مع فجر الفاتح الغُرّة من شهر آذار/مارس لهذا العام، والعالم يتأهب لاستقبال يوم جديد، كانت الجموع من أبناء المحروسة عاصمة ولي الله سيدي عبد الرحمن الثعالبي، تتهيّأ غبطة وحبورا، وتستعد بهجة وسرورا، للخروج زحفا باتجاه المحمدية حيث المسجد الجامع الأعظم حديث العهد بالنشأة والتدشين، راسخ العمارة شامخ المنارة، عند ملتقى وادي الحراش بخليج الجزائر، على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
احمرّ الأفق الشرقي وتوجع ليلد الشمس التي لم تتأخر عن موعد سطوعها، رغم سحائب الخير الغامر في هذا اليوم الماطر، وانبثقت أنوارها تشق جلابيب الظلمة والغمام، فاستنارت المدينة الحالمة الكتوم، وتحرك الناس في زحف مبارك رجالا وركبانا، زرافاتٍ ووحدانا، متأنقة المظهر متطهرة المخبر، تسارع الخطو شغفا وإيمانا، وتسابق الزمن ولعا وهياما.. ذلك أنه يوم مجيد من أيام الله في هذه الأمة لا يتكرر مرتين، وموعد تاريخي مشهود لا يستعاد تارتين، فأبى أكثر الناس بأن لا يفوتوا فضل الحضور الجليل، في هذا المشهد الحافل المهيب.
ما كاد النهار يصير ضحى، حتى بدأت الوفود الأولى للمصلين تلج البوابة الكبرى للمسجد الجامع، وظهرت الوجوه النيرة البهية مسفرة ضاحكة مستبشرة، جاءت تبتغي فضلا من ربها ورضوانا، من كل حدب وصوب هبّت ملبية نداء الحق الذي صدح بأنفاس الفتى الجميل والشيخ الجليل “ياسين اعمران”، وقد شقّ الرحاب بصوته النقي واخترق الآفاق بدويّه الشجي، مُؤَذِّنًا بمقام أندلسي خرافي الحسن والتمام؛ الله أكبر.. الله أكبر… حي على الصلاة.
تألم الكاردينال في قبره، وتعذب الأساقفة الرهبان هناك خلف البحر، وهم يسترقون السمع والنظر لما يحدث فوق أطلال سيدة الكنائس التي أرادها كبيرهم “لافيجري” ذات يوم، بأن تكون محجا لعموم الصليبيين من شتى أنحاء القارة الافريقية، وهو يصيح ويصرخ في الرحاب؛ أين أنت يا محمد..؟ في تحدٍّ طاغٍ للحق الذي يعلو ولا يعلى عليه، ليأتيه الجواب بعد قرن وعشرة أعوام؛ هنا المحمدية، نسبة لمحمد.. وهذا مسجدها الجامع نسبة لدين محمد.. وهذا أذانها يتكرر خمس مرات في اليوم والليلة؛ أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمدا رسول الله.. فاين أنت يا “لافيجري”..؟
يذكرنا المقام بموقف النبي محمد -ص- وهو يقول للشاعر “كعب بن مالك –ر-؛ أنتَ الذي قُلتَ:
زعَمَتْ سخينةُ أن ستغلِبَ ربَّها………..
………………..ولَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلاَّبِ
فقال كعب: نعم يا رسول الله
فقال له الرسول: أما إنَّ اللهَ لم ينسَ ذلكَ لكَ، وما كان ربك نسيا.
ومعنى البيت: أنَّ سخينة وهو لقب لقريش، بارزتْ ربَّها بالكفر والعناد، وحاربت الله ورسوله والمؤمنين، مدعية أنها ستغلِبُ ربها.. فرد عليها الشاعر بأنها عبثا تحاول، وأنها ستُهزَم لا محالة وستُغلَب.. فأثنى عليه ربه بأن ذكره في الملأ الأعلى.. وهكذا هو دين الله ثُغور شتىً، فلينظر كل واحدٍ على أي ثغرٍ جعله الله مُستخلَفاً وليحفظه جيداً، وليسده بلحمه ودمه، فهذا هو الجهاد والإخلاص والايمان.
وكذلك هو شأن الثغر الأكبر للمسجد الجامع الأعظم، حيث سخّر له الله من عباده الكثير؛ فمنهم من جعله على ثغر القرار ببناء بيته الكريم.. ومنهم من جعله على ثغر البناء والتشييد.. ومنهم من جعله على ثغر المتابعة والمراقبة في الميدان.. ومنهم جعله على ثغر الافتتاح والتدشين.. ومنهم من جعله على ثغر الأذان والصلاة.. ومنهم من جعله على ثغر الدعوة والمنبر والمحراب.
كانت الأجواء الروحانية خرافية جليلة، وكانت الفرحة عارمة أشبه ما تكون بفرحة يوم الاستقلال.. ذلك أنه إذا كان يوم الخامس جويلية عيدا وطنيا لاستكمال بسط السيادة الوطنية سياسيا وعسكريا على عموم البلاد.. وكان يوم الرابع والعشرين فيفري واحد وسبعين تسعمائة وألف عيدا وطنيا لاستكمال بسط السيادة الوطنية على عموم ثروات البلاد.. فإن افتتاح المسجد الجامع الأعظم هو استكمال لاستعادة السيادة الروحية للبلد، وحماية كيانها الديني من سطوة التطرف وعبثية التفريط، على المحجة النقية الوسطى كما تركها السلف الصالح من سادات عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك.
وقد حدّث في ذلك وأسهب، سيدي محمد مأمون القاسمي الحسيني العميد، وهو يخطب في الناس ويعظ، في أول منبر له مع أول جمعة في رحاب المسجد الجامع الأعظم، فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وأشار إليها إشارة ملمّ لبيب، وحاذق أديب وخطيب رتيب، من دون تنطع ولا تصنع ولا تطرف ولا تضييق؛ متزن الكلام موزون المعان، فهامة علامة حافظ رصين، صاحب حكمة وسيد فهم وغزير علم ضالع متين.. زاده الله بسطة في الجسم والعلم والفهم والسلامة والدين.. ونفع به الأمة وأجلى به الغمة.