رغم كلّ ما يملكه الاحتلال الإسرائيلي من قدرات عسكرية هائلة والدّعم الدّولي الكبير الذي تتلقّاه، لم يحقّق جيش الاحتلال الإسرائيلي أيّاً من أهدافه المعلنة طول العدوان الذي يقترب من دخول شهره السّابع، بل على العكس فشل حتّى اللّحظة في مهمّته الأساسية، كتحرير الأسرى، أو وقف إطلاق الصّواريخ على المدن “الإسرائيلية”، ناهيك بتدمير المقاومة وإعادة احتلال غزّة.
الفشل “الإسرائيلي” لم يقتصر على تحقيق الأهداف الكبيرة التي وضعها قبل بدء العدوان فحسب، بل امتدّ أيضاً ليطال فشله في تقديم صور انتصار زائفة حتّى، وذلك وفقاً لما نقلته صحيفة هآرتس عن إسحق بريك، جنرال “إسرائيلي” خدم في سلاح المدرّعات برتبة قائد لواء، وعمل قائداً للكليّات العسكرية.
ويقول بريك إنّه بناءً على المعلومات التي تلقّاها من الجنود والضبّاط الذين يقاتلون في قطاع غزّة منذ بدء الحرب، فقد توصّل إلى الاستنتاج التّالي: “المتحدّث باسم الجيش “الإسرائيلي” والمحلّلون العسكريون في استديوهات التّلفزيون يقدّمون صورة زائفة لآلاف من قتلى حماس. أمّا عدد أعضاء حماس الذين قتلتهم قوّاتنا على الأرض فهو أقلّ بكثير. إنّ معظم الحروب لا تجري وجهاً لوجه، كما يزعم المتحدّث والمحلّلون. ومعظم قتلانا وجرحانا أصيبوا بقنابل حماس والصّواريخ المضادّة للدبّابات”.
وقبل فشل “إسرائيل” في تقديم صورة انتصار زائف، فشلت أجهزة الاستخبارات والأمن “الإسرائيلية” على التنبّؤ مسبقاً بهجوم “طوفان الأقصى”، الذي مثّل “فشلاً كارثيّاً ستكون له انعكاساته السّياسية”، حسب محلّلين إسرائيليين، وإلى جانب الانتصار الذي حقّقته بعمليتها المعقّدة والمتقدّمة في السّابع من أكتوبر الماضي، لا تزال المقاومة صاحبة اليد العليا على أرض المعركة في قطاع غزّة، وليست لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي حاليّاً حلول سريعة للقتال ضدّ حماس. فعلى الرّغم من جرائم الإبادة الجماعية والدّمار الكارثي الذي خلّفه جيش الاحتلال في القطاع، لا يزال أفراد المقاومة يخرجون من فتحات الأنفاق لزرع القنابل ونصب الفخاخ المتفجّرة وإطلاق الصّواريخ المضادة للدبّابات، ثمّ يختفون مرّة أخرى داخل الأنفاق.
بشكل عام، لا يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي يتبع عقيدة “الضاحية” التي جرى التّدريب عليها جيداً، وتعتمد على القوة الهائلة في الردّ على الحرب غير النّظامية، ممّا يتسبّب في أضرار اجتماعية واقتصادية واسعة النّطاق، وتقويض إرادة المقاومين على القتال مع ردع التّهديدات المستقبلية لأمن “إسرائيل”، لكن الأمر يسير على نحو خاطئ للغاية.
ويرى موقع أمريكي، أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يخوض حرباً مضادة للمقاومة في غزّة، بل يشنّ “حرب احتلال”. ويقول إنّ “الإسرائيليين” قد غادروا غزّة عام 2005، والآن عادوا محتلّين فعليين لمواجهة حماس التي ليس لديها “جيش” بكلّ معنى الكلمة، لكن لديها ذراع عسكرية، تتمثّل في “كتائب القسام”، التي تتألّف إلى حدّ معقول من آلاف المقاتلين الفدائيين جيدي التّنظيم (وذوي تمويل جيد).
ومن هذا المنطلق، فإنّ حروب الاحتلال -التي يطلق عليها قوى الاحتلال في كثير من الأحيان اسم “حروب مكافحة التمرّد”- كانت شائعة وقاتلة في العصر الحديث. ولا يحتاج المرء إلّا أن يتذكّر الأمريكيين في فيتنام، والفرنسيين في الجزائر، والسوفييت في أفغانستان، والأمريكيين في العراق وأفغانستان.
ووفق تحليل ورؤية الموقع الأمريكي فإنّ غزّة لا تختلف عن فيتنام حيث يواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي وضع مماثل لما واجهه الجيش الأمريكي في فيتنام، فالمحتل الإسرائيلي يواجه حقيقة -وجود سكّان معادين بشكل موحد تقريباً- تجعل العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي صعبة للغاية. إنّ مخاطر شنّ عمليات عسكرية في مثل هذا السّياق كثيرة، ولكنّ الأهم -على الأقل من وجهة حماية المدنيين- هو أنّ الجيش الإسرائيلي سوف ينظر إلى السكّان المُعادين في غزّة على أنّهم “متعاطفون مع حماس” مع نتائج مأساوية، وهو ما تجلّى بوضوح في 15 ديسمبر عندما قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي ثلاثة من رهائن “إسرائيليين” في مدينة غزّة.
وبالتّحليل الموضوعي فإنّ الحرب على غزّة تختلف عن سابقاتها من الحروب 2008، 2009، 2012، 2014، 2021 فحرب 2023 هي حرب وجود كما يصفها المتطرّفون في “إسرائيل”، ولا يرجع السّبب في كونها مختلفة فقط إلى كبر وحجم العملية غير المسبوقة التي نفّذتها حركة حماس في السّابع من أكتوبر، وما أعقبها من “انتقام جبّار” تمارسه “إسرائيل”، كما وصفه رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، والذي أدّى إلى مقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وتدمير كلّ مقوّمات الحياة في غزّة.
تختلف هذه الحرب عن الحروب الأخرى لأنّها تأتي في وقت تتداعى فيه خطوط الصّدع التي تقسم الشّرق الأوسط. فعلى مدى عقدين من الزّمن على الأقل، كان الصّدع الأكثر خطورة في المشهد الجيوسياسي الممزّق في المنطقة هو بين أصدقاء وحلفاء إيران، وأصدقاء وحلفاء الولايات المتّحدة.
يضغط وزراء اليمين المتطرّف في “إسرائيل” لإفشال أيّة جهود دولية لوقف إطلاق النّار في غزّة مقابل إطلاق سراح الرّهائن “الإسرائيليين” معتبرين ذلك هزيمة للدّولة العبرية أمام حركة حماس ويطالبون بمواصلة الحرب البرية حتّى القضاء على حركة حماس.
وفي ظلّ الإخفاقات العسكرية والسّياسية، يواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي أزمات متلاحقة تؤثّر على أدائه العسكري، في الوقت الذي يواجه فيه صمودًا أسطوريًا لقوى المقاومة الفلسطينية، ورغم مرور أكثر من سبعة أشهر على انطلاق الحرب الإسرائيلية على غزّة، فإنّ المقاومة لا تزال توجّه ضربات متلاحقة لقوّات الاحتلال، ويدلّ نجاح عملياتها على حالة المأزق التي يعيشها جيش الاحتلال، وحالة تكبّد الخسائر على مستوى الضبّاط والجنود والمعدّات العسكرية.
ووفق المتابعين والمحلّلين فإنّ أزمات خطيرة تضرب في أعماقها بين جيش الاحتلال وقيادته السّياسية وهو مؤشّر يدلّ على فشل عميق للحرب على قطاع غزّة، كما يثير ذلك تساؤلًا كبيرًا عن حقيقة من يدير الحرب ومن يخوض الحرب، في ظلّ الحديث عن وجود جنود أجانب في ميدان المعركة، إضافة إلى عشرات الشّركات الأمنية والمقاتلين من المرتزقة.
وفي أحدث التّطورات فإنّ نتنياهو يواجه انتقادات لاذعة من هاليفي! فقد ذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، الأحد، أنّ رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي هيرتسي هاليفي، وجّه انتقادات حادّة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لفشله في تطوير ما يسمّى باستراتيجية الحرب. ونقلت الصحيفة عن هاليفي قوله، إنّ “الجيش يهاجم منطقة جباليا، شمالي غزّة، مجدّداً لأنّه لا يوجد تحرّك سياسي من شأنه أن يؤدّي إلى إنشاء كيان حكم آخر غير حماس في قطاع غزّة.
كما حذّر مسؤولون في الجيش “الإسرائيلي” نتنياهو، من أنّ عدم قدرة حكومته على اتّخاذ قرار، أدّى إلى المخاطرة بأرواح الجنود “الإسرائيليين”، بحسب الصحيفة.
من جهة ثانية، اتّهم الجيش “الإسرائيلي” حكومة نتنياهو بعدم استغلال الإنجازات العملياتية في غزّة لتحقيق تقدّم سياسي، بحسب ما ذكر موقع “والا” “الإسرائيلي”، وقال الموقع إنّ “تقديرات للجيش بأنّ الإنجازات في غزّة قد تتآكل مع تعثّر المفاوضات بشأن إعادة المحتجزين في غزّة.
عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 حطّمت نظرية الأمن “الإسرائيلي”، وقد عدت أكبر ضربة تتعرّض لها “إسرائيل” في تاريخها، وشكّلت ضربة قاسية لمفهوم الأمن القومي الصّهيوني بما يطرح علامة استفهام على قابلية هذا الكيان على الحياة. إلّا أنّه على الرّغم من ذلك، فإنّ قواعد العلوم السّياسية التي تقوم عليها الكيانات السّياسية لا تنطبق على “إسرائيل” لكونها ليست كيانًا قائمًا بحدّ ذاته بمقدار ما تشكّل امتداداً للهيمنة الأميركية من جهة وللرّأسمالية العالمية الصّهيونية من جهة أخرى.
ومن وجهة غلاة المتطرّفين في “إسرائيل” فإنّ معركة طوفان الأقصى شكّلت ضربة قويّة لإيديولوجية ونظريّة “فلاديمير زئيف جابوتنسكي” مؤسّس التّيار التنقيحي في الحركة الصّهيوني، وجماعة الأرغون الإرهابية، والأب المؤسّس لليكود واليمين الصّهيوني بشكل عام، ومن لم يقرأ مقاله “الجدار الحديد (نحن والعرب)” فلن يعرف كيف يفكّر نتنياهو وحزبه واليمين المتصهين والمتطرّف، تجاه الفلسطينيين والمفاوضات والمسيرة السّلمية.
فكرته المحورية: لا يوجد إمكانية للتّفاهم مع العرب (الفلسطينيين) والطّريقة الوحيدة للتّفاهم معهم هي السّلاح، واقتلاع العرب بالقوّة أمر أخلاقي ما دام من أجل مشروع نبيل (المشروع الصّهيوني ومرتكزاته الاستيطان والإحلال) وهذا هو جوهر الحرب على غزّة والضفّة الغربية وهدفها التّدمير الممنهج وتدمير كلّ مقوّمات الحياة وتقود للضمّ والتّرحيل القسري.
يقول “جابوتنسكي” لا يمكن أن يكون هنالك اتّفاقية طوعية بيننا وبين عرب فلسطين، لا اليوم ولا في المستقبل المنظور، ولا أقول ذلك لأنّني أريد إيذاء الصّهاينة المعتدلين، ولا أظنّ أنّهم سيتأذّون باستثناء أولئك الذين ولدوا عميانًا، فقد أدركوا منذ زمن بعيد أنّه من المستحيل أن يقبل عرب فلسطين طواعية بتحويل “فلسطين” من دولة عربية إلى دولة بأغلبية يهودية.
لقد ضربت عملية طوفان الأقصى مرتكزات نظرية الأمن “الإسرائيلية” وأصابت إيديولوجية جابوتنسكي في مقتل، ونجح الفلسطينيون في السّيطرة على مساحات واسعة من الأراضي المحتلّة للمرّة الأولى. أيقظ هذا الانهيار مجدّدًا هواجس احتمال انهيار سلطة الاحتلال في ظلّ صمود الفلسطينيين وصلابتهم رغم القمع والحصار، كما قوّض الشّعور بالأمان والاستقرار الذي أتاح المزيد من عمليات الهجرة والاستيطان خلال العقود الأخيرة.
بغضّ النّظر عن تداعيات الحرب “الإسرائيلية” الوحشية الحالية على غزّة، فقد انهارت نظرية الأمن “الإسرائيلية”، وتهاوت نظريات “كي الوعي” و”جز العشب”، وأثبتت مقاربة “المعركة بين الحروب” فشلها في تقويض قدرات المقاومة أو ردعها عن تنفيذ هجوم ضخم مثل الذي نفّذته صبيحة 7 أكتوبر. ولذا؛ تعكس تصريحات قادة الاحتلال على وقع الصّدمة، وعلى وقع أزمة ثقة تهزّ الجيش وأجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية”، بأنّ النّموذج الأمني والاستراتيجي السّابق انتهى، وهو ما يعني أنّهم بصدد البحث عن فرض “نموذج جديد” وبناء نظرية أمن جديدة، ترمّم جاذبية “إسرائيل” وسمعتها المنهارة كملاذ آمن لليهود من أنحاء العالم. لكنّ هذه مهمّة لا تبدو بسيطة أو قريبة المنال، بغضّ النّظر عن مآل الدّمار الحاصل في قطاع غزّة، ويبقى أقصر الطّرق لتحقيق الأمن والاستقرار هو تحقيق السّلام المستند لقرارات الشّرعية الدّولية والإقرار بالحقوق الشّرعية للشّعب الفلسطيني وحق تقرير المصير وإقامة دولته المستقلّة وعاصمتها القدس.