المتأمل في المشهد السياسي الأمريكي، بالكاد يجد فصلا صريحا واضحا بين الأجنحة والتيارات السياسية في هذا البلد الكبير المترامي الحدود والفضاءات، كما لو كان الأمر يتعلق بحزب واحد متعدد الرؤوس لا أكثر، فالديمقراطي “اليساري” قد يتحول في لحظة ما إلى جمهوري “يميني” من دون أية عقدة ولا تحفظ، وكذلك الأمر بالنسبة للجمهوري –اليميني- الذي لا فرق عنده في السياسة بين اليسار واليمين، فكل ما يعني الأمريكي في المسألة هو هذا التقاطع الذهبي بين المصلحتين؛ الشخصية والوطنية.
في إصراره على التقرب أكثر من أكبر المليارديرات الأمريكان، يكون الرئيس “دونالد ترامب” قد حسم الجدل القائم بشأن سياسة الفصل بين السياسة والمال، وهو الآن بصدد التأسيس لنظام أمريكي جديد، لا يرى العالم إلا من خلال الجيوب المعبأة والحسابات المرصعة والخزائن المكتنزة، دون أدنى اعتبار للقيم المعنوية الأخرى والثوابت المشتركة بين شعوب العالم، وهو خيار هزّ أركان الساحة السياسية الأمريكية.
في ذات السياق، أفادت وكالة “بلومبيرغ” بأن الملياردير “إيلون ماسك”، الذي يتصدر قائمة أثرياء العالم والذي كان قد قدّم تبرعًا ماليًا ضخمًا لدعم حملة الرئيس “ترامب”، تحت غطاء لجنة عمل سياسي تعرف باسم “America pac”، وهي مجموعة تعمل بشكل شبه سري، لكنها عادة ما تلعب دورًا حاسمًا في تحديد نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية. “إيلون ماسك” يعود هذه المرّة، ليس كمتبرع، ولكن كقاطف ثمار، فقد كشّر عن طموحاته المالية وسارع إلى السيطرة على نظام المدفوعات في وزارة الخزانة الأمريكية، والذي يدير تعاملات تقدر بـــ “تريليونات” من الدولارات كل عام.
التحول “التاريخي” هذا، أثار حفيظة، بل انتقاد كبار المحللين الأمريكيين والمتابعين للشأن السياسي الأمريكي، وأشعل جذوة نقاش ساخن وعميق، في الأوساط الفكرية والسياسية، زاده جدلا ما صرح به “ماسك” بشأن الجهود المبذولة لخفض الإنفاق الفدرالي، والذي تعمل إدارة الرئيس “ترامب” على تحقيقه، من خلال إنشاء “وزارة كفاءة الحكومة” –Department of Government Efficiency-، والتي هي لجنة استشارية رئاسية أمريكية للهندسة والتخطيط، أعلن عن تأسيسها “ترامب”، وجعل على رأسها المليارديرين “إيلون ماسك” و” فيفيك راما سوامي”، وهو التصريح الذي تناولته الدوائر الفاعلة من باب أنه تدخل سافر في الشأن السياسي العام، من قبل رجل أعمال همه الأكبر جمع المال.
وقد زاد طينها بلة، عندما أسهب “ماسك” في تحليل الوضع وانتقاده، وطرح بدائل واقتراحات من بنات أفكاره، حيث قال؛ “…الطريقة الوحيدة لوقف الاحتيال وهدر أموال دافعي الضرائب، تكمن في متابعة تدفقات صرف الأموال، ووقف التعاملات المشبوهة بشكل مؤقت للمراجعة.. فبطبيعة الحال، يتسبب هذا في أن يشعر باستياء كبير هؤلاء الذين ساعدوا وشجعوا وتلقوا مدفوعات بطريقة احتيالية.. هذا سيّئ جداً..”.. في تأنيب وقح، كما وصفه أحدهم، لمسؤولي وسياسات نظام المدفوعات، التابع في الأصل لوزارة الخزانة والذي يخضع لرقابة شديدة، باعتبار أنه يدير تدفق أموال الحكومة الأمريكية، بما لا يقل عن ستة -6- تريليونات دولار سنوياً، تتقاسمها قطاعات الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والأجور وغيرها.
وزير الخزانة الجديد “سكوت بيسنت”، وافق من دون تردد على منح “ماسك” سلطة الاطّلاع الدقيق على عملية تسيير نظام المدفوعات، وعندما رفض المسؤول الأول تنفيذ القرار، أُجبر على “الاستفادة” من إجازة إدارية، حتى يتم ترسيم الصلاحيات الجديدة.
وأما ما أثار استغراب الطبقة السياسية الأمريكية أكثر، فهو الإشادة العلنية للرئيس “ترامب” بقدرة “ماسك” على خفض التكاليف العمومية، مصرّحا: “…أحياناً لا نتفق معه، ولا نذهب إلى حيث يريد.. لكنني أعتقد أنه يقوم بعمل رائع..”.
“إيلون ماسك” وبموجب الصلاحيات الجديدة الموكلة إليه، قام باستبدال موظفين كبار في وزارة الخزانة، بآخرين من محيطه أكثر حيوية وشبابا.. فقد تلقى معظم الموظفين رسالة إلكترونية تتضمن عرضاً بالإقالة من الخدمة الحكومية على الفور، مع حصولهم على تسعة أشهر تقريباً كمكافأة نهاية الخدمة، رغم أن العديد من الخبراء القانونيين حذّروا الموظفين من العرض. في ذات السياق، وعلى ضوء هذا التغيير المفاجئ، أعرب مشرعون ديمقراطيون عن مخاوف عميقة بشأن وصول أشخاص مثل ماسك وموظفيه إلى مركز تدفق الأموال الحكومية، قائلين بأن ذلك يرقى إلى مستوى عملية استيلاء ذكي وغير قانوني على السلطة.
حتى أن بعضهم عاد للحديث عن عملية انقلاب سلس، يقوم بها الرئيس العائد “ترامب”، ليس على أوكار تخندق خصومه السياسيين التقليديين، وإنما على نظام الحكم برمته، ذلك أن تعيين أمثال “ماسك” ومنحهم صلاحيات على بياض، يمثل في حد ذاته تحولًا “دراماتيكيًا” في آليات إدارة الشأن العام الأمريكي.
إنها عملية بيع ممنهج لنظام الحكم الأمريكي، ولإرادة الناخب الأمريكي، لصالح أثرياء وول ستريت في تجاوز صريح لميدان العمل السياسي، وصولا إلى عالم المال والأعمال. فدخول “إيلون ماسك”، أغنى رجل في العالم، بقوة في المعترك السياسي الأمريكي من خلال مركزه الجديد في إدارة الشأن العام، يثير بحق وبقلق تساؤلات عميقة حول تأثير الثروة الفردية على العملية الديمقراطية.
إن هذا التحول، يشير مراقبون، لا يمثل فقط تحولًا في المشهد السياسي الحالي، بل ينبئ بتأثيرات طويلة المدى على طبيعة الانتخابات والسياسة في الولايات المتحدة، كما أنه يسلط الضوء على الدور المتزايد لرجال الأعمال التكنولوجيين في تشكيل المستقبل السياسي للبلاد، الوضع الذي قد يؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقة بين السلطة السياسية والنفوذ الاقتصادي في السنوات المقبلة، ليس بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فحسب، وإنما سيكون تأثيرها واسع النطاق على مستوى العالم.