حقائق عن رجل الدبلوماسية الأمريكية.. هل كان “كيسنغر” عميلا للسوفيات؟!

أحدث جاسوس سابق ـ من عهد الاتحاد السوفيتي ـ بلبلة إعلامية من العيار الثقيل حين تحدث عن علاقة الدبلوماسي الأمريكي الراحل “هنري ألرفد كيسنغر” بالمخابرات السوفيتية.

وكان “يوري شفيتس” ـ صاحب قناة على موقع يوتيوب ـ قد أشار في مناسبات سابقة إلى “اهتمام” الدائرة الأولى في جهاز الاستخبارات السوفيتية بهنري كيسنغر مذ كان طالبا فأستاذا جامعيا، لكن الجاسوس المقيم حاليا في الولايات المتحدة ويعمل مستشارا لعدد من المؤسسات والشركات العالمية، ذكر في معرض تأبين عرّاب الإدارات الأمريكية تفاصيل غير مسبوقة عن تجنيد المهووس بالمال والنساء – على حد قول شفيتس – الذي أوضح أن المخابرات بما فيها السوفيتية تجد في الطامعين محبي الحياة الحلوة أهدافا سهلة، وكان كيسنغر أحد أدسم الأهداف.

جاء هذا الحديث بعد وفاة عملاق الدبلوماسية الأمريكية وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنغر عن مئة عام يوم الأربعاء 29 نوفمبر، بحسب ما أعلنت مؤسسته الاستشارية التي قالت في بيان، إن كيسنغر الذي كان وزيرا للخارجية في عهدي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وأدى دورا دبلوماسيا محوريا خلال الحرب الباردة “توفي في منزله بولاية كونيتيكت”، ولم يحدد البيان سبب وفاة كيسنغر الذي اشتهر ببنيته الصغيرة وصوته الأجش ولهجته الألمانية الطاغية.

الصيد الثّمين

ويروي شفيتس، الذي هاجر من روسيا بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي وتفكك أجهزته الاستخبارية إلى الولايات المتحدة، أنه عمل في واشنطن تحت غطاء مراسل وكالة تاس السوفيتية الشهيرة ضابطا في القسم الأول من جهاز الاستخبارات العسكرية (غرو) وأن إحدى مهامه مع فريق متخصص كانت تجنيد شخصيات سياسية واجتماعية مرموقة للعمل مع الاستخبارات السوفيتية إما بصفة عميل، أي أنه يقوم بما يكلف به لقاء مكافآت مالية، أو متعاون يقدم للجهاز المعلومات والمشورة إن اقتضى الأمر.

وعلى ذمة شفيتس، فإن كيسنغر صُنف قبل أن يجنّد رسميا على أنه “عميل” وتم إعداد ملف كامل عن الصيد الثمين وصل إلى مكتب نائب رئيس الجهاز الجنرال كربيتشينكو في انتظار الموافقة الرسمية على إطلاق إشارة البدء لمباشرة العميل الجديد مهام عمله والمكافأة المقررة لقاء التقارير المطلوبة.

ويقول شفيتس إن ” كيسا” كان الرمز المستخدم بين ضباط الجهاز المطلعين على الملف في واشنطن للتدليل على هنري كيسنغر، لكن الجنرال صاحب الخبرة السياسية الطويلة، وبعد تفكير عميق استدعى مساعده المسؤول عن ملف التجنيد وأبلغه قائلا:

“سيتم وضع الرفيق بريجنييف في صورة تجنيد شخصية سياسية واعدة في واشنطن من المحتمل جدا أن تتسلم مناصب رفيعة، وبالطبع فإن الخبر سيفرح بريجنييف ولكن بعد فترة قد يطالبنا الرفيق الأمين العام للحزب بأن يقوم عميلنا بتغيير قرارات أو اتخاذ خطوات تتعارض تماما مع إمكانياته ويعصي أوامر الجهاز، عندها سنقع في دائرة الاتهام والحساب من قبل القيادة”.

ولذلك، يقول شفيتس: لقد قرر الجنرال تأجيل النظر في ملف ( كيسا) ووضعه في الرفوف العالية، لكن السفارة السوفيتية في واشنطن سواء عبر سفيرها القدير المخضرم أناتولي دوبرينين أو أجهزة الاستخبارات لم تبعد “العميل المرشح”عن أنظارها .

فعلى مدى عقدي الحرب الباردة في الستينيات والسبعينيات نشأت علاقة تعاون وثيق بين السفير دوبرينين وهنري كيسنغر الذي صدقت نبوءة الجنرال كربيتشينكو بشأنه حين عينه الرئيس نيكسون مستشارا للأمن القومي ووزيرا للخارجية،  وأصبح أبرز علامة في الدبلوماسية الأمريكية، إذ لعب أدوارا حاسمة سواء في إبرام اتفاقيات للحد من التسلح وتخفيف المواجهة بين العملاقين النوويين آنذاك؛ – الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي – وصولا إلى الانفراج، أو على صعيد أزمات عالمية في مقدمتها الصراع في منطقة الشرق الأوسط.

التفاصيل لا تهم.. بل النتيجة

ووفق شفيتس، فإن كيسنغر أقام علاقة وثيقة مع السفير السوفيتي دوبرنيين الذي أشار في أكثر من صفحة عبر مذكراته الضخمة إلى أدوار شيخ الدبلوماسية الأمريكية حقبة الحرب الباردة، منوها بأن التفاهمات بينه وبين كيسنغر لم تتطلب بالضرورة إبلاغ القيادة السوفيتية والإدارة الأمريكية بكل تفاصيلها من منطلق أن أناتولي ( دوبرينين) وهنري( كيسنغر) كانا ينظران إلى القيادتين في موسكو وفي واشنطن على أنهم مجموعة من الكهول ليس بالضرورة أن تدخل معهم في التفاصيل بل المهم النتيجة.

ويذكر يوري شفيتس أن مستوى العلاقة القوية بين سفير موسكو وكيسنغر انعكس حتى في تخصيص مكان لا يجوز إشغاله لسيارة السفير السوفيتي في الموقف الخاص بالبيت الأبيض، الامتياز الذي لم يحصل عليه سفير دولة أخرى.

ومن الصعب التحقق من رواية الجاسوس السوفيتي المتقاعد المقيم منذ سنوات في واشنطن، والملاحظ أنه لا يلاحق من قبل السلطات الروسية بتهمة الخيانة كما حصل مع جواسيس سوفيات انشقوا قبل وبعد انفراط عقد الدولة السوفيتية ويعيشون في الغرب.

السؤال المنطقي

ويزعم شفيتس أنه لم يقدم معلومات للجهات الأمريكية تخص عمل أجهزة الاستخبارات السوفيتية في الولايات المتحدة وكان هاجر إليها خلال حقبة الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين التي اتسمت بالفوضى والانهيار والشراكة المطلقة بين موسكو وواشنطن، في ذات الوقت يرد السؤال المنطقي:

كيف يمكن لداهية مثل كيسنغر أن يتورط في التخابر مع العدو السوفيتي ويضمن عدم اكتشافه من الوكالات الاستخبارية الأمريكية التي كانت تراقب كل شاردة وواردة من موسكو؟ أم أن العّراب الشهير كان يخطط لما هو أبعد في خدمة مصالح واشنطن والكيان الصهيوني؟

إنها أسئلة يستحيل الإجابة عليها دون أن تفتح مغاليق الأرشيفات المحكمة!

مسيرته في سطور..

وللتذكير، فقد ولد كيسنغر في ألمانيا عام 1923، وطبع لعقود الدبلوماسية الأمريكية، حتى بعد أن ترك منصبه وزيرا للخارجية، وكان قد أطلق عجلة التقارب بين واشنطن وكل من موسكو وبكين في سبعينيات القرن الماضي. وقد حاز،  في 1973 تقديرا لجهوده السلمية خلال حرب فيتنام، جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الفيتنامي لي دوك ثو، لكن صورته لطختها محطات مظلمة في تاريخ الولايات المتحدة، مثل دوره في دعم انقلاب عام 1973 في تشيلي، وغزو تيمور الشرقية في 1975، فضلا عن حرب فيتنام، ولاحقه الجدل بعد أن ترك منصبه في عام 1977: فقد سحب منه كرسي في جامعة كولومبيا بعد احتجاجات طلابية، وأصبح من أشد المنتقدين للسياسة الخارجية لجيمي كارتر وبيل كلينتون، قائلا إن الرئيسين يريدان تحقيق قفزة سريعة للغاية نحو السلام في الشرق الأوسط. وهذا لا يتم بالنسبة إلى كيسنغر إلا بوصة ببوصة.

وبعد أحداث الـ11 سبتمبر، طلب منه جورج دبليو بوش أن يرأس التحقيق في الهجمات على نيويورك وواشنطن، لكنه اضطر إلى التنحي في غضون أسابيع – بعد رفض الكشف عن قائمة عملاء شركته الاستشارية، والإجابة عن أسئلة بشأن تضارب المصالح.

وعقد اجتماعات مع الرئيس بوش ونائب الرئيس ديك تشيني لتقديم المشورة لهما بشأن السياسة في العراق بعد هجوم عام 2003، وقال لهما إن “الانتصار على التمرد هو إستراتيجية الخروج الوحيدة”، وكان مؤثرا دائما، إذ أطلع دونالد ترامب على الشؤون الخارجية بعد انتخابه في عام 2017، وأشار إلى قبول استيلاء فلاديمير بوتين على شبه جزيرة القرم.

وبحلول الوقت الذي بلغ فيه سن 100 عام سنة  2023، كان قد غير وجهة نظره بشأن أوكرانيا، وبعد العملية الروسية، قال إن دولة الرئيس زيلينسكي يجب أن تنضم إلى الناتو بعد تأمين السلام.

اللا-أخلاقي

وكان هنري كيسنغر على صلة بقائمة واسعة من أصحاب النفوذ، وكان مولعا بالقول إن “السلطة هي أقوى مثير للشهوة الجنسية”، كما كان ذا شخصية مؤثرة تبوأ مركز السلطة خلال الأحداث الأكثر أهمية في القرن الماضي.

وما أثار غضب الكثيرين عليه أنه لم يعتذر أبدا عن سعيه الجاد إلى تحقيق مصالح الولايات المتحدة، وقال ذات مرة إن “الدولة التي تطالب بالكمال الأخلاقي في سياستها الخارجية، لن تحقق لا الكمال ولا الأمن”.

وظل كيسنغر حتى وفاته فاعلا على الساحة السياسية الدولية، ولم يثنه تقدمه في السن عن السفر ولقاء العديد من قادة العالم، وكان آخرهم الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي التقاه في جويلية الفائت في الصين.

حميد سعدون

حميد سعدون

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
مشروع التصفية الكبرى في غزة.. هل يسكت العالم على نكبة القرن؟ وكالة "عدل" تُفنّد اتهامات والي وهران محادثات في جدة حول أوكرانيا.. "دبلوماسية الفنادق" تفرض إيقاعها آفاق جديدة للتعاون الجزائري الإثيوبي في قطاعات حيوية نداء أممي لرفع الحصار عن غزة وإدخال المساعدات فورًا ديوان الحج والعمرة يعلن عن فتح بوابة برمجة رحلات الحج بالتعاون مع اليونسكو.. توثيق رقمي ثلاثي الأبعاد لموقع تيمقاد الأثري نهاية مسلسل الاختراق.. "إسرائيل" تزحف داخل المغرب الحكومة الفرنسية تعتبر إشادة تبون بماكرون خطوة نحو تجاوز الخلافات وزير الثقافة: "السينما الجزائرية تشهد ديناميكية حقيقية" بينما الأمم المتحدة تتفرج.. الاحتلال المغربي يستمر في قمع الصحراويين تحذيرات جوية.. عواصف رعدية وأمطار غزيرة بهذه الولايات في ظل تحديات إقليمية ودولية.. قرارات رئاسية حاسمة العلاقات الجزائرية الفرنسية.. الرئيس تبون يضع النقاط ويحدّد المسار الجوية الجزائرية تعلن عن تخفيضات استثنائية للجالية الوطنية بالخارج بالتنسيق مع وزارة الدفاع.. إجراءات استباقية لمواجهة أسراب الجراد رئيس الجمهورية يوافق على إدماج أكثر من 82 ألف أستاذ متعاقد في قطاع التعليم تحذيرات من خطر تمدّد الاختراق الصهيوني للنسيج الاجتماعي في المغرب "كناص" يُطلق خدمات رقمية جديدة عبر منصة "فضاء الهناء" نحو تعزيز التعاون الجزائري الإثيوبي في مجالات المحروقات والطاقات المتجددة