بعد أربعة عقود، اكتشف الإسرائيليون أن حكومتهم كذبت عليهم بشأن عملية تفجير مقر تابع لسلطة الاحتلال الصهيوني في مدينة صور جنوب لبنان عام 1982، إذ قيل وقتها إن ذلك الانفجار كان مجرّد حادث سبّبه تسريب غاز، والحقيقة أنه كان نتيجة عملية فدائية، واليوم مع تواصل معركة طوفان الأقصى التي تشنّها فصائل المقاومة ضد جيش الاحتلال الصهيوني، تلجأ سلطة الكيان كل مرة إلى الكذب –والتلاعب بالأرقام- بشأن خسائرها الفادحة، وبالمقابل، فإن المؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية تبالغ خلال الإعلان عما تسمّيه إنجازات، والسؤال: في حال جردنا (إسرائيل) من الكذب؛ ماذا يتبقى منها؟
أعدّ الملف: حميد سعدون – منير بن دادي – سهام سوماتي ===
إلى وقت قريب، كان يُسمى –في الرواية الصهيونية الرسمية- “حادثا”، ولكن، تغيّرت الأمور وأصبح يُسمّى “عملية”. الأمر يتعلق بـ”الانفجار” الذي وقع في مقر قيادة (الجيش) الصهيوني بمدينة صور اللبنانية، عام 1982، وأدّى إلى مقتل 76 جنديا صهيونيا، كان سببه هجوم بسيارة مفخّخة نفذه لبناني، وليس نتيجة تسرب غاز.
وعلى مدار 42 عاما، ظلت المقاومة اللبنانية تتبنى عملية تفجير المبنى، لكن الاحتلال الصهيوني كان يؤكد دائما على أنه مجرّد حادث عرضي، ثم حدث أن تشكّلت – في نوفمبر 2022- لجنة مشتركة من الأجهزة الأمنية الصهيونية للتحقيق في ماهية الانفجار، وخلصت في جوان 2023 إلى ضرورة تشكيل فريق تحقيق رسمي.
يوم الأربعاء 26 جوان، قالت صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية، في تقرير لها إن فريق التحقيق الذي تم تشكيله في ديسمبر 2023 لإعادة التحقيق في سبب انفجار مبنى مقر قيادة الجيش الصهيوني في صور بلبنان عام 1982، ستقدم نتائجها قريباً، وبحسب التقرير الأولي –حينذاك- فإن الفريق خلص إلى أن (الحادثة) لم تكن ناجمة عن انفجار أسطوانات غاز، بل كانت هجوماً نفذه حزب الله.
ومع أن معظم تفاصيل هذه القضية تم نشرها فعلا يوم 26 جوان 2024، في بيان مشترك لـ(الجيش الصهيوني وجهاز الأمن العام (الشاباك) والشرطة الصهيونية)، إلا أن التقرير النهائي –بشأن كل الحيثيات- أصبح رسميا يوم الأربعاء 3 جويلية 2024، إذ خرجت معظم الصحف بعناوين تشير إلى الحقيقة التي كانت معروفة سلفا، وقد تنكرت لها (إسرائيل) طيلة عقود، من أجل التستر على إخفاقها.
الانفجار وقع بعد الاحتلال الصهيوني للبنان في جوان 1982، واستهدف مقر القيادة العسكرية الذي أنشأه الجيش الصهيوني لإدارة المدن التي احتلها، فقد أصابت سيارة بيجو محملة بالمتفجرات المبنى الذي كان مكوناً من 7 طوابق. وقد أدى الانفجار إلى تسوية المبنى بالأرض، وقتل جراء ذلك 75 ضابطاً وجندياً صهيونياً من قوات (الجيش) والشرطة وعملاء الشاباك. بالإضافة إلى ذلك استشهد 14 أسيراً من اللبنانيين والفلسطينيين الذين كانت تحتجزهم سلطة الاحتلال. وأصيب 27 إسرائيلياً و28 عربياً بجروح أيضاً.
والآن يمكن القول، إن (إسرائيل) قادرة على إطالة “حبل الكذب” لعشرات الأعوام، ما يعني أن التقارير التي تنشرها اليوم حول خسائرها –عتاد وجنود- بسبب عمليات “طوفان الأقصى” وكذلك حول ما تخلفه مجازرها في حق أطفال ونساء غزة، ما هي إلا أكاذيب كان المفترض أن يتم اكتشافهما بعد عقود، لولا أن رجال المقاومة قرروا منذ البداية الاعتماد على إعلام حربي محترف، يقمع الكذب الصهيوني منذ البداية- ويفضحه قبل أن تمتد حباله.
طوفان الأقصى ينسف “سردية المظلومية “
نتائج التحقيق حول ما يسمى في الإعلام الصهيوني “كارثة صور الأولى” والذي صباح 11 نوفمبر 1982 في نهاية حرب لبنان الأولى، أثار حديثا موسّعا حول طريقة تعامل (إسرائيل) مع خسائرها خلال حروبها المختلفة بالمنطقة، أما في الحرب الجارية حاليا في غزة فإن الأرقام تعدّ إحدى أكبر أدوات التضليل التي حاول الاحتلال الصهيوني استخدامها ضد المقاومة غير أنه فشل في ذلك، ضمن ما يُعرف حرب السرديات.
ومن أبرز علميات التلاعب بالأرقام التي ضربت “سردية المظلومية” المحتكرة صهيونيا في العمق، (إسرائيل)، تلك التي اضطر جيش الاحتلال أن يقر بها، فقد كذب بشأن عدد قتلاه، إذ قلص الرقم من 1400 إلى 1200، زاعما بعد ذلك أنه اكتشف بأن 200 جثة متفحمة تعود إلى فلسطينيين، وفق ما أورده مقال للكاتب داود سليمان”.
فكلما تحدث جيش الاحتلال الصهيوني عن (إنجازاته) أو خسائره -خلال هذه الحرب- يأخذ “موضوع السردية الصهيونية والتلاعب في الأرقام مدى أكبر”، فقد زعم جيش الاحتلال أنه قتل أكثر من 10 آلاف من عناصر كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غاراته الجوية وعملياته. وفي 19 فيفري، نقلت صحيفة “تايمز أوف (إسرائيل)” عن الجيش الصهيوني قوله إن 12 ألف عنصر من حماس استشهدوا خلال الحرب.
وذكر داود سليمان أنه في منتصف جانفي، ادعى رئيس وزراء سلطة الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو أن جيشه “دمر” ثلثي كتائب حماس المقاتلة في غزة، لكنه لم يحدد رقما لعدد الشهداء من حماس، إلا أن ذلك أثبت تزييفه للوقائع إذ ما زالت المقاومة تكبد جيش الاحتلال خسائر في المناطق التي زعم أنه “طهرها”.
والمثير أن التشكيك بهذه الأرقام جاء من داخل الكيان ذاته، واستشهد داود سليمان بما كتبه عاموس هارئيل بصحيفة هآرتس “علينا أن نأخذ بحذر مناسب عدد القتلى من المقاومة الذين تصر (إسرائيل) على أنها جمعته من أجل توضيح نجاحاتها العسكرية”، وزاد هارئيل على ذلك بالإشارة إلى أنه “من المحتمل أن (الجيش) أيضا وقع في فخ الإحصاء المبالغ فيه الذي ألحق الضرر بالقوات الأمريكية في حرب فيتنام (1955-1975)”.
وعلى الجانب الآخر، عمد جيش الاحتلال والمتحدث باسمه دانيال هاغاري لإخفاء ما يتعرض له (الجيش) من خسائر في عدد القوات والآليات المدمرة، والدليل على ذلك جاء أيضا من داخل (إسرائيل)، وهنا استشهد الكاتب بما كشفته صحيفة يديعوت أحرونوت -في 9 ديسمبر 2023- أن ثمة فجوة كبيرة بين عدد الجنود الجرحى الذي يعلنه (الجيش) الصهيوني، مؤكدا أن المستشفيات الإسرائيلية استقبلت 4591 جريحا، في حين أعلن (الجيش) عن 1600 مصاب فقط خلال الفترة نفسها.
وكشفت يديعوت أحرونوت أن قسم إعادة التأهيل بوزارة الدفاع الصهيونية يستقبل يوميا 60 جريحا معظمهم إصاباتهم خطرة، ونقلت الصحيفة عن رئيسة القسم قولها –يوضح الكاتب- “إن أكثر من 58% من الجرحى الذين نستقبلهم يعانون من إصابات خطيرة في اليدين والقدمين” بما فيها تلك التي تتطلب عمليات بتر، وهو ما يشير إلى أن هؤلاء الجنود لن يعودوا للخدمة.
لكن اللافت أن الصحيفة ما لبثت أن سحبت تقريرها، ونشرت أعدادا أقل من ذلك بكثير، ووفقا للقناة الـ12 الإسرائيلية فإنه ومنذ بدء الحرب على غزة حدثت قفزة بمقدار 4 إلى 5 أضعاف في عدد المنشورات التي تخضع للرقابة العسكرية، وقد أشرف الرقيب العسكري على مئات الآلاف من المنشورات المتعلقة بالحرب.
نهاية زمن “تعميم التعمية”
كشف تقرير لموقع العين السابعة العبري أنه -وفي الـ50 يوما الأولى من الحرب على غزة- خضع نحو 6715 محتوى إخباريا للرقابة العسكرية، وفي ديسمبر 2023، فقد أصدرت الرقابة العسكرية الصهيونية تعليمات بشأن التغطية الإعلامية للحرب على غزة حظرت فيها على وسائل الإعلام تناول 8 قضايا من دون الحصول على موافقة مسبقة من الرقيب العسكري.
ورغم ذلك فإن (إسرائيل) تعلن أحيانا عن بعض خسائرها، وفي هذا الشأن يرى الكاتب والمحلل السياسي فيصل عبد الساتر أن “سياسة إخفاء الخسائر لم تعد تجدي نفعا” إذ عمدت المقاومة للتغلب على تلك السياسة بتصوير وتوثيق عملياتها وإظهار خسائر الاحتلال.
عام 2011، كشفت وثائق إسرائيلية سرية -للمرة الأولى منذ 42 عاما- فشل (إسرائيل) في معركة الكرامة يوم 21 مارس 1969، ومنحت المقاومة الفلسطينية قوة معنوية للانطلاق، وقد تم الكشف عن تلك الوثائق بعد صدور كتاب حول معركة الكرامة لـ”آشر بورات” الذي شارك في المعركة وفقد فيها ذراعه، وبعد ذلك الكشف ذكر يوسي ميلمان المحرر العسكري لصحيفة هآرتس الإسرائيلية أن الوثائق تظهر محاولات المسؤولين التغطية على الفشل.
وفيما يخص عملية صور الاستشهادية عام 1982، فقد عملت المؤسسات الأمنية الصهيونية على الترويج أن هذه العملية ليست هجوما للمقاومة، وقد تواطأت لجنة التحقيق مع توجه المؤسسة الأمنية وأكدت أن الانفجار وقع بسبب تسرب للغاز، ووفقا للمحللين فإن كشف هذه المعطيات يؤكد أن الاحتلال الصهيوني ومؤسساته الأمنية “يكذبون” في أعداد قتلاهم في عمليات المقاومة.
ووفقا لعاموس هارئيل في صحيفة هآرتس، يشكل الرأي العام الإسرائيلي “عاملا ذا أهمية كبرى” في الإعلان عن الخسائر بصفوف الجيش الصهيوني، إذ يرى الصحفي الإسرائيلي أن جزءا من الجمهور “يتأثر سلبا بالعدد المتزايد من الخسائر ويحصل تدريجيا على دفعة أقل من الإنجازات التي يتم تحقيقها”.
وهو ما يؤكده الباحث والمحلل السياسي أسامه خالد، إذ يعمد الاحتلال إلى إخفاء خسائره “لمنع تدهور الحالة المعنوية لدى الجنود والضباط بـ(الجيش) وعائلاتهم بشكل خاص، والمجتمع الإسرائيلي بشكل عام، وعدم شعورهم بقدرة الخصم على تنفيذ مثل هذه العمليات.
ويشير الباحث -في حديث تلفزيون- إلى أن هذا الأسلوب هدفه حرمان الخصم من نشوة النصر أو الشعور بالإنجاز، وبالتالي التأثير السلبي على الروح المعنوية لديه، ويضرب مثالا على ذلك بأنه “عقب العمليات التي توثقها المقاومة، يتم الإعلان عن قتلى من (الجيش) في حوادث مرورية دون إبداء مزيد من التفاصيل، وأيضا الإعلان عن قتلى سقطوا أثناء تنفيذ عمليات اغتيال سابقة بحق قيادة منظمة التحرير والمقاومة الفلسطينية وغيرها، مثل حادثة اغتيال خليل الوزير”.
وبعيدا عن الوثائق الصهيونية، يمكن سرد قصة عملية صور 1982، استنادا إلى عدة تقارير لبنانية:
في 11 نوفمبر عام 1982، كان الحاكم العسكري الصهيوني في مبناه المحصن بمدينة صور، يتأمل خارطة لبنان، البلد الذي يمكن “احتلاله بفرقة موسيقية” وفق تعبير وزير الحرب الصهيوني موشيه دايان، لكن فتى في 18 من عمره كان له رأي آخر وقوة هائلة وطريقة إقناع باللغة التي تفهمها (إسرائيل) تماماً: الدم والبارود والنار.
الاستشهادي أحمد قصير، الاسم الذي بقي مجهولاً حتى 19 سبتمبر 1985، مع وضوح تفاصيل العملية وأهدافها وتداعياتها. تلك التي جعلت وزير الدفاع الصهيوني والمشرف على الحرب أرييل شارون، يقف على أنقاض مبنى الحاكم باكياً فقد تبددَ مشروعه في احتلال البلاد.
أحمد قصير.. فاتح عهد الاستشهاديين
كانت الساعة قرابة السابعة، أي في الوقت الذي ينتهي فيه دوام الدوريات الليلة وتبدأ عمليات التبديل، ما يعني وجود عناصر التبديل الليلي والنهاري في المبنى إضافة إلى البقية. وكان مبنى مقر الحاكم العسكري الصهيوني المؤلف من 7 طوابق، تحتوي على مكاتب تابعة لمخابرات جيش الاحتلال، فيما خصص أحد الطوابق كمقر لوحدة المساعدة التي تتبع للقيادة العسكرية في المنطقة.
الطابق الرابع، مقر لمبيت الضباط والقادة والذي يبلغ عددهم إضافة إلى الجنود 141 عنصراً، والموكل إليهم القيام بمهام لوجستية وتنسيقية والارتباط. وكانت العمليات الإدارية داخله تستمر بإجراءاتها الروتينية في إدارة المجازر والعمليات العسكرية، عندما اقتحمت سيارة بيضاء اللون مفخخة بعبوة ضخمة، اجتازت الحواجز الأمنية، وأطبقت المبنى على من فيه ومن بينهم الحاكم العسكري، في عملية كانت بداية لمرحلة جديدة لم يكن كيان الاحتلال قد حسب لها حساباً.
وفي عام 2001، أعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أن هذه العملية هي أول عملية استشهادية من هذا النوع في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني: قيام شاب باستخدام سيارة مليئة بالمتفجرات واقتحام قلعة من قلاع العدو وتدميرها، وهذا يعني أن العملية سنّت سنّة حسنة في مجال المقاومة.
وقال نصر الله كنّا نرى وجه أحمد قصير مع كل استشهادي في لبنان يقتحم قلاع وقوافل العدو وما زلنا نرى وجهه يقتحم المجمعات العسكرية ومجتمع العدو في فلسطين… من يذكر تلك الأيام التي تميّزت بالتفوق الصهيوني والعلو، حتّى إن الواحد منّا ما كان ليجرؤ أن يحلم بمواجهة الإسرائيليين.. لكن بعد أشهر قليلة يفاجأ الصهاينة بهذا النوع الجديد من العمليات الذي لا يمكن استيراده لا من الولايات المتحدة ولا من الاتحاد السوفياتي، هذا النوع لا يمكن أن يصنع إلاّ من قيم وشرف هذه الأمّة”.
كانت العملية التي أعلنها حزب الله يوماً تكريمياً لشهدائه، بمثابة منعطف حاد في مسار العمليات العسكرية ضد الوجود الصهيوني في لبنان، وليس فقط لجهة كمية الخسائر التي تكبدها كيان الاحتلال وقتها، والتي كانت تعد الأضخم والأكبر في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني كما وصفها نصر الله، بل بالنهج الجديد الذي رسخ عند الشباب المقاوم والبيئة الحاضنة المقاوِمة والوطنية، في لبنان وخارجه، والذي لم يستطع كيان الاحتلال إلى اليوم أن يجد له حلاً، ولا زال طيف أحمد قصير يلاحقهم.
ولد أحمد جعفر قصير في بلدة دير قانون النهر، قضاء صور، عام 1963. وتربى منذ طفولته على المبادئ الأخلاقية والدينية، وتمتع بصفات وخصال نبيلة ميزته عن كثير من أترابه، وأرتبط اسمه بـ”يوم الشهيد” في لبنان، إذ أنه كان أول منفذ لعملية استشهادية ضد قوات الاحتلال الصهيونية في جنوب لبنان.
فبعد 5 أشهر و7 أيام على بداية الاجتياح الصهيوني، وسقوط آلاف الشهداء والجرحى اللبنانيين، فضلا عن آلاف المعتقلين، وقد مثلت تلك العملية تحولا تاريخيا في العمل المقاوم ضد الاحتلال الصهيوني، أثمر فرض التحرير في عام 2000 وانتصارا كاملا في عام 2006، فيما راكمت المقاومة منذ ذلك التاريخ قدرات وخبرات تشكل حتى اللحظة الرادع الوحيد أمام أي عدوان صهيوني على لبنان.
وفي سياق الحديث عن الكذب الصهيوني، رأى الكاتب “بي مايكل” في عموده بصحيفة هآرتس، جانفي الماضي أن جنوب إفريقيا اختارت رفع قضية ضد (إسرائيل) بتهمة “الإبادة الجماعية في غزة” وهي التهمة التي رأت فيها (إسرائيل) فرصتها للتركيز على محاولة دحضها، وبالتالي تحويل النقاش عن جميع الفظائع الأخرى التي ترتكبها في قطاع غزة، وهذا بالضبط ما حدث، عندما حطم المحامون الإسرائيليون كل الأرقام القياسية الممكنة فيما يتعلق بالدفع بالبراءة المزعومة، كما قال الكاتب الإسرائيلي بتهكم.
وأضاف “لقد أطلقنا النار فقط على (الإرهابيين).. لقد حذرنا السكان بالمنشورات. لقد حددنا لهم بالضبط أين يجب أن يذهبوا. ودمرنا الأحياء حتى يمكن تطهيرها وإعادة بنائها، وكأن (الإرهابيين) أقزام يختبئون خلف الأطفال أو غلمان يختبئون خلف النساء أو مصابون بهشاشة العظام يختبئون وراء كبار السن والمرضى والأطباء والصحفيين وذوي الإعاقة”.
ولتوضيح الحجم الهائل لمستوى الكذب والتضليل لدى فريق الدفاع الصهيوني، يقول مايكل إنه لو تم توصيل جهاز كشف الكذب بأحد المحامين الإسرائيليين أثناء خطاباته لانهارت شبكة الكهرباء في لاهاي، ولبقيت المدينة في الظلام حتى يومنا هذا.
تزييف الحقائق.. العلامة الصهيونية المسجّلة
أبرز الأستاذ والباحث في الشؤون الدولية، عبد الرحمان بوثلجة، أنّ الكيان الصهيوني ومنذ إنشائه وهو يتعمّد انتهاج ما يسمى بـ “سياسة الردع”، من مُنطلق أنه كيان دخيل عن المنطقة العربية وعن منطقة الشرق الأوسط، ومُحاط بشعوب ودول يصنفها في خانة “الأعداء”، فتجده دائما ما يعتمد على سياسة القوة العسكرية والردع والتخويف، وقد بقيت هذه السياسة صالحةً لعشرات السنين، بالنظر إلى القوة العسكرية التي يملكها خاصة في مجال الوسائل والآليات التي ظل الغرب يقدمها له على مرّ السنوات والعقود.
وفي هذا الصدد، أوضح الأستاذ بوثلجة في تصريح لـ “الأيام نيوز”، أنّ هذه المعادلة أو ما يعرق بسياسة الردع التي ينتهجها الاحتلال، تضررت كثيرا خلال السنوات الأخيرة، وذلك باعتراف مسؤولين سياسيين وحتى عسكريين لدى الكيان، الأمر الذي أضحى يُشكّل خطرا حقيقيا يهدد وجود “إسرائيل”، فالمستوطنون الذي قدموا إلى هذا الكيان من مختلف دول العالم، واستولوا على أرضٍ ليست بأرضهم وقاموا بتهجير سكانها الأصليين بعد الاعتداء عليهم وسلبهم ممتلكاتهم بالقوة، لا يستطيعون اليوم أن يبقوا على هذه الأرض إلا إذا أحسوا بالأمان، وتضرر سياسة الردع تجعلهم يفقدون هذا الشعور الذي تحوّل إلى حالة من الخوف والترقب والتوجس، الأمر الذي عزّز ما يسمى بالهجرة العكسية أي الهجرة من الكيان إلى مختلف دول العالم التي جاء منها هؤلاء المستوطنون.
في السياق ذاته، أشار محدثنا، إلى أنّ الاحتلال الإسرائيلي وسعيا منه إلى الوصول إلى تحقيق الأمن والأمان لهؤلاء، تجده يعتمد على الدعاية وينفق في ذلك أموالا طائلة من خلال استخدام أكثر الوسائل التكنولوجية تطورا في هذا المجال، بدعم وإسناد منقطع النظير من حلفائه من دول الغرب الاستعمارية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، هؤلاء المتواطئون الذين لا يدخرون جهدا أو وقتا في إظهار هذا الكيان المستبد على أنه أقوى “دولة” في منطقة الشرق الأوسط وإظهاره جيشه بصورة أنه لا يُقهر ولا يُهزم.
على صعيدٍ متصل، أفاد الباحث في الشؤون الدولية، أنّ الاحتلال ومن أجل الحفاظ على أمنه واستقراره، انتهج أيضا أسلوب التطبيع مع العديد من دول المنطقة؛ ومنهم حتى دول في الجوار بُغية التحالف معه من الناحية العسكرية، حتى يستقووا به على دول أخرى، لكن ما فعلته المقاومة خلال السنوات الماضية وخاصة من خلال معركة طوفان الأقصى بتاريخ السابع من أكتوبر الماضي، أثبت للجميع وبما لا يدع ُ مجالا للشك أنّ هذا الكيان لا يستطيع حتى أن يحمي نفسه؛ فما بالك أن يحمي دول أخرى.
في سياق ذي صلة، أوضح الخبير في السياسة، أنّ الكيان الصهيوني يتعمّد إخفاء الخسائر الحقيقية التي يتكبدها سواءً في الأفراد أو العتاد، وذلك بتوجيهات من الرقابة العسكرية حيث لا تتحدث القنوات والصحف عن الخسائر في وقتها، وتصف ما يجري من اشتباكات في منطقة معينة بـ “الأحداث الصعبة”، وبعد مدة يبدأ تسريب بعض المعلومات عن الخسائر، لكن حجم الخسائر الحقيقي لا يتم الإعلان عنه إلا بعد مدة، خشية إضعاف معنويات “المجتمع الإسرائيلي”، وخوفاً من ارتفاع معدلات الهجرة العكسية، كما حدث مؤخرا فبعد نحو 40 عاما أقرت لجنة تحقيق إسرائيلية أنّ تفجير مقر الحاكم العسكري في مدينة صور جنوب لبنان عام 1982 كان عملية فدائية وليست نتاج تسريب غاز، كما حاولت المؤسسة الأمنية والعسكرية “الإسرائيلية ” ترويجه طيلة عقود.
وأردف محدث “الأيام نيوز” قائلا: “إنّ المقاومة الفلسطينية وبعد كل عملية تنفذها ضد الاحتلال، تصدر بيانات تتحدث من خلالها عن حجم الخسائر التي كبدتها للاحتلال الإسرائيلي على أرض الميدان، وفي كل مرة تثبت صحة الأرقام التي تتضمنها بيانات المقاومة، إلا أن الكيان الصهيوني وحرصا منه على معنويات “مواطنيه” وجنوده يتحفظ على نشر هذه الأرقام والإحصائيات، حتى يتمكن هؤلاء من مواصلة الحرب، خاصة في ظل وجود حكومة متطرفة على رأسها بنيامين نتنياهو الذي يريد أن يبقى في الحكم تفاديا للمحاكمات التي تلاحقه منذ سنوات بسبب قضايا فساد، وهو الذي يعلم أنه في حالة ما إذا أعلن عن الخسائر الحقيقية سوف يثور ضده الصهاينة، ومن ثم ستسقط حكومته والأكيد أنه إذا سقطت الحكومة الحالية فإنها لن تعود أبدا، كما يؤكد ذلك الكثير من المحللين المهتمين بهذا الشأن”.
هذا، وأشار الباحث في الشؤون الدولية، أنّه وبالإضافة إلى كل هذه المعطيات، فإنّ “جيش” الاحتلال الإسرائيلي، لا يتصدى وحده للمقاومة الفلسطينية الباسلة على أرض الميدان، إنما يعتمد في ذلك على الكثير من المرتزقة الدين جيء بهم من مختلف أنحاء العالم، وبالتالي فهو يتفادى الإعلان عن مقتلهم ويعلن فقط عن أسماء القتلى الذين يمكن لاحقا اكتشاف هويتهم عن طريق الإعلام، أما البقية فلا يتم الإعلان عن مقتلهم، وهذه السياسة هي سياسة قديمة ينتهجها الكيان الصهيوني الذي يعتمد على سياسة الردع والدعاية الزائفة التي تأثرت كثيرا خلال المدة الأخيرة.
خِتاماً، أبرز الأستاذ بوثلجة، أنّ الأيّام أثبتت أنّ كل ما يُصرح به الكيان الصهيوني ومسؤوليه هو مجرد كذب في كذب، حتى أنّ الكثير من الحقائق أصبحت تظهر وبشكل جلي وواضح رغم المحاولات الحثيثة الني يبذلها الاحتلال في سبيل طمس وتزييف هذه الوقائع والحقائق، بما في ذلك حالة التخبط والانقسام التي تحدث حاليا بين “الجيش” الذي عجز عن مواصلة الحرب في غزّة وبين حكومة نتنياهو التي تريد استمرار هذه الحرب، حتى أصبح “الجيش” يعلنها صراحة أن هذه الحرب هي حرب عبثية ولا يمكن القضاء على المقاومة وأنه بحاجة إلى دعم وإلى كتائب أخرى، أي أصبحت تظهر الكثير من الأمور التي كان تخفيها حكومة الكيان في وقتٍ سبق، ومع الوقت سوف تظهر أمور أخرى وتظهر الخسائر الحقيقية التي تكبدها الكيان الصهيوني في حربه الشعواء التي يشنها على القطاع منذ نحو تسعة أشهر على التوالي.
كيف يخفي “جيش” الاحتلال خسائره ولماذا؟
بقلم: محمود العدم – كاتب وباحث سياسي مصري
في “إسرائيل” تخضع الإعلانات عن أيّ قتلى أو عمليات المقاومة إلى مقص الرقابة العسكرية أو منع من النشر، وهو قرار مُلزم يتم بموجبه منع نشر أي معلومات عن القتلى سواء من وسائل الإعلام، أو من المؤسسات الرسمية، أو من المستوطنين.
كما يمنع الاحتلال وسائل الإعلام الإسرائيلية من تداول ما تنشره فصائل المقاومة من مقاطع مصوّرة تظهر استهداف الجيش وتكبيده الخسائر.
التكتم على خسائره الحقيقية
يتكتّم “جيش” الاحتلال بصورة كبيرة على خسائره، وتحديدا البشرية، في المعارك الدائرة في قطاع غزة، لأسباب عدة، أهمها:
الحفاظ على معنويات الجنود على خط المواجهة من الانهيار.
تخفيف وقع الصدمة على الجمهور الإسرائيلي.
عدم إثارة الرأي العام ضد القيادة السياسية والأمنية.
التحسب من توليد ضغط سياسي وشعبي لإنهاء الحرب.
جزء من الحرب النفسية التي يخوضها ضد المقاومة، لأن الإعلان الحقيقي عن أعداد القتلى له تأثيره الإيجابي على الروح المعنوية والقتالية للمقاومين.
للمحافظة على السمعة التي بناها “جيش” الاحتلال عن نفسه داخل “إسرائيل” وحول العالم، وعدم كسر للصورة النمطية عن “أحد أقوى جيوش العالم”.
ترسيخ الثقة إقليميا ودوليا بالأسلحة ومعدات الجيش التي تؤمن له الحماية، سواء الآليات أو البرامج التقنية.
هكذا يخفي جيش الاحتلال خسائره
يعتمد “جيش” الاحتلال سياسة ضبابية في الإعلان عن خسائره البشرية في غزة، لذا نجد تفاوتا كبيرا لدى البيانات المتوفر عن خسائره، مما يؤدي إلى التشكيك في الأعداد، وهذه أهم الطرق التي يتمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف:
إخضاع الإعلانات عن أي قتلى أو عمليات المقاومة إلى مقص الرقابة العسكرية أو منع من النشر.
“الجيش” يخدع الجمهور بقوله: إنه لا يتم الإبلاغ عن العدد إلا بعد إخبار عوائل القتلى، لأن الإعلان عن العدد لا يقتضي ذكر الأسماء.
تستثني قوائم القتلى التي تصدرها المؤسسة العسكرية شرائح عديدة من القتلى.
يعرض “جيش” الاحتلال أموالا على عائلات بعض القتلى، خصوصا من اليهود الشرقيين والروس وبعض الدروز والبدو، مقابل التكتم على خسائرهم.
لا يعلن “جيش” الاحتلال عن القتلى من المرتزقة الذين يقاتلون في صفوفه.
“المجندون الوحيدون”، وهم الذين فقدوا عائلاتهم، أو جاؤوا إلى “إسرائيل” دون عائلات، وحصلوا على الجنسية “الإسرائيلية”، وهم غير المرتزقة.
“المجندون اللقطاء”، وعادة ما يتم الزّج بهم في مقدمة القوات المقتحمة، وهم “جنود إسرائيليون”، لكن دون كشوف مدنية، وليس لهم سجل مدني مرتبط بعائلات، وهذا شائع في المجتمع الإسرائيلي، وهؤلاء لهم أسماء مثل ليفي وكـوهين وديفيد، لكن العدو لا يتعامل معهم إلا كأرقام، ويدفنهم في مدافن خاصة بهم، وفي العادة يتم الزج بهم في مقدمة الصفوف.
لماذا يعترف ببعض الخسائر الثقيلة؟
لأنه مضطر لذلك، لطبيعة القتلى من أبناء العائلات والضباط وغيرهم، ممن لا يمكن إخفاء حقيقة مقتلهم.
توثيق المقاومة الفلسطينية لكثير من عملياتها ضد “جيش” الاحتلال، وضعت مصداقيته أمام جمهوره على المحك، لذا لا بد من الإعلان ولو عن بعض الخسائر.
كشوف المستشفيات ومراكز الجرحى والتأهيل والطب النفسي والمقابر، التي لا تستطيع أن تخفي أعداد ما يصلها من القتلى والجرحى.
الاعترافات التي يقدمها الجنود عن مقتل زملاء لهم في المعارك.
القتلى الذين تكشف عنهم بعض التحقيقات الميدانية، الذين يصبح من الصعوبة إمكانية إخفاء أعدادهم.
قتلى النيران الصديقة
ووفقا لبيانات “جيش” الاحتلال، فإن واحدا من كل 5 قتلى يسقط بنيران صديقة، وإن 17 بالمائة قتلوا بهذه الطريقة أو خلال حوادث في الميدان.
وتمثلت هذه الحوادث في إطلاق النيران بالخطأ ودهس جنود بدبابات “إسرائيلية” بالخطأ، وسقوط جدران على الجنود، أو أخطاء بالمتفجرات أثناء الاستعدادات للتدمير.
ومن أهم الأسباب التي تؤدي إلى القتل بالنيران الصديقة:
الخوف والارتباك أثناء الالتحام مع مقاتلي المقاومة.
ضعف التدريب وعدم التركيز نتيجة الإرهاق خلال القتال.
وجود مقاومة قوية على الأرض، تشتت وتوهن من قوة العدو.
طبيعة البيئة القتالية الصعبة التي فرضتها المقاومة من خلال حرب الشوارع.
بروتوكول هانيبال.. جندي قتيل خير من جندي أسير، وهو إجراء يستخدمه الجيش “الإسرائيلي” لمنع أسر جنوده، حتى لو كان ذلك بقتلهم.
ويسمح هذا البروتوكول بقصف مواقع الجنود الأسرى، وخلال حرب غزة، تأكد من خلال التحقيقات أن “جيش” الاحتلال قام بقتل إسرائيليين أو أفراد من جنوده تطبيقا لهذا القانون.
عقيدة المعسكر المسيحاني
أفرزت الحرب على غزة طبقة أخرى من طبقات الاختلاف بين “عنصري الصهيونية”، حيث يقدس أنصال اليسار “الإنسان الإسرائيلي”، ويريدون إنهاء هذه الحرب، في حين “يقدس اليمين الصهيوني الأرض”.
ويرى محللون إسرائيليون أن معسكر اليمين الاستيطاني “أخذ الأمة اليهودية رهينة”، وهو مصمم على بعث الرسائل التي تمنع انتقاد الحكومة وانتقاد جنود الجيش “القديسين” وقادتهم، وتحرّم إنهاء القتال.
وقال تقرير أعده أوري مسغاف، ونشرته هآرتس، إنّ هذا المعسكر يعتبر الجنود والرهائن القتلى “الإسرائيليين ” تضحية نبيلة وجديرة بالاهتمام على طريق الخلاص، وهم الطبق الفضي الذي ستنهض عليه “دولة يهودا”.
ووفق التقرير، فإن اليمين المتطرف يعتبر التعداد اليومي لجثث الإسرائيليين القادمة من أرض غزة “قدرا إلهيا”.
صدمة مجتمع
تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن خسائر فادحة في صفوف الجيش، ونقلت عن بيانات طبية أن المستشفيات تكتظ بالجرحى من العسكريين، وأن المقابر تستقبل أعدادا هائلة من الجثث.
وتشير التقارير إلى افتتاح مراكز لتأهيل أعداد كبيرة من العسكريين الذين أصيبوا بعاهات مستديمة جراء المعارك، ومن بين هؤلاء المئات ممن أصيبوا بالعمى.
وذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن قسم إعادة التأهيل في الجيش يستقبل يوميا حوالي 60 جريحا جديدا، من القوات الأمنية والاحتياطية، ولا يشمل ذلك العدد جرحى القوات النظامية.
وكشفت منظمة معاقي “جيش” الاحتلال الإسرائيلي أن عدد جرحى “الجيش” نتيجة الحرب في قطاع غزة قد يصل إلى 20 ألفا “إذا أدرجنا مصابي اضطراب ما بعد الصدمة”.
الاحتلال يطبق مقولة: “اكذب ثم اكذب حتّى تصدّق نفسك”!
بقلم: علي أبو حبله – محامي فلسطيني
إنّ معرفة التّاريخ وسير الأحداث هو الذي يمنحنا القدرة على فهم الحقيقة. ومهما طال الزّمن أو قصر ستظهر الحقيقة ويظهر الخداع، وهذا حال “إسرائيل” طيلة تاريخ اغتصاب فلسطين ومحاولات ما تبذله لتزوير الحقائق؛ وفي هذا تعتمد مقولة “اكذب ثمّ اكذب حتّى يصدقك النّاس”، الكثير منكم سمعوا هذه المقولة الشّهيرة وهي لجوزيف غوبلز، بوق الإعلام النّازي، ووزراء هتلر القمعية ضدّ حرية الفكر والتّعبير، ومع مرور الزّمن طوّر البعض هذه المقولة لتصبح “اكذب ثم اكذب حتّى تصدّق نفسك!”.
كيف لمستوطن أن يقتنع بأنّ فلسطين أرضه؟
والسّؤال كيف وصل المستوطن لقناعة أنّ الأرض الفلسطينية بأنّها أرضه؟ كيف اعتبر حاله نازح؟ والكلّ يعرف أنّ مصطلح النّزوح يعود للفلسطينيين والعرب الذين هُجِروا من أراضيهم بعدما طالتها الاعتداءات “الإسرائيلية” من عشرات السّنين.
والأكثر من هذا هو التّعاطف الغربي مع هذا المحتل “الإسرائيلي” أو “الأمريكي” بالأصح؟.
والأكاذيب على مستوى الأفراد يقتصر ضررها على فرد أو جماعة ما، لكن لا يتصوّر أحد أنّ كذبة كبرى قد تضرب مصالح وليس فقط مجتمعًا واحدًا، ولكن أيضاً بمصالح دولة، أو مجموعة من الدّول، وذلك ما يحدث بالفعل على المستوى الجيوسياسي الذي يبحث في علاقات المناطق أو الدّول بعضها بالآخر، حين يحترف القائمون على الأمور صناعة خلق الأكاذيب المحبوكة لتحقيق غايات بعينها، كما في حال الشّخص الكاذب، ولكن على نحو موسّع، ويعدّ هذا ضربًا من ضروب الدّعاية النّاجحة الفاعلة.
الارتقاء بالكذب إلى مستوى “وهم الحقيقة”
طوّر جوبلز (وزير دعاية هتلر) نظريته الدّعائية الشّهيرة “وهم الحقيقة” التي أصبحت ركيزته الأساسية في الدّعاية السّياسية والحرب النّفسية، وهو بذلك من أوائل من أرسى ودعّم نظرية الكذب الممنهج. وتعدّ نظرية جوبلز إحدى ركائز الأساليب الدّعائية، وتدرس حتّى الآن ضمن المقرّرات الدّراسية في المدارس، وكليات الإعلام، وأقسام الصّحافة في أوروبا والعالم، وتتردّد أصداؤها في عالمنا الحديث بقوّة، بل إنّ تلك النّظرية تعدّ أهم المدارس الإعلامية التي انبثقت منها نظريات عدّة بدّلت ليس فقط مسار السّياسة الإعلامية في العالم، بل أيضاً، المناخ الجيوسياسي للعالم أجمع، وكذلك أساليب الحرب الحديثة.
ونظرية جوبلز فيها جملته المتواترة “واصل الكذب إلى أن تتحوّل كذبتك حقيقة”. ولكي ترقى أيّ كذبة إلى مستوى “وهم الحقيقة” المنشود، يجب أن تنطوي الكذبة على ملامح من الحقيقة حتّى يصدّقها النّاس، بعبارة أخرى، يجب أن تسرد الكذبة كأنها أمر واقعي، ولكن بشكل مشوّه.
أضف إلى ذلك، يجب ألّا يتزعزع الكاذب عند ترديد كذبته، ويجب أيضاً الثّبات عليها بغضّ النّظر ما إذا كان يبدو للآخرين ضعيف الرّواية، أو حتّى ضعيف العقل لإصراره على رواية قد لا يصدّقها عاقل، لكن بمرور الوقت وبسبب ذلك الإصرار الملح، يبدأ الآخرون في تصديق الرّواية الكاذبة، ومعاملتها على أساس أنّها واقع، ومن هنا يتمّ خلق ما يسمّى بوهم الحقيقة، وهو الحالة التي يبدأ فيها الآخرون معاملة الأكاذيب والشّائعات على أنّها واقع محتوم.
السردية “الإسرائيلية” والتّلاعب في الأرقام
وفي الحرب الحالية على غزّة تعدّ الأرقام إحدى أكثر المفارقات التي سعى الاحتلال الإسرائيلي للتّلاعب بها، كما يقول المراقبون.
ومن أبرز علميات التّلاعب بالأرقام في معركة “طوفان الأقصى” التي تصبّ في مصلحة تفنيد “سردية المظلومية” التي أبدعت فيها “إسرائيل”، حين اضطرّ جيش الاحتلال إلى أن يقرّ بوقوع أخطاء في إحصاء عدد القتلى “الإسرائيليين”، عندما قلّص عددهم من 1400 إلى 1200، بعد أن زعم أنّه اكتشف أنّ 200 جثّة متفحّمة تعود لفلسطينيين.
السردية “الإسرائيلية” والتّلاعب في الأرقام أخذ مدى أكبر خلال الحرب عند حديث جيش الاحتلال الإسرائيلي عن إنجازاته والحديث عن خسائره.
فقد زعم جيش الاحتلال -عند الحديث عن المقاومة- أنّه قتل أكثر من 10 آلاف من عناصر كتائب عز الدّين القسّام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غاراته الجوية وعملياته. وفي 19 فيفري، نقلت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” عن الجيش قوله إنّ 12 ألف عنصر من حماس قتلوا خلال الحرب.
منتصف شهر جانفي، ادّعى رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو أنّ جيشه “دمّر” ثلثي كتائب حماس المقاتلة في غزّة، لكنّه لم يحدّد رقمًا لعدد القتلى من حماس، إلّا أنّ ذلك أثبت تزييفه للوقائع إذ ما زالت المقاومة تكبّد جيش الاحتلال خسائر في المناطق التي زعم أنّه “طهّرها”.
والمثير أنّ التّشكيك بهذه الأرقام جاء من داخل “إسرائيل” نفسها، حيث كتب عاموس هارئيل بصحيفة هآرتس : “علينا أن نأخذ بحذر مناسب عدد القتلى من الإرهابيين الذين تصرّ “إسرائيل” على أنّها جمعته من أجل توضيح نجاحاتها العسكرية”.
وأضاف هارئيل على ذلك بالإشارة إلى أنّه “من المحتمل أنّ الجيش أيضًا وقع في فخ الإحصاء المبالغ فيه الذي ألحق الضّرر بالقوّات الأميركية في حرب فيتنام (1955-1975).
وعلى الجانب الآخر، عمد جيش الاحتلال والمتحدّث باسمه دانيال هاغاري لإخفاء ما يتعرّض له الجيش من خسائر في عدد القوّات والآليات المدمّرة.
والدّليل على ذلك جاء أيضًا من داخل “إسرائيل” حين كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت – في 9 ديسمبر الماضي- أنّ ثمّة فجوة كبيرة بين عدد الجنود الجرحى الذي يعلنه الجيش “الإسرائيلي”، مؤكّدًا أنّ المستشفيات “الإسرائيلية” استقبلت 4591 جريح، في حين أعلن الجيش عن 1600 مصاب فقط خلال الفترة نفسها. وكشفت صحيفة يديعوت أحرونوت أنّ قسم إعادة التّأهيل بوزارة الدّفاع يستقبل يوميًا 60 جريحًا معظم إصاباتهم خطيرة.
ونقلت عن رئيسة قسم إعادة التّأهيل بوزارة الدّفاع قولها “إنّ أكثر من 58 بالمائة من الجرحى الذين نستقبلهم يعانون من إصابات خطيرة في اليدين والقدمين” بما فيها تلك التي تتطلّب عمليات بتر، وهو ما يشير إلى أنّ هؤلاء الجنود لن يعودوا للخدمة.
لكنّ اللّافت أنّ الصّحيفة ما لبثت أن سحبت تقريرها، ونشرت أعدادًا أقلّ من ذلك بكثير. ووفقًا لوسائل إعلام الاحتلال فإنّه ومنذ بدء الحرب على غزّة حدثت قفزة بمقدار 4 إلى 5 أضعاف في عدد المنشورات التي تخضع للرّقابة العسكرية، وقد أشرف الرّقيب العسكري على مئات الآلاف من المنشورات المتعلّقة بالحرب.
كما كشف تقرير لموقع العين السّابعة “الإسرائيلي” أنّه في الـ 50 يومًا الأولى من الحرب على غزّة، خضع نحو 6715 محتوى إخباري للرّقابة العسكرية.
الرّقابة العسكرية “الإسرائيلية” على وسائل الإعلام
وفي ديسمبر الماضي، أصدرت الرّقابة العسكرية “الإسرائيلية” تعليمات بشأن التّغطية الإعلامية للحرب على غزّة حظرت فيها على وسائل الإعلام تناول 8 قضايا من دون الحصول على موافقة مسبقة من الرّقيب العسكري.
ورغم ذلك فإنّ “إسرائيل” تعلن أحيانًا عن بعض خسائرها حيث يرى العديد من المتابعين والمحلّلين أنّ “سياسة إخفاء الخسائر لم تعد تجدي نفعًا”، حيث عمدت المقاومة للتغلّب على تلك السّياسة بتصوير وتوثيق عملياتها وإظهار خسائر الاحتلال.
وللتّدليل على سياسة الكذب والتّضليل، كشفت وثائق “إسرائيلية” سرية – للمرّة الأولى منذ 42 عامًا- فشل “إسرائيل” في معركة الكرامة يوم 21 مارس 1969، ومنحت المقاومة الفلسطينية قوّة معنوية للانطلاق. وقد تمّ الكشف عن تلك الوثائق بعد صدور كتاب حول معركة الكرامة كتبه آشر بورات الذي شارك بالمعركة وفقد فيها ذراعه.
وبعد ذلك الكشف ذكر يوسي ميلمان المحرّر العسكري لصحيفة هآرتس “الإسرائيلية” أنّ الوثائق تظهر محاولات المسؤولين التّغطية على الفشل.
وبعد ما يقارب أربعين عاماً من الكذب والتّضليل ومحاولة تلفيق رواية مغايرة، أقرّت لجنة تحقيق “إسرائيلية” أنّ تفجير مقر الحاكم العسكري في مدينة صور جنوب لبنان كان “عملية عسكرية” وليست نتاج تسريب غاز كما حاولت المؤسّسة الأمنية والعسكرية التّرويج له طوال عقود.
الكذب والتّضليل والخداع حفاظًا على معنويات الجنود
وكشفت صحيفة يديعوت أحرونوت أنّ لجنة التّحقيق في القضية تتّجه نحو الإعلان عن أنّ انفجارًا دمّر مقر الحاكم العسكري الذي كانت تتمركز فيه قوّات الاحتلال خلال احتلالها مدينة صور اللّبنانية، عقب الاجتياح صيف 1982 كان عملية للمقاومة.
وأدّت هذه العملية التّفجيرية إلى مقتل أكثر من 80 عسكريًا بين ضابط وجندي من قوّات الجيش وحرس الحدود، وإبادة وحدة كاملة من جهاز الأمن الدّاخلي (الشاباك).
فقد عملت المؤسّسات الأمنية “الإسرائيلية” على التّرويج وفق نظرية غوبلز بالكذب والتّضليل والخداع أنّ هذه العملية التّفجيرية آنذاك كانت بسبب تسرّب غاز وليست هجومًا للمقاومة، وقد تواطّأت لجنة التّحقيق مع توجّه المؤسّسة الأمنية وأكّدت أنّ الانفجار وقع بسبب تسرّب للغاز. ووفقا للمحلّلين فإنّ كشف هذه المعطيات يؤكّد أنّ الاحتلال الإسرائيلي ومؤسّساته الأمنية “يكذبون” في أعداد قتلاهم في عمليات الحرب على غزّة.
ووفقًا لعاموس هارئيل في صحيفة هآرتس، يشكّل الرّأي العام “الإسرائيلي” عاملًا ذا أهمية كبرى في الإعلان عن الخسائر بصفوف الجيش. إذ يرى الصّحفي “الإسرائيلي” أنّ جزءًا من الجمهور “يتأثّر سلبًا بالعدد المتزايد من الخسائر ويحصل تدريجيًا على دفعة أقل من الإنجازات التي يتمّ تحقيقها”، وهو ما يؤكّده الباحث والمحلّل السّياسي أسامه خالد، حيث يعمد الاحتلال إلى إخفاء خسائره لمنع تدهور الحالة المعنوية لدى الجنود والضبّاط بالجيش وعائلاتهم بشكل خاص، والمجتمع “الإسرائيلي” بشكل عام، وعدم شعورهم بقدرة الخصم على تنفيذ مثل هذه العمليات.
هذا الأسلوب المضلّل بالكذب والتّضليل والخداع يسعى لحرمان الخصم من نشوة النّصر أو الشّعور بالإنجاز، وبالتّالي التّأثير السّلبي على الرّوح المعنوية لديه.
وقد نجحت المقاومة في كشف الكذب “الإسرائيلي” وتعرية إعلامه حيث عمدت للتّوثيق، ويضرب على ذلك أنّه وعقب العمليات التي توثّقها المقاومة، يتمّ الإعلان عن قتلى من الجيش في حوادث مرورية دون إبداء مزيد من التّفاصيل.
إقرار الكيان الإسرائيلي وبعد أربعين عامًا عن واقعة تفجير مقر الحاكم العسكري في صور تثبت أنّه ومهما حاولت “إسرائيل” من سياسة الكذب والتّضليل من خداع “الإسرائيليين” وخداع العالم كما حصل في معركة طوفان الأقصى وتضليل العالم بأكاذيب وفبركات وتضليل عن قتل الأطفال واغتصاب النّساء إلّا أنّ الحقيقة كشفتها وسائل الإعلام “الإسرائيلية”، واستسلمت الصحافة الأمريكية عن المقولة “الإسرائيلية” لتسقط بذلك “إسرائيل” في حبائل الكذب والتّضليل وقد بات العالم اليوم أكثر انفتاحًا وأكثر علمًا، وقد سقطت بالفعل نظرية الكذب “الإسرائيلية” بهذا التحرّك الشّعبي الأوروبي والأمريكي والمندّد بجرائم بعد أن سقط القناع وباتت حقيقة “إسرائيل” وتحالفها مع أمريكا والغرب ولتسقط عنهما جميعًا عمليات الكذب وتكشف الحقيقة ووعي الشّعوب لها وارتداد الكذب والتّضليل على المجتمع “الإسرائيلي” الذي بات يشكّك في رواية حكومته، وقد سقطت كلّ ادّعاءاتها بتكشّف الحقيقة وزيف ادّعاءات هذا وانكاره للحقوق الوطنية والتّاريخية للشّعب الفلسطيني في فلسطين وكلّ فلسطين.