تتجه تركيا اليوم إلى أن تكون ـ في صورتها المعاصرة ـ انعكاسا لماض يكافحُ الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» ـ الفائز بجولة الإعادة في انتخابات الرئاسة ـ من أجل أن يستلهم منه سياسته، لرسم ملامح المستقبل، وهكذا فليس من الغرابة أن يتواطأ التاريخ معه ليتزامن أول يوم من عهدته الجديدة مع الذكرى الـ570 لفتح القسطنطينية (إسطنبول حالياً)، على يد السلطان محمد الفاتح في 29 ماي 1453 ميلادي.
وقد جاء فوز «أردوغان» في سياق سمح بربط التاريخ مع الماضي من خلال احتفال مزدوج، بدأ ـ من جهة ـ منذ لحظة إعلان فوزه بجولة الإعادة في انتخابات الرئاسة التركية بعد أن حصد 52.15 بالمائة من إجمالي الأصوات، مقابل أقل من 48 بالمائة لمنافسه «كمال كليجدار أوغلو»، ومن جهة أخرى، منذ صلاة الفجر في مسجد آيا صوفيا بإسطنبول، حين أقبل الأتراك على الحدث بكثافة وأطلقوا التكبيرات تعظيما لذكرى فتح القسطنطينية.
وكان «أردوغان» قد استبق لجنة الانتخابات بإعلان فوزه، متوجها بالشكر إلى الشعب التركي ـ خلال المؤتمر الشعبي الذي عقد في مدينة اسطنبول ـ على تجديد الثقة فيه، وتحميله “مسؤولية” عهدة رئاسية جديدة، قائلا أمام أنصاره “وداعا كمال” ثلاث مرات، في إشارة إلى منافسه كمال «كليجدار أوغلو»، فيما أكد أنه سيواصل العمل من أجل تركيا موحدة، مضيفا ألا أحدا بمقدوره أن يسيء للحريات في بلاده.
احتفل الأتراك خاصة والمسلمون عامة، يوم الاثنين، بالذكرى الـ570 لفتح القسطنطينية (إسطنبول حالياً)، والذي تم على يد السلطان محمد الفاتح في 29 ماي 1453 ميلادي، والموافق لـ20 جمادى الأولى 857 للهجرة، وتعد ذكرى فتح القسطنطينية ـ عاصمة الإمبراطورية البيزنطية ـ عزيزة على قلوب المسلمين، بعد أن ظلت عصية على الفتوحات الإسلامية لعدة قرون، ليغدو هذا الحدث من أعظم الأحداث التاريخية في حياة المسلمين والغرب معاً.
وكان وزير الداخلية التركي سليمان صويلو قد نشر ـ عبر حساباته على منصات التواصل الاجتماعي ـ صورا له وهو يحضر أول صلاة فجر بعد فوز «أردوغان»، مع تعليق قال فيه: “صباح انتصار القرن، بمناسبة ذكرى فتح إسطنبول، أدينا صلاتنا في مسجد آيا صوفيا”، وللعلم فإن مسجد آيا صوفيا يقع في منطقة “السلطان أحمد” بإسطنبول، وكان عبارة عن كنيسة لمدة 916 عاما، قبل أن يتم تحويله إلى مسجد بعد فتح القسطنطينية (إسطنبول) اعتبارا من عام 1453.
وحقق «أردوغان» فوزه التاريخي، مستعيدا نهج أسلافه ممن يتخذهم قدوة له، وهو الحالم بإعادة تركيا إلى مجدها الذي تستحقه، فبغض النظر عن بعض الانزلاقات التي شابت بعض مواقف الرجل الخارجية، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي والتي رافقت عهداته الرئاسية السابقة، إلا أن سجله الحافل بالإنجازات على مدار نحو 21 عامًا من تواجده على رأس السلطة، مكنه من كسب المعركة الانتخابية، ليواصل نهجه ـ خاصة ـ في مجال تعزيز حصيلة أرقامه الإيجابية.
كما يراهن «أردوغان» ـ وفق ما أعلنه في برنامج حملته ـ “على رفع حجم التجارة الخارجية للبلاد إلى تريليون دولار، وجذب 90 مليون سائح، وإيرادات بقيمة 100 مليار دولار سنوياً، وبمعدل نمو سنوي 5.5 في المائة يزيد من الدخل القومي خلال الفترة المقبلة، مع توفير 6 ملايين وظيفة جديدة في 5 سنوات، وخفض معدل البطالة إلى حدود 7 في المائة”.
جزيرة السلام
ويَعدُ «أردوغان» شعبه برفع نصيب الفرد من الدخل القومي في الفترة المقبلة إلى 16 ألف دولار سنوياً، ثم إلى مستويات أعلى”، كما يعدهم بإخراج البلاد من مشكلة التضخّم، مشدّداً على أن حكومته ستضمن استمرار استقرار تركيا، باعتبارها ـ وفق وصفه ـ جزيرة للسلام والأمن في وقت يواجه العالم والمنطقة تحديات متفاقمة.
وكان «أردوغان» قد وصل إلى منصب الرئيس عام 2014 بعد تقلده رئاسة الحكومة لمدة 11 عاماً (2003 – 2014) في نظام حكم برلماني قبل تعديله إلى نظام حكم رئاسي بعد استفتاء شعبي عام 2017، ما سمح له بالترشح ثم الفوز بفترة رئاسية جديدة، ليكون الرئيس الثالث عشر لتركيا منذ إعلان تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك، الذي تبوأ منصب الرئيس حتى وفاته عام 1938 ليتتالى بعده أحد عشر رئيساً، آخرهم عبد الله غل الذي حكم سبعة أعوام (2007/08/28 – 2014/08/28).
«أردوغان» هو من مواليد حي قاسم باشا بإسطنبول في 26 فيفري 1954، لكنّ أصوله تنحدر من مدينة ريزا الواقعة شمال شرقي تركيا على البحر الأسود، وقد تلقى تعليمه الجامعي في مجال “العلوم الاقتصادية والتجارية” بجامعة مرمرة التي تخرج فيها عام 1981، بعد أن درس المرحلة الثانوية بمدارس الأئمة والخطباء وعدّل شهادة الثانوية في ثانوية أيوب بإسطنبول، وقد لمع اسمه عام 1976 حينما تم انتخابه رئيساً لمنظمة شبابية، وكان قبل ذلك قد خاض مشوارا في مجال رياضة كرة القدم.
وفي 12 جانفي 1997 صدر حكم بالسجن ضد «أردوغان» لأربعة شهور، على خلفية مقطوعة شعرية أنشدها أثناء إلقائه خطاباً أمام الجماهير في مدينة سيرت، فيما تم ـ بعد ذلك ـ فصله من رئاسة بلدية إسطنبول، وقد أسس «أردوغان» في 14 أوت 2001 ـ مع رفاقه المنشقين عن حزب الفضيلة الإسلامي الذي كان يرأسه نجم الدين أربكان ـ حزب العدالة والتنمية الذي اكتسح الانتخابات التشريعية عام 2002، بنيل ثلثي مقاعد البرلمان وهذا ما جعله مؤهلاً لتشكيل الحكومة بمفرده، لتبدأ رحلة «أردوغان» الحقيقية في مجال قيادة تركيا.