تشهد الجزائر تحولًا جذريًا في قطاع المياه، معتمدة على مشاريع تحلية مياه البحر كركيزة أساسية لتحقيق الأمن المائي ومواجهة التغيرات المناخية. فبفضل التوجيهات الاستراتيجية لرئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، وضعت الدولة خطة طموحة تهدف إلى تعزيز قدرات إنتاج المياه عبر إنشاء محطات التحلية، في إطار رؤية تنموية شاملة تسعى إلى ضمان الاستقلالية التكنولوجية وتعزيز الصناعة المحلية.
وفي هذا الإطار، أكد رئيس الجمهورية خلال تدشينه أمس لمحطة تحلية مياه البحر “كاب جنات 2” بولاية بومرداس، أن إنجاز هذه المشاريع يمثل “تأسيسًا لمدرسة جزائرية في إنجاز المشاريع الكبرى”، مشيرًا إلى أن الدراسات والتنفيذ تمّت بسواعد جزائرية خالصة، وهو ما يعكس قدرة البلاد على تحقيق مشاريع كبرى دون الحاجة إلى الاعتماد على الخبرات الأجنبية.
وأضاف الرئيس تبون أن هذه الإنجازات تُعدّ خطوة مهمة نحو تحقيق الأمن المائي الوطني، خاصة في ظل التغيرات المناخية وشح الأمطار، مما دفع الدولة إلى تبني سياسة استباقية قائمة على توفير بدائل مستدامة لموارد المياه التقليدية. كما نوّه إلى أن مشاريع التحلية تأتي لتعويض النقص الحاصل في الموارد المائية الجوفية، وضمان وصول المياه إلى كافة المناطق، بما في ذلك الولايات التي تأثرت بفترات الجفاف والتوسع العمراني السريع.
تحقيق الاستقلالية التكنولوجية في قطاع تحلية المياه
من جهته، أوضح وزير الدولة، وزير الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة، محمد عرقاب، أن الجزائر تعمل على تحقيق السيادة المائية من خلال تبني تقنيات متطورة في مجال تحلية المياه، حيث تسعى إلى توطين صناعة مكونات محطات التحلية محليًا، وعلى رأسها أغشية التناضح العكسي، والتي تُعدّ عنصرًا أساسيًا في عملية التحلية.
وأشار الوزير إلى أن الجزائر دخلت في شراكات استراتيجية مع كبرى الشركات العالمية، مثل “بورت إينيرجي لوجيستيك” الألمانية، لتوطين إنتاج هذه الأغشية داخل البلاد، وهو ما سيمكن الجزائر من تحقيق الاستقلالية التكنولوجية والصناعية في هذا المجال الاستراتيجي.
كما أكد أن التوجه نحو استخدام الطاقات المتجددة في تشغيل محطات التحلية، يعدّ خطوة إضافية نحو تحقيق الاستدامة البيئية، حيث تخطط الجزائر للاعتماد على الطاقة الشمسية بنسبة 30% لتشغيل هذه المحطات، مما يقلل من تكاليف الإنتاج والانبعاثات الكربونية، ويساهم في التحول إلى الاقتصاد الأخضر.
إنجاز محطات التحلية بقدرات وطنية
شهدت الجزائر طفرة غير مسبوقة في إنجاز محطات تحلية مياه البحر، حيث ارتفع عدد المحطات إلى 19 محطة، مما رفع القدرة الإنتاجية الوطنية من 2.2 مليون متر مكعب إلى 3.7 مليون متر مكعب يوميًا، وهو ما يمثل 42% من إجمالي الطلب الوطني على الماء الشروب.
وأوضح وزير الطاقة أن تنفيذ هذه المشاريع تمّ بكفاءات جزائرية خالصة، حيث تولّت شركات وطنية كبرى عمليات الإنجاز، من بينها: شركة الهندسة المدنية والبناء “جي سي بي” التي أنجزت محطة الرأس الأبيض بوهران. المؤسسة الوطنية للأشغال البترولية الكبرى التي تكفلت بمشروع محطة كاب جنات ببومرداس. شركة “كوسيدار” عبر فرعها “كوسيدار قنوات” التي أنجزت محطة فوكة 2 بتيبازة. الشركة الوطنية للقنوات التي أشرفت على محطة تيغرمت توجة ببجاية. الشركة الجزائرية لإنجاز المشاريع الصناعية “ساربي” (فرع سوناطراك) التي أنجزت محطة “كدية الدراوش” بالطارف.
تحلية المياه كجزء من الاقتصاد الأخضر
إلى جانب توفير المياه، تسعى الجزائر إلى استغلال المحلول الملحي الناتج عن عملية التحلية في الصناعات التعدينية، مثل استخراج الليثيوم المستخدم في بطاريات السيارات الكهربائية، مما يعزز موقعها في السوق العالمية للمعادن النادرة.
كما تعمل الدولة على دمج تحلية المياه في استراتيجيتها لإنتاج الهيدروجين الأخضر، وهو أحد الحلول المستقبلية للتحول الطاقوي، حيث يمكن استغلال المياه المحلاة في إنتاج هذا المصدر النظيف للطاقة، مما يساهم في تعزيز مكانة الجزائر كفاعل رئيسي في مجال الطاقات المتجددة.
نحو مستقبل مائي مستدام
تمثل مشاريع تحلية مياه البحر نموذجًا ناجحًا لقدرة الجزائر على مواجهة التحديات المائية والبيئية بطرق مبتكرة ومستدامة، كما تعكس هذه الاستراتيجية رؤية واضحة لتحقيق الاكتفاء المائي وضمان استدامة الموارد للأجيال القادمة.
وبفضل هذه الخطوات المتسارعة، باتت الجزائر إحدى الدول الرائدة عالميًا في مجال تحلية المياه، حيث استطاعت في ظرف قياسي بناء منظومة متكاملة تضمن الأمن المائي، وتعزز السيادة الوطنية في هذا القطاع الاستراتيجي، مما يؤكد أن البلاد تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق تنمية مستدامة قائمة على التكنولوجيا الحديثة والاكتفاء الذاتي.