أزعجت الجلسة الصحفية لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون مع “لوبينيون” الفرنسية، والتي استغلها بدهاء كبير لتمرير رسائل سياسية “تاريخية”، وتبليغ مواقف الجزائر بصورة مباشرة، الكثير من المُرجفين وحركت مراقد المغرضين، وخلخلت عروش المتربصين وحلحلت لعثمة المنافقين.
إلاّ أن كبريات الصحف والقنوات العربية التابعة لتيار الانبطاح والهرولة، لم يثر اهتمامها سوى ردّ الرئيس حول سؤال تعلق بالكيان الصهيوني، عندما قال بالصريح الواضح “.. سنعترف بـ(إسرائيل) في نفس اليوم الذي تكون فيه دولة فلسطينية.. وهذا يسير في اتجاه التاريخ، فقد أوضح الرئيسان السابقان “الشاذلي بن جديد” و”عبد العزيز بوتفليقة”، بأنه ليس لدينا أي مشكلة مع إسرائيل، همنا الوحيد هو إقامة الدولة الفلسطينية..”.. في إشارة إلى أنّ موقف الجزائر تاريخي، وهو موقف دولة لا يمكن أن يتأثر بالدوافع الظرفية أو الموانع المزاجية.
الذين انتقدوا موقف الرئيس حيال احتمال التطبيع مع الكيان الصهيوني، جاءهم الردّ مباشرة من قلب الكيان ذاته، حيث دفع تصريح الرئيس “تبون” بحكومة “النتن-ياهو” إلى التعجيل برفع مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة أمام “الكنيست” للتصويت، وذلك لأول مرة في تاريخ الكيان، ليتبنى الصهاينة الأعضاء قرار حكومتهم بأغلبية 99 من أصل 120، في جنوح واضح نحو الغطرسة والصلف.
وهنا، يكون الكيان الصهيوني قد أقام الحجة على المطبعين من العرب خاصة، والسائرين على نهج التطبيع، بدافع الأمل في تحقيق حلم الفلسطينيين بإقامة دولتهم، بأن أفحمهم وفضحهم أمام العالم، ولم يترك لهم سوى فرصة مراجعة حساباتهم المفلسة، وإعادة النظر في مساعيهم الخائبة، فلا فلسطين ولا دولة ولا سيادة ولا أمل.
وبالتالي، جاء تصريح الرئيس “تبون” كصخرة ألقى بها على صفحة المستنقع الآسن للسياسة الصهيونية، فحرّك بها أغوار تلك الكائنات الباهتة، وجعلها تنفجر حنقا وحقدا، “لا اعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، حتى ولو نصت القرارات الأممية وحثت الإرادة الدولية على تحقيق حلّ الدولتين”.
إذا، فقد عرّى تصريح الرئيس “تبون” كوامن العقلية الصهيونية وأخرجها إلى العلن، وجعل الكيان في موضع تسلل واضح ضد قواعد اللعبة المتفق عليها بين كل دول العالم.. ليثبت فعلا، بأنه مجرد كيان مارق في أخلاقه، سارق في تاريخه، خارج عن القانون في سلوكه.
وأما ما تعلق بالعلاقات مع فرنسا الـ “ماكرونية”، فقد حدد الرئيس المسؤوليات وأوضح بأن “الكرة في ميدان الإليزيه من الآن فصاعدا، وذلك حتى لا نقع في شقاق لن يكون قابلا للإصلاح..”، محمّلا جماعة باريس وبالخصوص الرئيس “ماكرون” تداعيات تدهور العلاقات، حيث أفصح بأن “..المناخ مع فرنسا أصبح ضارًا، ونحن نُضيّع الوقت مع ماكرون..”.
فلجوء السلطات الفرنسية إلى عمليات الطرد والإبعاد بحق الرعايا الجزائريين الأسوياء، وإساءة التعامل معهم في المطارات والمحطات وحتى في الشوارع والميادين، وملاحقتهم كمجرمين، يعدّ عملا انتقاميا وعدائيا، في حين أنها تعمد إلى حماية مجرمين ومخربين ومنحهم الإقامة والجنسية وتوفر لهم الحماية.
وأما قضية المسمى “صنصال”، فهي مشكلة فقط بالنسبة لأولئك الذين اختلقوها، وأما مشكلته هو فمع العدالة الجزائرية، وهو بصدد مواجهة الاتهامات التي نسبت إليه من طرف المحققين، وأما المضحك في الحكاية كلها فقولهم بأن “صنصال” قد زاد من عزلة الجزائر.
وأما قضايا الذاكرة فمسألة عميقة وجب الخوض فيها بكل مسؤولية وأمانة، وليس معالجتها بصورة شكلية “..كمن يكنس الغبار ويجمعه تحت البساط”. وأما ملف تنظيف نفايات التجارب النووية بالصحراء الجزائرية، فيجب على فرنسا القيام بواجبها بصورة جدّية من “..الناحية الإنسانية والأخلاقية والسياسية والعسكرية..”.
كما أكد الرئيس بنظرة أفسح، بأن السياسة الخارجية للجزائر ومنذ استقلالها، تتمحور أساسا حول محوران أساسيان هما “عدم الانحياز وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان..”. ولذلك، “.. علاقاتنا مع دول المتوسط كلها ممتازة..”، سواء في التجارة أو في الاستثمارات والتواصل.
مع الولايات المتحدة الأمريكية، تظل “علاقاتنا جيدة كما كانت مع جميع الرؤساء الأمريكيين، سواء ديمقراطيين كانوا أو جمهوريين..”، في اعتراف صريح بموقف الأمريكان اتجاه ثورة التحرير العظمى، حيث لا يمكن “أن ننسى أبدًا أن الولايات المتحدة عرضت المسألة الجزائرية على الأمم المتحدة..”، ثم إنّ على أرض الولايات المتحدة الأمريكية “توجد مدينة قائمة بذاتها “تحمل اسم بطلنا القومي الأمير عبد القادر..”.
كما لا يمكن للجزائر أن تنسى بأن أكبر “مشاريعها في قطاع المحروقات كانت على عهد الرؤساء “بومدين”، “الشاذلي”، وكانت من إنجاز الأمريكيين..”.. غير أن الجزائر ترفض سياسة الكيل بمكيالين، فلا يمكن “إدانة روسيا في الأزمة مع أوكرانيا، بينما ينبغي الصمت في ضم الجولان –للكيان الصهيوني-، وإلحاق الصحراء الغربية-بالمملكة المغربية-..”.
وعلى ذكر الصحراء الغربية، أوضح الرئيس “تبون” بأن “…الجزائر تؤكد دعمها للصحراء الغربية، لأنها قضية استعمار وجبت تصفيته مهما طال الزمن، فالجزائر نالت استقلالها بعد احتلال دام 132 سنة..”.. ذلك أن التقادم لا يمكن أن يسقط الحق في الأرض وفي الحرية وفي الاستقلال.
في ذات السياق، ذكّر الرئيس بأن “المغرب كان أوّل من اعتدى على وحدتنا الترابية، بعد تسعة أشهر من إعلان الاستقلال”، وقد سقط بسبب تلك الحرب العدوانية ما يقارب ألف شهيد آخر. ورغم عدوانية النظام المغربي واستغلاله ورقة الجزائر أسوأ استغلال، تبقى “.. الجزائر في منطق رد الفعل، وليس الفعل مع المغرب..”، وفي سياق سرد تاريخي دامغ، ذكّر الرئيس بأن “..المغرب كان دوما ذا عقلية توسعية، بدليل أنه لم يعترف بموريتانيا إلا عام 1972م..”.
وحتى لا تطمس الحقائق في غمار تسارع الأحداث وزخمها، على المحللين والمتابعين للشأن المغاربي، أن يدركوا بأن “..المغرب كان أول من فرض التأشيرة على الجزائريين عام 1994م..”.. وحول سؤال عن قرار الجزائر القاضي بمنع تحليق الطيران المغربي في الأجواء الجزائرية، ذكّر الرئيس بأن ذلك كان بسبب “تنفيذه المغاربة مناورات مشتركة مع الكيان الصهيوني بالقرب من مجالنا الجوي، وهذا ينافي علاقات حسن الجوار..”، لكن وفي كل الأحوال والحالات، “علينا وضع حد لهذه الوضعية يومًا ما.. فالشعب المغربي شعب شقيق يستحق الأحسن..”، ختم الرئيس “تبون” شرح رؤيته الخاصة ومواقفه الشخصية، والتي هي نابعة أصلا من مواقف الدولة الجزائرية، والمطابقة دوما للشرعية الأممية وللأعراف الدولية.