اختلفت، مرّة أخرى، المواقف الأمريكية والفرنسية من المسار السياسي في تونس. وطفت على سطح الأحداث خلفياتُ الصراع بين الدولتين على النفوذ في المنطقة. ويبدو أن محورها هذه المرة سيكون تونس، وبالعودة إلى ما قاله مؤخرا وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” بأن “حلم تونس بحكومة مستقلة” أصبح في خطر. وفي المقابل، وصف الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الاستفتاء على دستور جديد في تونس بأنه “مرحلة مهمة”. ومن هنا يتأكّد التّباين أو المُنافسة الأمريكية الفرنسية على تونس.
المُتابع للشأن السّياسي التونسي منذ 25 جويلية 2021 يُلاحظ تسارع وتيرة النّشاط الأمريكي الفرنسي في تونس، منذ تفعيل الاجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها رئيس الجمهورية قيس سعيّد. وقد تمّ تفسير هذا التنافس بين البلدين، بأنّه حرصُ كليهما على عدم فقدان زمام المبادرة في التأثير على مجريات الأحداث التي عاشتها تونس.
ونذكرُ ماراطون الزّيارات والمُقابلات المُتعدّدة لمسؤولين سامين من دول أجنبية مع الرئيس التونسي وبعض كبار المسؤولين التونسيين، كإحدى أهمّ صيغ هذه التدخّلات.
اعتبر “خالد شوكات”، رئيس المعهد العربي للديمقراطية، أن هذا التّباين الأمريكي الفرنسي، حول ما يحدث في تونس ليس جديدا، فقد كانت الإدارة الأمريكية واضحة في عدم قبولها بالوضع الجديد الذي أوقف من خلاله رئيس الجمهورية “قيس سعيد” مسار الانتقال الديمقراطي، داعية للعودة إلى الحياة الدستورية والمُؤسسات الشرعية المنتخبة، فيما بدا الموقف الفرنسي مُناورا وربّما مبرّرا وأحيانا مُتفهّما، والفرق يعود إلى أسباب سياسية وإيديولوجية.
قال “شوكات” لموقع “الأيام نيوز” بأن الفرنسيين تصرّفوا، غالبا، باعتبارهم المُستعمر السّابق الذي ينظرُ بفوقية وتأثير قويّ على المؤسسات في تونس، فمفاهيم استعمارية ترى شعوب مستعمراتهم غير جديرة بالحكم الديمقراطي. أمّا أمريكا، وخصوصا إدارة بايدن، فقد وعد رئيسُها منذ اليوم الأول لحكمه بحماية الديمقراطيات. وقياسا إلى هذا الوعد، فإن التدخل الامريكي لصالح الديمقراطية يظلّ من النوع “الخفيف”، واكتفى طيلة العام الماضي ببيانات للإعراب عن القلق. ورُبّما يُعتبر التصريح الأخير لوزير الدفاع الامريكي هو الأعلى نبرة بين كلّ التصريحات. ولعلّ ذلك يحمل رسائل مُوجّهة إلى أطراف مُحدّدة عليها أن تأخذ في عين الاعتبار موقف واشنطن الذي أضحى أكثر حزما.
أضاف رئيس المعهد العربي للديمقراطية بأنّه متأكّدٌ من وجود الصراع أو المنافسة الدولية على تونس، دوافعه تتعلّق بمصالح حول المنطقة المغاربية، بما في ذلك الشقيقة ليبيا التي تحولت إلى دولة عاجزة ومجتمع منقسم، رغم غناها الكبير بالنفط ومشتقّاته. وإذا أخذنا في الاعتبار المستجدات الدولية كتداعيات الكوفيد، والحرب الروسية في أوكرانيا، وما تسببت فيه من اضطرابات، خُصوصا على مستوى الأمن الغذائي العالمي وغلاء أسعار البترول بشكل غير مسبوق وأزمة الغاز الطبيعي في أوروبا، ستزداد أهمية ليبيا لدى القوى الدولية، كما سيزداد الصّراع عليها، وبالتالي الصراع في كل ما له صلة بها، بما في ذلك دول الجوار وفي مقدمتها تونس.
رأى “شوكات” أن هذا أمرّ طبيعي في تاريخ العلاقات الدولية، أمّا غير الطبيعي فهو الضّعف الداخلي الذي تعاني منه تونس وليبيا، ضعفٌ غير مسبوق أيضا، يجعل دفاعُهما عن مصالحهما الوطنية أقل قدرة وأكثر عجزا، لذلك تونس تجد نفسها مُطالبة بترتيب بيتها الدّاخلي أولاّ، لأن السياسة الخارجية هي نتاجٌ بالضرورة للأوضاع الداخلية. ومع أزمة الشرعية وامتناع الرئيس “قيس سعيد” عن محاورة الأطراف السياسية وتحييدها، والمرور بالقوة لتمرير أجندة أحادية، فإن قُدرة المؤسسات المعنية بالشؤون الخارجية والديبلوماسية لن تكون قادرة على الدفاع كما ينبغي عن مصالح البلاد العليا.
أوضح “شوكات” لموقع “الأيام نيوز” أن الحاكم الذي لا يقف على قاعدة من الشرعية القوية والتماسك الداخلي، سيكون حتما حاكما ضعيفا، وربما تابعا في مواقف مُعيّنة. وعلى تونس أن تتدارك ضُعفها الدّاخلي، وأن تبحث عن بناء قوة مُشتركة مع أشقّائها المغاربيين، وتتّخذ موقفا مُوحّدا من قضايا المنطقة، حتى يتم لجم التدخل الخارجي أو التخفيف من وطأته على الاقل.
صرّح الديبلوماسي السابق “توفيق وناس” إلى إذاعة موزاييك أف أم التونسية: “تباين مواقف الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا من الوضع السياسي والمسار الذي يقوده رئيس الجمهورية قيس سعيد، مردُّه إلى عمل لوبيات في أمريكا، فيما تُحرّكه المصالح في فرنسا.”
قال “ونّاس” إلى الاذاعة المحلية”: “الموقف الأمريكي من تونس مبنيّ أساسا على نظرية أن الإسلام السياسي لا يُمثل خطرا، وأن التجربة التونسية مدة عشر سنوات الأخيرة كانت تجربة ديمقراطية، ولكن في الحقيقة هذا ليس صحيحا لأن تونس، لم تكن خلال العشرة سنوات الماضية، دولة ديمقراطية، بل كانت واجهة ديمقراطية لا غير، لأنه لا يُمكن أن تكون دولة ديمقراطية يسُودها الفساد والانغلاق السياسي وعدم إمكانية التداول السلمي على السلطة. في المقابل، إنّ الموقف الفرنسي مبنيٌّ على فهم أعمق بالوضع في تونس، بالإضافة إلى وجود اعتبارات ومصالح كبرى جيوسياسية واقتصادية في المنطقة المغاربية، ففرنسا تُحاول أن تقترب أكثر فأكثر من الجزائر، وتريد أن تكون لها علاقات طيبة في تونس خاصة بالنظر إلى وضع في ليبيا”.