في جولته المكوكية إلى الشرق الأوسط، للوقوف على أنقاض مؤامرة مكتملة لم تكن إلا العالم صمتا وتواطئا، ووسط ركام ما خلفته المحرقة الصهيونية في أجساد العزل والأبرياء بغزة الصمود، وعلى هامش مرافعته لحق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها وعزته بكونه “اليهودي بن اليهودية” الذي دخل “تل أبيب” عشية طوفان أقصاها، بقبعته التلمودية وليس بصفته وزيرا لخارجية أمريكا، كما سبق وأن اعترف وأقرّ، عاد أنتوني بلينكن إلى ساحة المذبحة، وعكس جولته الأولى إلى “تل أبيب”، عشية السابع من أكتوبر، التي أبلغ فيها العالم بأن أمريكا هي “إسرائيل” وأن بايدن هو نتنياهو تحت أي ظرف، فإن “يهودي” البيت الأبيض أنتوني بلينكن، وفي جولته الجديدة، استوقفته مأساة الصحفي وائل الدحدوح وما تعرضت له عائلته من إبادة لم تستثن فردا منه ليبدي في سياق ذرف التماسيح لدموع الأنياب تأثره البالغ وأسفه وحزنه على ما تعرض له آل الدحدوح، لكن بمقابل نكتة وسيناريو ومفارقة دموع في عيون وقحة، فإن بلينكن يهودي الدم والانتماء والولاء، ورغم ما أظهره من تأثره بحجم مأساة وجرح الضحية وأطرافها المتناثرة في عراء عالم بلا قلب ولا إحساس، إلا أنه دافع عن حق الجلاد في إبادة ما شاء وذلك تحت مسمى أنه من حق “نتنياهو” وعصابته أن يقتلوا ويقصفوا ويدمروا وينهوا من شاءوا وما شاءوا، مادامت أمريكا بايدن قد وضعت يدها في يد الجزار حامية ومساندة ومدافعة عن حقه في القتل، تحت عنوان الدفاع عن النفس.
اليهودي بلينكن، الذي لا زال يتذكر قصة جدّه وما قال عنه يومها، أنها مأساة فرار وتشرد وتهجير تعرض لها في زمن وشتات ما، لم يستوعب في وقفته مع محطة عائلة وائل الدحدوح، كيف لرجل أن يتحمل ويحمل ذلك الصمود والتجلد الذي تنوء بثقله الجبال، ولعل هزيمته في جولته الشرق الأوسطية لترقيع بيت نتنياهو قد صدمته في صورة وائل الدحدوح، الذي رغم كل ما نزف منه، إلا أنه وجده واقفا في نفس الساحة والمساحة مدافعا، بما تبقى منه، عن حق أمة في قدسها وحق شعب في صموده. والأكثر من هذا وذاك، حق العالم في معرفة أن الصراع في غزة وفي القدس وفي فلسطين ليس صراع تراب ولكنه صراع إنسان هو الوجود، وهو حدود تلك الأرض وجذورها باسقة الثبات، ولا يهم في سياق المعركة وأتون نيرانها وحربها أي ثمن يدفعه آل غزة وكل آل الدحدوح على مختلف مشاربهم وصمودهم وتضحياتهم. وبعبارة أكثر وضوحا، فإن الدرس الذي قرأه وفهمه بلينكن في جولته الترقيعية لهزيمة كيان صهيوني فقد كل مبررات استمراره رغم كل الدعم الأمريكي والأوروبي ناهيك عن الخذلان والخيانات العربية، أن صمود وثبات “الدحدوح” ليس صمود شخص، ولكنه صمود أمة في صبر وتجلد جبل و”فرد” منها؛ لذلك فإن المعركة اليوم وغدا ليست إلا معركة ثبات وإيمان وقناعات هي مئات آلاف من العائلات التي رفضت أن تغادر أرض المحرقة رغم كل الأشلاء، ورغم كل ما استنزف وقصف ودمر واجتث في سيناريو التهجير الصهيوني الغاشم.
الدرس واضح. وغزة، ومن خلال آل الدحدوح، قالت لبلينكن ومن ورائه أمريكا وآل عجلهم من بني صهيون: “سوف نبقى هنا”..
بلينكن.. الوجه الأخير لدورة السقوط!
التحرك الأمريكي الأخير من خلال مهمة وزير خارجية أمريكا، أنتوني بلينكن، إلى الشرق الأوسط، لا يمكن وضعه إلا في خانة محاولة أخيرة من إدارة البيت الأبيض، ليس فقط لإنقاذ جو بايدن من المأزق، الذي هوى بحظوظه وشعبية حزبه بعد أن أغرقته مغامرة نتنياهو الوحشية في مستنقع دم، ولكنه رحلة للبحث عن مخرج لحكومة الكيان الصهيوني من مأزق عالمي، حمل عنوان الهزيمة النكراء، الذي يعايش العالم اليوم معالمها، بعد أن وجدت “إسرائيل” نفسها في منتصف الطريق، فلا هي قادرة على التراجع إلى الوراء، ولا هي قادرة على التقدم إلى الأمام وفصل نتائج المعركة؛ لذلك، فإن مسارعة بلينكن في جولته المكوكية ما هي إلا مشهد أخير من فصول هزيمة يراد لها أن تكون بأقل الأضرار والتداعيات؛ فغزة، في النهاية لم تسقط، ولم تنهار كما أن مسألة خضوع أهلها واستسلامهم ضرب ضروب من الخيال؛ والدليل، أن اسألوا آخر العنقود في عائلة الدحدوح، ليخبركم أن “وائل” الذي فقد كل أفراد عائلته تباعا، لا زال تحت سماء غزة يبحث عن غزة وعن قدسها بكل طوفان الصمود الذي بقى فيه ولا زال، حيث تحت كل ركام وأنقاض، وبالتوازي مع رحلة بلينكن، لا زالت العائلات في غزة تدفن موتاها من صغار وكبار في ذات الأرض، ليظلوا جذورا من ثبات أمة وقدس وإنسان..
المضحك المبكي في عزة أمريكا بإثمها، وهي تسبح على جماجم غزة، أن وزير خارجيتها، ورغم كل الأقنعة التي سقطت لتعري الحفلة التنكرية التي تدير فصولها الصهيونية العالمية، إلا أنه لا زال مدافعا عن يهوديته وكونه جزءا من منظومة دموية لم يعد لديها ما تخفيه، وهو ما تجلى في رفضه الصريح، لأي كلام عن وقف إطلاق النار، ناهيك عن مكابرة أمريكا ونفيها البائس من خلاله، لأي “إبادة” صهيونية تكون “إسرائيل” قد اقترفتها، وذلك في تموقع علني ضد قضايا جرائم الحرب التي رفعت ضدها لدى محكمة العدل الدولية، وهو الاستباق الذي لا تفسير له سوى أن قناعة أنتوني بلينكن بأن أي إدانة لـ “إسرائيل” هي إدانة لأمريكا بحكم أنها الطرف الذي ساند وشجع ودافع وحتى موّل بالعدة والعتاد تلك المحرقة..
بعبارة أكثر شمولية، فإن جولة بلينكن بالشرق الأوسط، وإصرار أمريكا على التمسك بحكومة نتنياهو وحمايتها من أي تبعات وتداعيات، هو دفاع عن النفس، وليس دفاعا عن “إسرائيل” فقط، لذلك فإن عزة إدارة جون بايدن للذهاب لآخر مشهد من المذبحة ضرورة اقتضتها معطيات الورطة الأمريكية في مستنقع الصراع، فسقوط “إسرائيل” هو سقوط لأمريكا بالضرورة، وإذا كان هناك إجماع على أن الكيان الصهيوني، كهجين في صفة دويلة، لا يمكنه الصمود شهرا واحدا دون أمريكا، فإن المغيّب في معادلة السقوط أن أمريكا ذاتها لا يمكنها أن تستمر إلا بـ”إسرائيل”، لذلك، فإن جولة بلينكن، بوجهها الحالي، إلى ساحة الشرق الأوسط، حرب بقاء، حماية للغد الأمريكي في المزارع العربية، وخاصة أن ما تداعى في المحرقة بعد طوفان الأقصى تجاوز مخاوف أمريكا لخسارة “دويلة” الكيان الصهيوني كواجهة لمصالحها، إلى خسارة عروش النفط العربي، وما يعني ذلك من أفول سيطرة وتحكم واستحواذ على مصادر القرار العالمي. وبعبارة خاتمة، جولة بلينكن في الشرق الأوسط تمخضت عن حقيقة واحدة مفادها أنه بين صمود الدحدوح وسقوط نتنياهو، خيط رفيع كشف لأنتوني بلينكن الفرق بين أن تكون جذور أرض في الدحدوح منها، وبين أن تكون مجرد نتنياهو هجين يقف وراءك “حفيد” جدّ هرب ذات شتات من أرض المعركة، ليصطدم بلينكن بحقيقة الفرق بين جدّه الهارب في قديم الفرار، وبين معنى أن تكون جذورا لأرض هي آل الدحدوح صمودا وثباتا وانتماء..