توازن القوى في الشرق الأوسط.. روسيا في قلب المعادلة

منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا منتصف العقد الماضي، سعى الرئيس فلاديمير بوتين إلى تعميق بصمة روسيا في الشرق الأوسط من خلال نسج شراكات متعددة الأوجه مع مختلف الجهات الإقليمية الفاعلة.

وفي الوقت الذي تعاون فيه مع إيران لدعم الرئيس بشار الأسد، كان بوتين يمنح “إسرائيل” هامشا من الحركة لاستهداف الوجود الإيراني على الأراضي السورية، وعمل على تعميق شراكة أخرى مع تركيا، كما وسّع طموحه الشرق أوسطي عبر الدخول في تحالف نفطي مع السعودية.

كانت قدرة روسيا على بناء هذه الشراكات مع جهات لديها تاريخ من العداء والتنافس فيما بينها علامة على براعة بوتين في فهم تناقضات الشرق الأوسط، وبقدر ما ساعدته هذه البراعة في توظيف هذه التناقضات لخدمة الأهداف الروسية في المنطقة، فإن إدارتها بطريقة لا تؤدي إلى الإخلال بتوازن القوى الإقليمي ولا تُهدد شراكات روسيا مع دول المنطقة، شكّلت على الدوام اختبارا لبوتين الذي نجح فيه بشكل معقول.

مع ذلك، فإنّ المخاطر التي تُحيط بعملية التوازن الروسي مع المنطقة تزايدت بعد الصراع الروسي الأوكراني، مع اعتماد موسكو المتزايد على طهران في المجالات العسكرية على وجه التحديد.

العلاقات الروسية الإيرانية الوثيقة ترجع لعقود طويلة، ولم يكن يُنظر لها في الإقليم على أنها تهديد كبير لمصالح الدول الأخرى مثل دول الخليج و”إسرائيل”، لكنّ هذه النظرة قد تتراجع الآن في ضوء تنامي هذه العلاقات بشكل أعمق في المستويات العسكرية، بالإضافة إلى توثيق الروابط الاقتصادية والتجارية معها والاستفادة من خبراتها في التحايل لعقود على العقوبات الغربية وبناء اقتصاد قادر على التعايش مع العزلة.

تعتمد موسكو بشكل متزايد على الأسلحة المقدمة لها من جانب طهران لمساعدتها في صراعها ضد أوكرانيا، إلى جانب الطائرات المسيرة الإيرانية التي يستخدمها الجيش الروسي بكثافة لاستهداف البنية التحتية الأوكرانية.

لجوء بوتين إلى بعض الأسلحة الإيرانية لاستخدامها في أوكرانيا ساعده جزئيا في معالجة النقص المتزايد في مخزون الأسلحة لديه في الوقت الحالي، لكن الاعتماد عليها قد لا يكون مناسبا من حيث التكلفة المحتملة على علاقات روسيا الأخرى في الشرق الأوسط.

قررت الولايات المتحدة قبل أشهر تزويد أوكرانيا بمنظومة الدفاع الجوي المتطورة باتريوت، وهذه الخطوة مصممة على وجه الخصوص لإضعاف فعالية الطائرات المسيرة الإيرانية والصواريخ الباليستية الروسية أو الصواريخ الأخرى التي يُمكن أن تحصل عليها موسكو من طهران.

بالنسبة لـ “إسرائيل” ودول الخليج، فإنّ حدود تسامحهما مع الشراكة الروسية الإيرانية تقف عند الحد الذي يُتيح لطهران الاستفادة من موسكو من أجل تعزيز ترسانتها العسكرية، ولا يزال من غير الواضح طبيعة التقنيات العسكرية المتطورة التي يُمكن لروسيا أن تقدمها لإيران مكافأة لها على الطائرات المسيرة أو الصواريخ الباليستية، إلا أن مجرد إثارة مثل هذه المزاعم يكفي لإثارة القلق في المنطقة.

في السنوات الأخيرة، أقامت موسكو شراكة مع “إسرائيل” ودول الخليج في جوانب متعددة، فمن جانب، أتاحت موسكو لتل أبيب حرية التحرك العسكري في سوريا لإضعاف محاولات إيران تعميق تواجدها العسكري في هذا البلد، ومن جانب آخر، أقامت تعاونا نفطيا مع السعودية والإمارات ضمن تحالف “أوبك بلس”، وأثبت هذا التحالف أهميته بالنسبة إلى روسيا في إطار مساعيها لمواجهة العزلة التي يفرضها الغرب عليها.

من المرجح أن يؤدي القلق الخليجي من احتمال تزويد روسيا إيران بتقنيات عسكرية متطورة إلى تردد دول الخليج في مواصلة تعاونها النفطي مع موسكو، كلّما رأت السعودية أن روسيا تدعم إيران بشكل نشط، زادت احتمالية أن تنهي الرياض تعاونها النفطي مع روسيا.

في حالة “إسرائيل”، فإن الكثير من مخاوف تل أبيب بشأن الشراكة الروسية الإيرانية تُركز على سوريا، أحد أسباب تردد “إسرائيل” في دعم أوكرانيا هو أن روسيا سمحت لها بالعمل بحرية في سوريا، لكن قدرة تل أبيب على الاستفادة من الموقف الروسي في سوريا في تراجع.

سحبت روسيا خلال الأشهر الماضية أنظمة الدفاع الجوي “إس-300” من سوريا من أجل تعزيز دفاعاتها الجوية في المسرح الأوكراني، مما أثار احتمال أن تسلم موسكو المزيد من المسؤولية لإيران في سوريا في وقت تركز فيه موسكو على أوكرانيا.

مع تقليص القدرة الروسية في الحفاظ على التوازن بين “إسرائيل” وإيران في سوريا، فإن بوتين قد يرى مصلحة في تأجيج الصراع الإيراني “الإسرائيلي”، وزيادة الضغط على الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من أجل صرف الموارد الأميركية بعيدا عن أوكرانيا، لكن مخاطر مثل هذه الاستراتيجية من المرجح أن تفوق أي مكافآت محتملة.

يمكن أن يوفر الهاجس الإقليمي من التعاون العسكري الروسي الإيراني فرصة للولايات المتحدة لإعادة تحسين علاقاتها مع دول المنطقة والعمل على إضعاف أو تدمير قدرة إنتاج الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية التي تعتمد عليها موسكو الآن.

أي جهد روسي لتقديم مساعدة عسكرية لطهران قد يضر بقدرة روسيا في الحفاظ على علاقات تعاون مع كل من دول الخليج و”إسرائيل”، إنّ حاجة موسكو للحفاظ على التوازن في علاقاتها في الشرق الأوسط تفرض عليها الأخذ بعين الاعتبار الضرر الكبير المحتمل على نفوذها في المنطقة عند التفكير في تعميق التعاون العسكري مع إيران.

محمود علوش - باحث في العلاقات الدولية

محمود علوش - باحث في العلاقات الدولية

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
عطاف يشارك بالقاهرة في اجتماع اللجنة الوزارية العربية المُصغرة نفذها الاحتلال جنوب غزة.. 40 شهيدا وعشرات المصابين في مجزرة جديدة أمطار رعدية على 9 ولايات هل سيحسم عمالقة التكنولوجيا نتائج السباق نحو البيت الأبيض؟.. مستقبل أمريكا في متاهة "السيليكون فالي" فشل ثلاثي الأبعاد.. المخزن يتخبط في مستنقع الإخفاقات انتقادات واسعة.. أداء سلطة الانتخابات في مرمى المترشّحين الثلاثة جهود التدخّل والإغاثة مستمرة.. إجراءات فورية للتعامل مع أضرار فيضانات ولاية بشار عائلته تستقبل التعازي في "بيت فرح وتهنئة".. الشهيد "ماهر الجازي" هدية الأردن لفلسطين وغزة العهدة الثانية للرئيس تبون.. أمريكا تسعى إلى ترقية التعاون الثنائي اختتام الألعاب البارالمبية في باريس.. الجزائر الأولى عربيا وإفريقيا وزارة التعليم الفلسطينية.. فتح مدارس افتراضية لأول مرة في غزة تعليم عالي.. استلام 19 إقامة جامعية جديدة بتكليف من رئيس الجمهورية.. عطاف في القاهرة ولقاءات مرتقبة مع نظرائه العرب الرئيس الصحراوي يوجه رسالة تهنئة إلى الرئيس تبون بعد فوزه بالعهدة الثانية.. اليامين زروال يهنئ عبد المجيد تبون جبهة البوليساريو تدين السياسة الإجرامية للاحتلال المغربي ضد الصحراويين أكد تمسكه بالعلاقة الاستثنائية بين البلدين.. ماكرون يهنئ تبون على إعادة انتخابه إجراءات عاجلة للتكفل بمخلفات الأمطار بولاية بشار وزارة التربية.. هذا هو موعد فتح المنصة الرقمية للتعاقد أسعار النفط ترتفع بأكثر من 1%.. وخام برنت يتداول قرب 72 دولارًا