في ظل التطورات الاقتصادية الدولية ومع تسارع وتيرة إنشاء تكتّلات إقليمية في مختلف أنحاء العالم، برزت حَاجةُ العرب المُلحّة لتجسيد مشروع التكامل الاقتصادي العربي، وذلك لكونه الوسيلة الأنجع التي من شأنها مساعدة هذه الدول على مواجهة تحديّات جديدة هي أكبر بكثير من أن تتحمّلها كل دولة على حدا.
وفي هذا الشأن، جَدَّد “إعلانُ الجزائر” المنبثق عن القمّة العربية في دورتها الـ31، الالتزام بمضاعفة الجُهود، لتجسيد مشروع التَكامل الاقتصادي العربي، وفقَ رُؤية شاملة تَكفل الاستغلال الأمثل لمُقوّمات الاقتصادات العربية وللفرص الثمينة التي تُتيحها، بهدف التفعيل الكامل لمنطقة التّجارة الحُرَّة العربية الكُبرى وتمهيداً لإقامة الاتحاد الجمركي العربي، فضلاً عن تعزيز القدرات العربية للتعامل بإيجابية مع تحديّات الأمن الغذائي والصحي والطاقي ومواجهة التغير المناخي، بالنظر إلى أن الوطن العربي يتوفّر على جميع مُقوّمات التكامل الاقتصادي، ما يجعل هذا التكامل ليس مُمكناً فحسب، بل متميزاً عن سواه من تجارب الدُول الأخرى وذا خصوصية، وفق خُبراء ومُختصّين في الاقتصاد.
تفعيل الآليات الموجودة واستحداث أخرى جديدة
وقال المستشار في مجال التنمية الاقتصادية، «عبد الرحمان هادف»: “إن التحديّات العَمليّة هي من بين أبرز التحديّات التي تواجه تجسيد مشروع التكامل الاقتصادي العربي، حيث لا بدّ أولاً من تفعيل الآليات الموجودة واستحداث أخرى جديدة، تسمح بترجمة هذا التوجّه الجديد القديم على أرض الواقع”، وأوضح هادف في تصريح لـ«الأيام نيوز»: “أن منطقة التبادل الحر العربية الكبرى، هي من بين الآليات المُتاحة، ولكن هي بحاجة إلى إعادة تقييم ومراجعة، لإعطائها بُعدًا جديدًا يسمح بتحقيق التكامل الاقتصادي المنشود، ودفع التعاون البيني والرفع من حجم المبادلات الاقتصادية بين دول عالمنا العربي”.
وفي هذا الإطار، أشار الخبير الاقتصادي، إلى ضرورة إيلاء أهمية بالغة لمجال الاستثمارات البينية حسب خصوصيات الدول العربية، إضافة إلى وضع منظومة جديدة تسمح بخلق سلسلة قِيّم اقتصادية عربية، تشمل كل ما له علاقة بالنشاطات الاقتصادية (إنتاج، لوجستيك، نقل، تسويق، توزيع.. الخ).
إعادة النظر في الشق القانوني
وتابع: “إن الشق القانوني كذلك، يحتاج إلى إعادة نظر من أجل استحداث أُطر قانونية مرنة، تسمح بمرافقة هذا التوجه، مع الأخذ بعين الاعتبار، ضرورة بعث نشاط الاتحاد الجمركي العربي الذي سيسمح أولاً بحماية السوق العربية، وكذا تسهيل المبادلات البينية من خلال وضع منظومة تتولى تسيير كل ما يتعلق بالتعريف الجمركي وقواعد المنشأ، بالإضافة إلى كل ما له علاقة بتقاسم مصاريف وأرباح التحصيل الجمركي، فكل هذه الأمور يجب أن تتمّ وفق آليات عَملية ملموسة”.
وأضاف: إن “المنظومة المالية هي كذلك بحاجة إلى إعادة تفعيل بطريقة محفّزة لمشروع التكامل الاقتصادي، من خلال صندوق النقد العربي، البنك العربي للتنمية، أو من خلال البنوك التجارية المختلفة الموجودة في المنطقة العربية، إذ ينبغي أن يكون لهذه الهيئات دورها الفعّال في مرافقة المشاريع الاستثمارية والتنموية، خاصةً تلك المرتبطة بالمجالات والقطاعات الحيوية ذات الأولوية على غرار الأمن الغذائي والطاقوي”.
هذا، وأشار الخبير المُتخَصّص في الاقتصاد، إلى أنه: “لابدّ من تكثيف الجهود الرامية إلى ترقية قطاع الفلاحة، من أجل المساهمة في الرفع من قدراتنا الإنتاجية من خلال تثمين الثروات التي يزخر بها وطننا العربي، وذلك بالاعتماد على التكنولوجيات الحديثة وإدراج الوسائل التي تسمح بعصرنة القطاع، بهدف الرفع من مردودية الإنتاج، وخلق نوع من التنافسية في السوق العربية”.
وفي ختام حديثه لـ«الأيام نيوز»، أكد عبد الرحمان هادف، على ضرورة مواصلة العمل في إطار هذه الديناميكية التي فرضتها قمّة الجزائر، والتوجه بخُطى ثابتة نحو مرحلة جديدة، قائلاً: “إننا نعتقد اليوم أن الأوان قد حان حتى نُؤسس لما يُسمَّى بـ«الاقتصاد العربي» كهيئة أُفقية ذات سلطة تنفيذية مُلزمة لكل الدُوّل العربية، تعمل على التخطيط وهندسة المشاريع، وكذا السهر على تجسيدها ومرافقتها ومراقبتها، من أجل جعل هذا التكامل الاقتصادي العربي حقيقةً وواقعًا مُعاشًا بعيدًا عن خطابات المحافل”.
موارد ومقوّمات هائلة
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي الدكتور «أحمد الحيدوسي»: “إن مقوّمات ومحفزّات تحقيق التكامل العربي موجودة بمنطقتنا العربية، سواءً تلك المرتبطة بالجانب الثقافي على غرار الدّين، اللغة، وحتى العادات والتقاليد تكادُ تكون واحدة، إضافةً إلى عامل الجغرافيا، بحكم أن المنطقة العربية تَجمعها كُتلة واحدة على غرار العديد من التكتلات الموجودة في العالم كنموذج الاتحاد الأوروبي”.
وفي هذا الشأن، أوضح الحيدوسي في تصريح لـ«الأيام نيوز»: “أن الموقع الجغرافي للدوّل العربية والتَّراس الجغرافي الذي يجمعها، عامل مهم جدًّا من الناحية الاقتصادية، خاصةً وأن هذه الدوّل تزخر بموارد وثروات طبيعية هائلة، حيث تتربع على مساحة جغرافية تقارب الـ14 مليون كيلومتر مربع، إضافةً إلى أنها تستحوذ على حوالي 70 بالمائة من احتياطات النفط العالمية”.
وتابع: “إن الدوّل العربية كذلك، هي من بين أكبر مالكي مادة الفوسفات على مستوى العالم، فضلاً عن ذلك، السوق العربية تُعتبر سوقًا ضخمة من حيث الكُتلة البشرية التي تُقدر بنحو 430 مليون نسمة”، وأضاف الخبير المُتخصّص في الاقتصاد: “أن كل هذه المقوّمات والعوامل سَتُسهم في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي المنشود، فمجموع الناتج المحلي للدول العربية يساوي ما قيمته 2.9 ترليون دولار، الأمر الذي سيضعها في مصاف الاقتصادات الكبرى، مُحتلة بذلك المرتبة الثامنة عالميا في قائمة أقوى اقتصادات العالم”.
وفي ختام حديثه لـ«الأيام نيوز»، جدّد الدكتور الحيدوسي تأكيده: “أن كل المقوّمات موجودة لإقامة تكتل اقتصادي عربي حقيقي قادر على منافسة أقوى اقتصادات العالم، وكل ذلك يتحقق بوُجود إرادة سياسية حقيقية أولا وقبل كل شيء”.
جدير بالذكر، أنه منذ بدء مسار العمل العربي الاقتصادي المشترك ضمن جامعة الدول العربية في الخمسينيات من القرن الماضي، تم إبرام جملة من الاتفاقيات كاتفاقية تسهيل التبادل التجاري في 1953، واتفاقية إنشاء مجلس الوحدة الاقتصادية العربية (1957) وكذا إنشاء السوق العربية المشتركة عام 1964، التي كانت حينها محصورة في أربعة دول فقط (الأردن، مصر، العراق وسوريا).
وكان الشعور بعدم تحقيق تقدم ملموس نحو الاندماج الاقتصادي بعد نحو ثلاثة عقود من إطلاق العمل الاقتصادي العربي المشترك حافزا قويا لتكريس القمة الاقتصادية المنعقدة في عمان في 1980 والتي تم خلالها المصادقة على استراتيجية العمل الاقتصادي العربي والاتفاقية الموحدة لاستثمار الأموال العربية داخل الدول العربية، كما كانت محاولات أخرى، من أجل تجسيد الاندماج من خلال مؤسسات كصندوق النقد العربي وصندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي ومنظمة التنمية الزراعية وخاصة مشروع منطقة التبادل الحر العربية، الذي تم تبنيه سنة 1997.
هذا، ويُعد الوطن العربي من أغنى مناطق العالم في احتياطي البترول الخام، إذ تشكّل حصة الدول العربية من إجمالي الاحتياطي العالمي المؤكد 55.7 في المائة، وتشكّل حصته 26.5 في المائة من إجمالي الاحتياطي المؤكد من الغاز الطبيعي عام 2020.
كما بلغت مساحة الأراضي القابلة للزراعة في الدول العربية نحو 197 مليون هكتار، ويشكّل إجمالي مساحة المراعي الطبيعية نحو 375.9 مليون هكتار، بينما قدرت مساحة الغابات بنحو 37.4 مليون هكتار، ويعد الوطن العربي سوقاً واسعة قوامها 361 مليون نسمة، وهي سوق مؤهلة لتحقيق التكامل الاقتصادي، وناتج محلي إجمالي للدول العربية بلغ 2.43 تريليون دولار أمريكي عام 2020، حسب التقرير الاقتصادي العربي الموحد، الصادر خلال 2021.