في عام 1914 كتبت إحدى مجلاّت جزيرة كورسيكا الواقعة في خليج جنوى الإيطالي، والّتي تعيش تحت السّيطرة الفرنسيّة ضمن المناطق التي يسمّيها النّظام الفرنسيّ “أقاليم ما وراء البحار”، كتبت هذه المجلّة مقالا طويلا جاء فيه أنّ “كورسيكا ليست مقاطعة فرنسيّة، هي أمّة جرى غزوُها وعليها أن تخلق نفسها من جديد”.
كان هذا تعبيرا عن آمال قطاع واسع من سكّان الجزيرة، الّذين لم يُخمِد فيهم الإستعمار الفرنسيّ روحَ المقاومة، ولا نَفسَ القوميّة المحليّة، التي تُواصل باريس “خنقَها” عبر فرضِ اللّغة الفرنسيّة، ومَحْوِ لغة كورسيكا المحليّة كطريق لبسط هيمنتها على “جوهرة المتوسّط”.
في هذا الأسبوع عاشت الجزيرة مواجهات عنيفة بين السّكان الأصلييّن وقوّات شرطة فرنسا، على خلفيّة محاولة اغتيال قائد قوميّ كورسيكيّ مسجون في فرنسا، وبشكل سريع انتفض سكان كورسيكا و”استدعوا” روح الإستقلال الّتي لا تلبث أن تختفيَ إلّا لتعود.
تتميّز جزيرة كورسيكا الفرنسية، الواقعة في عرض السواحل المتوسطيّة ، بخصوصية تاريخية تجعلها مختلفة عن باقي الأقاليم الأخرى التي فَرضت فيها فرنسا سطوتَها وحكمَها بالقوّة العسكريّة، إذ تناوب على حكمها البرابرة والوندال، والإيطاليون والإنجليز، وعاشت سنوات من الاستقلال باسم “جمهورية كورسيكا” في أواسط القرن 18، ولم تصبح تحت السّيادة الفرنسية إلا في بداية القرن 19.
ولسكّان الجزيرة لغتهم الخاصة، وهي من عائلة اللّغات اللاتينية الرومانية، كما أنّ لهم عاداتهم وثقافتهم الخاصتين، اللتان تميزانهم عن اللغة والثقافات المشتركة بين الأقاليم الخاضعة لسيطرة النّظام الفرنسيّ.
هذه حقائق تاريخيّة عمليّة أثبتها أكثر من باحث ومؤرّخ من فرنسا نفسها، لذلك تبدو مطالب الإستقلال عن فرنسا منطقيّة وواقعيّة إلى أبعد الحدود.
وظهرت البوادر الأولى المطالبة بالإستقلال سنة 1914، إذ نشرت إحدى مجلات الجزيرة بياناً تقول فيه: “كورسيكا ليست مقاطعة فرنسية، هي أمة جرى غزوها وعليها أن تخلق نفسها من جديد”. وبعدها بستّ سنوات أُنشئ أول حزب يطالب بالحكم الذاتي في الجزيرة.
استقلال الجزائر..التحوّل الجذريّ
وفي نهاية سنوات الخمسينيّات،عرفت الجزيرة أولى الاضطرابات الاجتماعية، احتجاجاً على السياسات الضريبية لباريس، لكنّ التحوّل الجذري في النزعة الإستقلالية فيها، كان مع استرجاع استقلال الجزائر عام 1962 بعد ثورة تحريريّة قادها الشّعب الجزائري بهندسة قادة جيش وجبهة التحرير الوطنيّ الجزائريّيْن.
اعتبر الإستقلاليّون في كورسيكا، ثورة الجزائر مصدرا إلهامهم كغيرهم من شعوب العالم المقهورة بأنظمة استعماريّة، وكان أقبحها وأشدّها وطأة الإستعمار الفرنسيّ.
عام 1976 أسّس مجموعة مناضلين من كورسيكا “الجبهة الوطنيّة لتحرير كورسيكا”، التي ستقود بعد ذلك النّضال من أجل الإستقلال.
وتَمثّل عمل “الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا” على مستويين، أحدهما سياسي سلمي، والآخر مسلّح، ونفّذت الجبهة عدداً كبيراً من التفجيرات التي استهدفت المصالح الفرنسية، وحملة استهداف رجال الشرطة و رموز الإستعمار الفرنسي من السياسيين.
ودأبت الجبهة على تنفيذ ما سمّي وقتها بـ”الليالي الزرقاء”، وهي هجمات تفجيرية كثيرة تستهدف أماكن متفرقة من المدن الفرنسية في ليلة واحدة. وشهدت ليلة 5 مايو/أيار 1976 تنفيذ 22 تفجيراً في مدينتي نيس ومارسيليا.
وفي ليلة 31 مايو/أيار من نفس السنة نفّذ مقاتلوا جبهة تحرير كورسيكا 31 تفجيراً، لكنّ أكثرها شدّةً، كان ليلة 19 أغسطس/آب الّتي تخلّلها 91 تفجيراً دفعة واحدة، وهو ما يعكس حُبكة التخطيط لدى قادة الجبهة التحرّريّة.
ولأنّ حلف النّاتو كان من أبرز داعمي فرنسا، فقد كان هدفا لعمليّات جبهة التحرير في كورسيكا، إذ تمّ تفجير برج رادار في قاعدة سولينزارا التابعة للناتو، في يناير/كانون الثاني 1978.
ويقول مهندس تلك العملية، بانتاليون أليساندري وهو أحد قادة الجبهة، في مذكراته: “كنت أنا من اقترح تفجير سولينزارا، كنّا قادرين على تفجير أربعين من طائرات “ميراج” فرنسية كانت هناك، لكننا فضلنا أن نبعث رسالة سياسية قوية”.
كما خطّطت الجبهة ونفّذت عدداً من عمليات الاغتيال في حقّ رموز الإستعمار الفرنسيّ للجزيرة، أبرزها استهداف الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، بتفجير مطار أجاكسيو أكبر مدينة في الجزيرة، بعد دقيقتين من هبوط الطائرة الرئاسية فيه، لكنّ الرئيس جيسكار نجى بأعجوبة.
وبالنّظر إلى تصاعد العمليّات “الفدائيّة” لمقاتلي جبهة تحرير كورسيكا، فكّر عتاة المخابرات العسكريّة الفرنسيّة، في اختراق الجبهة وتقسيمها بعد عجز باريس عن مواجهة حرب العصابات التي شنّتها الجبهة التحرّريّة.
وبحسب تقارير إخباريّة فإنّ المخطّط الفرنسي بدأ تنفيذه بداية تسعينيّات القرن الماضي.
وعرفت الجبهة حينها “انشطارا” لمعسكرين، سيدخلان عام 1996 في حرب دمويّة بينهما، سرعان ما خمدت بعد استهداف الجناح المسلّح للجبهة، لمحافظ الجزيرة “كلود ارينياك” في 6 فبراير/شباط عام 1998 أثناء توجهه إلى حفل موسيقي مع زوجته، وهو أول محافظ “يغتال” في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية.
ومنذ اغتيال أرينياك، طوت القومية الكورسيكية في 2014 صفحة العمل المسلّح، لـ”تجرّب” النّضال السياسيّ، وانشطرت الجبهة إلى قسمين الأوّل يديره جان غي تالاموني، رئيس المجلس النيابي المحليّ، والثاني يرأسه جيل سيميوني، عمدة مدينة باستيا ثاني المدن الكورسيكية.
وشاركت الجبهة برأسيها، في انتخابات البرلمان الفرنسيّ في 2017، وفازت في صناديق الإقتراع ممثّلة بثلاثة نوّاب من أصل أربعة عن الجزيرة، ثم حصلت على أكثرية مطلقة في الانتخابات المحلية في ديسمبر/كانون الأول.
ووجدت باريس نفسها حينذاك “مجبرة” على منح الجزيرة سنة 2018 “وضعا خاصّا”، يسمح لها بصلاحيات إدارة ذاتية أوسع، لكن هل ستفي فرنسا بكامل وعودها؟
إلّا اللّغة الفرنسيّة!
توضّح الأحداث التي أعقبت هذا “التّفاهم الهشّ”، أنّ النّظام الفرنسيّ ليس مستعدّا لخسارة جنّة كورسيكا، واطّلعت “الأيّام نيوز” على تعريف موقع وزارة الخارجيّة الفرنسيّة للجزيرة، حيث يقول إنّها “كانت بلادا جنوية ثم أصبحت فرنسية، وهي متمسّكة بتقاليدها الحيّة وعاداتها العريقة التي تتجسد في الأغاني والموسيقى والفنون التقليدية”.
ومُذ سيطر الفرنسيون على الجزيرة في القرن الثامن عشر، عملوا على إحكام قبضتهم على الإعلام و التجارة، ممّا ساعد على نشر اللغة الفرنسية وقلّل من استعمال اللغة الكورسيّة.
ويتكلّم اللّغة الكورسيّة في الوقت الحاضر حوالي 10% من السكان، بالإضافة إلى ذلك، حوالي نصف سكان الجزيرة يستطيعون تكلم القليل منها.
وكثيرا ما تحدثّت جبهة تحرير كورسيكا عن غضبها من “ازدياد الأدب الاستعماري” و”الحديث البيروقراطي المتعالي”، وكأن “شيئاً لم يتغير في هذه المستعمرة الصغيرة”.
وتطالب الجبهة بالاعتراف أيضا بـ”الحقوق الوطنية للشعب الكورسيكي”، بما في ذلك المواطنة واللغة والثقافة، وإلغاء أيّ آثار للاستعمار الفرنسي.
وقبل عام أصدرت الجبهة رسالة إلى الفرنسيين “الذين يعتقدون أنهم في وطنهم على التراب الكورسيكي”، تقول “إن بلدنا ليس بلدكم، ولن يكون بلدكم بلدنا”.
وكان واضحا تمسّك النّظام الفرنسيّ بحماية اللّغة الفرنسيّة باعتبارها أداة ناعمة لاستمرار استعماره للجزيرة.
وأعرب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في زيارته للجزيرة، عن استعداده لـ”الاعتراف بخصوصيّة كورسيكا”، لكنه رفض مطالب القوميين الأخرى، رغم “وعده” بـ”تأييد ذِكر كورسيكا في الدستور الفرنسي”، وهو أحد المطالب الأساسية للتحالف بين مؤيدي الحكم الذاتي والانفصاليين.
لكنّ الرئيس الفرنسيّ، رفض بشدّة أن يعيد الحياة إلى اللّغة الكورسيكيّة، وأصرّ على فرض اللّغة الفرنسيّة كلغة رسميّة للإقليم، وقال ماكرون : “الفرنسية هي اللغة الرسمية الوحيدة في الجمهورية”.
وأضاف رئيس فرنسا أنّه “يجب الحفاظ على اللغة الكورسيكيّة وتطويرها” لكنه أكّد انه “لن يقبل أبدا بتخصيص هذه الوظيفة أو تلك لمن يتكلم اللغة الكورسيكية”.
وكانت كلمات ماكرون استفزازا حقيقيّا لقادة جبهة تحرير كورسيكا سواء الإستقلاليّين أو “الإندماجييّن”، حيث لم يصفّق أي منهم في ختام خطاب ماكرون.
وصرّح جان غي تلاموني أحد قادة الجبهة : “إنّها ليلة حزينة لكورسيكا”، معبّرا عن “الإستياء لمستوى الردود” التي عرضها ماكرون.
وتثبت تصريحات ماكرون في زيارته للجزيرة عام 2018، أنّ الحفاظ على سيطرة اللّغة الفرنسيّة في المشهد العامّ بكورسيكا هو مسألة حياة أو موت بالنسبة لباريس.
بذور الحقد
ونظّم رئيس فرنسا مراسم لـ”تكريم” ذكرى أرينياك، وهو الحاكم الفرنسي لكورسيكا الذي اغتالته جبهة تحرير الجزيرة، وشارك فيها ماكرون في مدينة اجاكسيو، حيث قال إنّ صورة الجزيرة “لطّخها الاغتيال الذي نفذه القومي ايفان كولونا المسجون مدى الحياة ولن يستفيد من أيّ نسيان ولا أيّ عفو”.
ووقعت كلمات ماكرون كالصاعقة على عائلة المناضل التحرّريّ الكورسيكي كولونا، إذ ندّدت العائلة بتصريحات ماكرون، واعتبرتها “إصرارا على الحقد الإستعماريّ الدفين”.
بعد هذه الحادثة بأربع سنوات، يدخل المناضل الكورسيكيّ المسجون في أحد المعتقلات الفرنسيّة، في غيبوبة ناتجة عن تعرّضه إلى هجوم “غريب” من طرف نزيلٍ متّهم بـ”الإرهاب”، في سجن آرل الفرنسي، بحسب الرّواية التي قدّمتها وجوه محسوبة على القضاء الفرنسيّ يوم 12 مارس/آذار 2022.
قبل ذلك خرج الآلاف في كورسيكا في مظاهرات عارمة، واندلعت اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة الموالية للنظام الفرنسي، ورصدت مقاطع الفيديو المتداولة عبر وسائل التواصل، حجم الفوضى والانفلات الأمني بالجزيرة، كما رصدت حجم الغضب الشعبي تجاه الحكم الفرنسي، ومدى رغبة المحتجيّن في الإستقلال عن فرنسا.
وهاجم المحتجون عدة مبانٍ حكومية وأضرموا فيها النيران، فيما اكتفى الإعلام الفرنسي بوصف الاحتجاجات، بأنها مجرّد غضب بسبب الإعتداء على “إيفان كولونا”.
وتسعى الحكومة الفرنسية منذ ذلك الوقت، إلى إخماد الأحداث المشتعلة في الجزيرة.
وحاولت “وجوه” النّظام الفرنسيّ في السّياسة والإعلام، تبسيط ما حدث من انتفاضة شعبيّة عارمة عليها، لكنّ تطوّرَ الوضع واتّساع رقعة الإحتجاجات دفع النّظام الفرنسي إلى برمجة زيارة لوزير الداخلية الفرنسي المعروف بمعاداته للأجانب جيرار دارمانان.
وقالت وكالة فرانس برس، إنه “سيتوجه إلى كورسيكا يومي الأربعاء والخميس لبدء محادثات مع “جميع المسؤولين المنتخبين والقوى الناشطة في الجزيرة”، مؤكداً أن “عودة الهدوء ضرورية لبدء الحوار”.
وأصبح إيفان كولونا منذ اعتقاله عام 2003، مُداناً في قضية اغتيال المسؤول الإقليمي في كورسيكا كلود إيرينياك عام 1998، ووجهاً قوميا للنّزعة الإستقلاليّة الكورسيكيّة، وهذا الحادث الذي أدين فيها منفرداً، هو أحدُ أطوارِ الأعمال المسلحة والاغتيالات، التي قادتها الحركة التحرّريّة ضد رموز نظام الإحتلال العسكريّ الفرنسي.
وأعادت الإحتجاجات العارمة التي تشهدها الجزيرة، مطالب سكان “جمهوريّة كورسيكا”، بأن تعود اللّغة الكورسيكية لغة رسمية إلى جانب اللغة الفرنسية التي تفرضها باريس على سكان الجزيرة فرضا.
كما تشكّل مسألة السّجناء السياسيين من الكورسيكيين أحد أهم المطالب، ويقول المطالبون بها إن “الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا سلَّمَت سلاحها وتخلت عن العمل السري والمسلح، وبالتالي فإن عهداً جديداً بدأ يفترض أن يرافقه صدور قانون عفو عام عن الذين حكموا، وأدينوا وسُجِنوا بسبب المطالب الوطنية”.
وبانتظار صدور قانون كهذا، فإن التحالف يطالب بأن “ينقل السجناء الكورسيكيون من سجون فرنسا ،إلى سجون الجزيرة نفسها، الأمر الذي سيسهل للأهالي زيارة أقاربهم ويخفف من الاحتقانات المرتبطة بوجودهم بعيدين عن أهلهم”.
وحتى الآن، ما زالت باريس ترفض قطعا الاستجابة للمطلبين معاً.