التغاضي عن أهمية التاريخ في صناعة الرأي وصياغة الوعي وصقل المواقف، يؤدي حتما إلى تكريس “ثقافة الفراغ” التي تعني انفصام روح الحاضر عن جذور الماضي، وهي حالة مرضية يعيشها مجتمع ما، وتتسم بالتيه والشرود، وبالفوضى والجنون، وبعدم الاستقرار على توجه واضح ومعين في ترتيب العلاقات مع الغير.
ولذلك، على المستهترين بدرس التاريخ أن يعلموا ويتعلموا، بأن التاريخ لا يقتصر على الكتب المدرسية المفعمة بالقصص الطوباوية والذكريات البعيدة، وإنما هو نسيج حيّ لحلقات مترابطة من الأحداث البشرية في انتصاراتها وفي إخفاقاتها، في أمجادها وبطولاتها، في هزائمها وانكساراتها.. في تجاربها التي تشكل بالنهاية أبلغ درس يمكن للمجتمعات أن تكتسبه وتستفيد منه خلال مسيرتها، إن على مستوى الأفراد، أو على مستوى الجماعات والمؤسسات.
وعليه، فإن القوة الحقيقية لدرس التاريخ، تكمن في قدرته على توجيه القرار الآني واستشراف آفاق المستقبل، ذلك أنه يمنح دارسيه القدرة على تعلم عِبَرٍ لا تقدر بثمن، تُستقى وتُستنبط من الأحداث الماضية، تفضي إلى اتخاذ خيارات مستنيرة مع تجنب تكرار الأخطاء والزلات الفائتة، مما يسمح للمجتمع بالتقدم خطوة بخطوة على درب التنمية والاستقرار، وفي رحاب الأمن والسلام.
ونحن على مشارف قرنين من الزمان عن ذكرى “حادثة المروحة”، التي سوّق لها المؤرخون الفرنسيون على أنها كانت الذريعة المباشرة لغزو الجزائر واحتلالها، رغم توافر الشواهد التاريخية الكافية للاستدلال على أن النية الاستعمارية الخبيثة للفرنسيين كانت مبيتة من قبل، وأن التحضير لها كان قد بدأ منذ زمن بعيد، أي منذ زمن المجاعة التي ضربت فرنسا بُعَيْدَ ثورة عام 1789م، واكتشافهم خيرات الجزائر من خلال أساطيل الإمداد لإنقاذ شعب في حالة يأس وفناء.
بعد مائة وثمانية وتسعين سنة -198- عن “حادثة المروحة”، لا يزال الفكر العدواني الاستعماري معششا في رؤوس الطبقة السياسية الفرنسية، خاصة اليمين واليمين المتطرف، وفي رؤوس الطبقة “الوردية” الناشئة الجديدة بقيادة “ماكرون”، من دون أن تدرك بأن التاريخ قد تغير وأن العالم لم يعد كما كان قبل قرنين من الزمان، خاصة وأن حمّامات من الدم الشريف سالت، وأن ملايين الأرواح الشهيدة أزهقت، وأن ثمنا باهظا من الأنفس والثمرات كان قد سدّد لاسترداد ما تم أخذه.
الرئيس الفرنسي “الوردي-ماكرون”، وبعدما ضاقت به السبل واحترقت أوراقه الرابحة، راهن على تعيين شخصية وسطية على رأس الحكومة، “فرانسوا بايرو”، لإنقاذ ما تبقى من “شرف المهنة القذرة”، وما تخلف من مصداقية السلطة المتهورة، لكن هذا الأخير لم يتأخر طويلا عن الانخراط في عملية التهجم والتصعيد غير الأخلاقي بحق الجزائر، رغم أنه غير مقتنع بما يقوم به من دور حقير في مشهد العبث الفرنسي، إلى جانب الوقاحة المقرفة لوزير الخارجية “بارو”، وكذا الدناءة القبيحة لوزير الداخلية “روتايو”.
“بايرو” يصرح بأن “ترحيل الجزائريين المقيمين في فرنسا بطريقة غير شرعية هو أحد أهدافنا حالياً..”، “بارو” يهدد بــ “فرض عقوبات بحق الجزائر في الوقت المناسب..”، كبيرهم الذي ورطهم يقول بأن “توقيف الجزائر للكاتب بوعلام صنصال غير مبرر..” وهو سبب الأزمة الحالية بين الجزائر وباريس.. في استهتار وقح بالملفات الثقيلة التي أوردها الطرف الجزائر في مذكرة التفاهم، حتى يتم البت فيها لتطبيع العلاقات، أهمها؛ ملف التجارب النووية بالصحراء الجزائرية.. الاعتراف والاعتذار عن جرائم الاستعمار.. إعادة مقتنيات ومتعلقات بالمقاومات الشعبية وبثورة التحرير العظمى.. الخضوع للقانون الدولي والمواثيق الأممية فيما تعلق بملف الصحراء الغربية، والذي هو محل اتفاقات مشتركة بين البلدين.
وأما ما كان متصلا بقضية المهاجرين الجزائريين المقيمين على التراب الفرنسي، بطريقة غير قانونية، فإن إعادتهم إلى الجزائر يخضع لشروط ومشاورات متفق عليها مسبقا، ولذلك، فإن جنوح الطرف الفرنسي إلى استعمال “الوقاحة” وسوء الأدب، لن يغير من تلك الشروط ولن يفرض واقعاً جديدا.
وأما ورقة المسمى “بوعلام صنصال”، فإن المسؤولين الفرنسيين، يعلمون جيدا بأن هذا الشخص هو رعية جزائرية ومواطن يخضع للقانون الجزائري، وبالتالي فالاستماتة في الدفاع عنه والتطاول على مصداقية القضاء الجزائري، تعتبر عملا عدوانيا يدخل في إطار التجاوز السافر لحدود اللباقة الدبلوماسية وخطوط السيادة الوطنية، غير مدركين بأنهم أمام دولة جزائرية ذات سيادة مقدسة، لا تقبل أبدا بالابتزاز ولا الاستفزاز، وبالتالي كلما زادت حدّة الضغط للمطالبة بإطلاق سراح الرجل المتهم، كلما زاد احتمال توريطه أكثر في وحل العمالة والخيانة.
ولذلك، فإن التلويح بفرض عقوبات فرنسية على الجزائر، يعدّ نفخا في الرماد لا أكثر، فليس لفرنسا ما تستطيع التأثير به على القرار الجزائري، لا اقتصاديا ولا سياسيا ولا اجتماعيا.. اللهم بعض الضرر الذي يمكن أن يطال المصالح الحيوية للجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا، إلا أنه من الممكن جدا، أن تتحول هذه القوة الاجتماعية في أي لحظة إلى عامل ضغط معاكس، إذا ما تمّ الزج بها في معترك الصراع.
على الجانب الجزائري، كان ردّ السلطات الجزائرية برفض رفضا قاطعا مُخاطبتها بــ “المُهل والإنذارات والتهديدات..”، وأنها ستسهر على تطبيق تدابير المعاملة بالمثل بشكل صارم وفوري، على جميع القيود التي تُفرض على التنقل بين الجزائر وفرنسا، وذلك دون استبعاد أية تدابير أخرى قد تقتضي المصالح الوطنية إقراراها.. كما جاء في بيان وزارة الخارجية.
الوقائع هذه، أعادت إلى الأذهان موقف الرئيس الراحل “هواري بومدين” من تهديدات الرئيس الفرنسي “جورج بومبيدو” عقب قرار تأميم المحروقات، بطرد كل الجزائريين من فرنسا وإعادتهم إلى الجزائر، حيث ردّ الرئيس “بومدين” بأنه سيقبل باستقبال مواطنيه على شرط، أن يرفق كل جزائري بملف طبي يوثق حالته الصحية التي سافر بها إلى فرنسا والتي عاد عليها من هناك، وبإشراف أممي.
إذا، فكما كان الشأن بالنسبة للملك “شارل العاشر” عام 1830م، الأمر نفسه بالنسبة للرئيس “ماكرون” عام 2025م، فكلامها يريد أن يجعل من الجزائر متنفسا لمشاكله الداخلية التي يعاني منها. لكن الظروف التاريخية التي جعلت من الأول “ينجح” في عملية غزو الجزائر واحتلالها، ليست هي نفسها التي يراهن عليها الثاني للتنفيس عن مكنوناته الغبية الحاقدة.. ثم إن صورة الجزائر التي تسكن الذهنية الاستعمارية الفرنسية، ليست هي ذاتها في الواقع، ولذلك على “ماكرون” أن يراجع حساباته ويعيد النظر في خياراته، وأن يفكر ألف مرّة قبل اتخاذ الخطوة التالية.