكومة الفرنسية في الجزيرة، في أجاكسيو، مركز الإقليم عام 1998، وأدين القومي الكورسيكي، إيفان كولونا، بارتكاب الجريمة، ويقضي حاليًّا عقوبة السجن مدى الحياة في تولون بجنوب فرنسا، قبل أن توقف جبهة كورسيكا العمل السري والاعتداءات في 2014.
وتولى القوميون الحكم في جزيرة كورسيكا على إثر تحقيقهم فوزًا كبيرًا في الانتخابات المحلية، يونيو 2021، محكمين بذلك سيطرتهم على الجزيرة المتوسطية، وكان التنصيب رسميًّا بعد التحالف بين زعيم الاستقلاليين، جان جي تالاموني، وزعيم القوميين، جيل سيميوني.
وبعد فوز تحالفهما في الانتخابات المحلية بنتيجة تاريخية بلغت 57.7% من الأصوات، أصبح التحالف يشغل 41 من أصل 63 مقعدًا يضمها البرلمان المحلي ومقره أجاكسيو، وانتخب تالاموني رئيسًا للبرلمان المحلي بفوزه بـ40 صوتًا من أصل 63، وأهدى فوزه “إلى سجنائنا ومفقودينا”، في خطاب ألقاه كاملًا باللغة الكورسيكية، انتخب البرلمان أشبه بحكومة مصغرة مؤلفة من 11 عضوًا ترأسها سيميوني.
وحاربت كل الحكومات الفرنسية، المطالب الاستقلالية لجزيرة كورسيكا التي تحتلها منذ 1768، بحجة أن باريس ترى في استقلال الأخيرة إهانة للدولة الفرنسية، وذلك وفقا لما قاله رئيس الحكومة السابق اليميني، فرانسوا فيون، إنه “حتى لو حظي هؤلاء بالغالبية، لكن ذلك لا يعطيهم الحق بعدم الامتثال للقانون، وإطلاق إهانات بحق فرنسا”، واعتبر مانويل فالس اليساري أنه “توجد خطوط حمراء لا يمكن تخطيها” وأن الجزيرة “جزء من فرنسا” مشددًا على معارضته للعفو عن السجناء السياسيين، قائلاً: “لا يوجد سجناء سياسيون”.
وبتجدد الاحتجاجات في جزيرة كورسيكا، أصبح الأمر صعبا على فرنسا كي تتجاهل التاريخ، حيث كانت الجزيرة تتبع بابا روما حتى اجتاحها الفرنسيون في العام 1769، وهي رابع أكبر جزيرة في البحر المتوسط، بل وهي الأقرب إلى غرب إيطاليا من جنوب فرنسا، ولذلك فإن النزعة الانفصالية ستجرّ فرنسا يوما ما إلى أزمة حدودية وتقسيمات تاريخية، ما يثير هواجس القلق لدى الحكومة الفرنسية في ظل الأجواء الراهنة من توترات وطوفان المهاجرين..