“أشهدُ أمامَ الله، وأشهدُ أمام الضمير.. أنِّي ما قلت فيه إلاَّ الحقَّ، وما توخَّيتُ فيه إلاَّ الصدق..” بهذه الكلمات أنهَى المُؤرِّخ الجزائري “أحمد توفيق المدني” حديثَه عن مُذكِّراته “حياة كفاح”. وأضاءَ في الجزء المُمتدِّ ما بين (1925 – 1954) عراقةَ الشَّعب الجزائري وأصالته واعتناقه للحريَّة، فعلى امتداد أكثر من ثلاثة آلاف سنة كان ثائرًا ضِدَّ الغُزاة، فما أن تخبو له ثورةٌ حتى يُفجِّر ثورةً أخرى، وثورة التَّحرير الوطني كانت تتويجًا لكل ذلك التَّاريخ الثوري العظيم الذي تشكَّلت خلاله شخصيَّة الشعب الجزائري..
وأيضًا، أضاءَ “المدني” جوانب من النضال السياسي الجزائري ضدَّ الاستعمار الفرنسي، ودور جمعية العلماء المُسلمين الجزائريين، ودوره هو نفسه في هذه الجمعيَّة. كما أضاء زوايا حول “المناضل الشريف فكتور اسبيلمان، الصحفي النَّابِه، الذي يَدعوه المرحوم الامر شكيب أرسلان بـ (مَلاك الجزائر الحارس)”. وزوايا أخرى حول “ناصر الدين إتیان ديني، الفنَّان العظيم الموهوب، والمسلم الصادقَ المناضل الذي قدَّم الإسلامَ الطَّاهرَ النقيَّ إلى العالم الغربي بريشة الفنَّان الصادق، وبقلمِ الكاتبِ المُؤمن المقتنع”.
نعتقدُ بأنَّ القراءةَ التي قدَّمها “أحمد توفيق المدني” لكتابه، يُمكن اعتمادها كتقليدٍ ثقافيٍّ يقوم به الكاتب كلَّما أصدَر كِتابًا، فالأمرُ يُعرِّف جماهير القُرَّاء بما تُنتجه المطابعُ، ويقتصد في جُهد الدَّارسين والباحثين فيطَّلعوا على مئات الأوراق – من كتابٍ ما – في عشرات الأوراق، ومن طَرف الكاتب نفسه. كما يُمكن اعتبارُ الأمرَ بأنَّه عملية ترويج وإشهارٍ تفتقر إليها منظومة صناعة الكتاب في بلادنا، إلى درجة أنَّ أكثرية الكُتُب تُولَد، بعد مَخاضات عسيرةٍ للكُتَّاب، ثمَّ تنتهي إلى رفوف الغبار والنِّسيان دون أن ينتبه إلى وجودها القُرَّاءُ.. وفيما يلي، نتركُ القارئَ مع حديث “أحمد توفيق المدني” عن مُذكِّراته الذي نُشِر في مجلة “الأصالة” الجزائرية بتاريخ الأول مارس 1978..
المرحلةُ الثانية من “حياة كفاح”
أمَّا عن العهد الأوَّل، فقد ذكرتُ لكم ما به الكفاية في الجزء الأول. وأمَّا العهد الثاني فهو العهد الجزائري، منذ سنة 1925، إلى قيام الثورة العملاقة، ثورة الأحرار الأبرار، الأطهار، يوم غُرَّة نوفمبر 1954. فهذه الفترة الأولى التي استغرقَت ثلاثين سنة، خلال هذه الأرض الجزائرية المُطهَّرة، هي موضوع الجزء الثاني من “حياة كفاح”.
الشَّعب الجزائري.. ثلاثةُ آلافِ سنةٍ من الكفاح
إنَّ كفاحَ البلاد الجزائرية، كفاحٌ مَديدٌ وعَميقٌ. تالِدٌ وطريفٌ، له ابتداءٌ، إنَّما أكادُ أقول أنَّ ليس له انتهاء. فشعبُ الجزائر – وبهذا طفحَت كتُبُ التاريخ – شعبٌ أصیلٌ، نبیلٌ، تعشَّقَ الحريةَ منذ عهد ماسينيسا ويوغورطة، بل وما قَبلهما بكثير، وهامَ بالحرية صَبابةً ووَجدًا، وقدَّم خلال ما يزيد عن الثلاثة آلاف سنة، مواكبَ الأحرار في ساحِ الفدى، يتلو بعضها بعضًا دون انقطاع. فما أخفقَ مسعى إلاَّ وتلته مساعي أخرى، وما سقَط السيفُ من يدِ مقارعٍ بطلٍ، إلاَّ وتَلتقَّته أكُفُّ أبطال آخرين. إنَّه لَيسكتُ، أحيانًا، استجمامًا واستعدادًا حتى يَخاله الأعداءُ إنَّه قد لفَظ نفَسَه الأخير فوق الأديم، إنَّما نراه في لمحةٍ خاطفةٍ، ينقلبُ مارِدًا جبَّارًا، يصبُّ فوق هامِ الظَّالمين جام غضبِه، ويلهب كيانَهم بنارِ حقدِه، لا يبالي إطلاقًا بعدد مَن مات منه في ساحِ الاستشهاد، إنَّما هو ينظر من وراء أجداثِهم الطَّاهرة نورَ الأملِ البَسَّام في المستقبل الحُرِّ السَّعيد. ويرى نفسَه، وهو مُضرَّجٌ بدمائه، فإذا به ينشئُ الحياةَ ويحقِّقُ الأملَ، ويتبوأ مقعدَه الفسيحَ بين الأمم الحرَّة الحيَّة التي تحتلُّ مَقعدًا ثابتًا تحت أشِعَّة الشمس السَّاطعة. إنَّه أمَّةٌ من الأحرار، لا أمَّة من العبيد.
تَرونَنِي أصف ذلك الشعب الحيَّ الخالد وَصفًا دقيقًا، صادقًا، وأقدِّمُه في مذكِّراتي وهو يتململ، ويتنَوَّرُ الطريقَ، ويستعِدُّ لليوم الحاسم العظيم.
لقد كانوا يقولون عنه، زُورًا وبُهتانًا، إنَّه شعبٌ مُتخلِّفٌ، وإنَّه شعبٌ لا يهتمُّ في الحياة إلاَّ بلُقمةٍ مُلوَّثةٍ يزدردها.. وإنَّه آمَن إيمانًا عميقًا بقول الدَّجاجِلة الذين كذبوا عليه، وقالوا له: إنَّ الدنيا للكُفَّار، وإنَّ الآخرة للمؤمنين، والله يقول: “وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا” (الإسراء. الآية 72).
شعبٌ يفكِّرُ في القِمَّة..
كَلاَّ ثم كَلاَّ، لقد رأيته رأيَ العَينِ، لقد اندمجتُ فيه، واختلطت روحي المناضلة بروحه الثائرة. فإذا به لا يفكِّر في اللُّقمة، بل يفكر في القِمَّة. لا يريد الجردَ، بل يريد الحريةَ والمجدَ، لا يرضى سُكنَى القبور، بل يتطلَّع إلى مِيراث القُصور. لقد حقَّق لنفسه، بصدقه، وجهاده، وتضحياته المتواصلة، ما كان الكثيرُ من الناس يخالونه مستحيلاً. فما هي إلاَّ سنوات قليلة، حتى رأيناه يهبُّ عاصفةً هوجاءَ طاغيةً، تحطِّمُ الاستعمارَ، كلَّ الاستعمار وتحقِّق المجدَ، وتُسكِنُه القصورَ، تحت رايات الحرية الحمراء والاستقلال العزيز.
ووصفتُه، وأمعنتُ في وصفه، في ليالي قسنطينة الزَّاهرة، على أوَّلِ عهدي به. وما كان خلالها من حديثٍ مُهمٍّ، هادفٍ بنَّاءٍ، ووصفتُ رجالَه المَيامين بها، وهم يتخطّون عَتبات البطولة الصادقة كـ: عبد الحميد بن باديس، مبارك الميلي، ومن التفَّ حولهما من صانِعي المستقبل وبُناة الأمل.
وصفتُه في تلمسان الغَنَّاء، حديقة التاريخ، وواحة الأدب، بين آثار العظمة والمجد، وشبابُه وكُهولُه يتزاحمون بالمَناكب قَصدَ بلوغِ الهدف، وتحطيم الحنث الاستعماري البغيض.
وصفتُه في وهران، وقد خالَها الأعداءُ مدينةً ميِّتةً، ومقبرةً للأحياء. فإذا بها – منذ الساعة الأولى – مدينة الحياةِ، مدينة البَعث، مدينة النُّشور، نتذاكرُ علَّنا في جلساتٍ عامة حول المناهج المختلفة التي يجب على الشعب الأبيِّ أن يَسير على دربها، لكي يصل إلى أهدافه من أقرب طريق.
وصفتُه في هذه العاصمة الجزائرية، مَقرَّ الحكم الاستعماري ومركز الطَّاغوت الرَّهيب، فإذا به الشَّعب الصُّلب الفَخور الذي يسير على سُنَّة أسلافه المجاهدين الأوَّلين، غير هَيَّاب ولا وَجِلٍ. لم يؤثِّر عليه الاستعمار القاسي الفظيع، ولم يَسِر خلفَ الذين أرادوا سَوقَهُ – خوفًا أو طمَعًا – نحو التَّفرنُس، ونَبذ العقيدة والاندماج في الغالب المُحتَلِّ. فما كِدتُ أغتنمُ أوَّلَ فرصةٍ، لأصرخ فيه صرخةَ الحقِّ، وأدعوه إلى العمل في سبيل الثالوث المُقدَّس: الإسلام والعروبة والوطنية الأصيلة، حتى هبَّ جبَّارًا مُسطَّعًا، رغم أقليَّةٍ من دُعاة الهزيمة، أنصار الاستعمار.
“فكتور اسبيلمان”.. مَلاك الجزائر الحارس
وهكذا أمضي في وَصف الشعب، وفي كشفِ السِّتار عن ماسي الاستعمار الغادر، وفي ذِكر رجالٍ عَديدِين، أعتبرُهم من الأبطال، وكاد التاريخُ الحقُّ أن ينساهم ويتجاوزهم، وفي مقدِّمتهم رجلَين من الأوروبيين أدينُ لهُمَا بكلِّ احترامٍ وتقديرٍ، هُما المناضل الشريف “فكتور اسبيلمان” (يُكتب أيضًا: سبيلمان)، الصحفي النَّابه، الذي يَدعوه المرحوم الامر “شكيب أرسلان” بـ “مَلاك الجزائر الحارس”، والذي كرَّس كل حياته، وبذل كل جهوده وطاقته، في الدفاع الجريء عن الشعب المظلوم المهان، وفي محاربة الاستعمار حربًا شرسة هادفة، وكشفَ أعماله الإجرامية الخبيثة وأساليبه القذرة.
“ناصر الدين إتیان ديني”.. الفنَّان والكاتبُ
و”ناصر الدين إتیان ديني”، الفنَّان العظيم الموهوب، والمسلم الصادقَ المناضل الذي قدَّم الإسلامَ الطَّاهرَ النقي إلى العالم الغربي بريشة الفنَّان الصادق، وبقلمِ الكاتبِ المؤمن المقتنع. وإنَّنا إذ نقرأ ما كتَب مثل: “حياة محمد رسول الله”، التي ضمَّنها آيات بيِّنات من صُوَره الخالدة، ومثل كتاب: “الشرقُ كما يراه الغربُ”، وقد طعَن به أعداءُ الإسلام والكذَّابين والأفَّاكين من علماء الغرب طعنات نجلاء، لم تَقم لهم بعدها قائمة. وإذ نذكرُ أنَّ أحاديثه كلها، في مختلف الأندية الفرنسية، وكان من نُجومها اللاَّمعين، تدور دومًا حول المُنكَر الاستعماري، والفاقة والبأس والحرمان، التي أصبحت تحت حكم فرنسا، نصيبَ الجزائريين الأُباة..
تأسيس “نادي التَّرقي”..
وهكذا يستمِرُّ نمُوُّ النهضة العملاقة، وتعمُّ وتنتشر، إلى أن تُتوَّج سنة 1927 بتأسيس “نادي التَّرقي”، الذي كان دون ريبٍ حجَرَ الزَّاوية في هيكل الحياة الحرة الجزائرية، حياة العروبة والإسلام والوطنية الصادقة. وإنَّني خلال مُذكِّراتي هذه، لِاُمعِن في وصف النادي، وفي وصف رجاله ومُؤسِّسيه، وفي تفصيل أعماله ومَساعيه، وصفًا يجعل القارئَ شاعرًا بأنَّه عاش تلك الفترة، وشارك في هاتِيك الأعمال.
تأسيسُ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
ومن ثم يأتي دورُ الاحتفال المئوي الذي أقامه الاستعمار الأهوج، احتفالاً بمرور قرنٍ على احتلال الجزائر.. إذ كان ذلك اليوم الأسود المشؤوم، مَطلعَ هلالِ النَّهضة ومَنبع النُّور الجديد. أرادُوه يومَ تخليدٍ لموت الجزائر الأبِيَّة، وأراد اللهُ ثم الشَّعبُ أن يكون في الحقيقة يومَ بعثٍ، ويوم نشورٍ. كان يومًا فاصلاً بين عهد استعماري موبوء، وبين عهد نهضةٍ صادقة، صارخة، واستعدادٍ لليوم الآخر، العظيم.
لقد كان ردُّنا، في النادي ذلك الحادث، ردًّا حاسِمًا، قاطِعًا، جَسورًا، كان ردنا عليه، هو إقدامنا على تأسيسُ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وما أدراك ما هِيَة!
كان ردُّنا عليه، هو إقدامنا على تأسيس ونَشر الصُّحف الإسلامية الوطنية الحرة التي كانت تتكلَّم باسم الأمَّة، وتحمل شعورَ الأمَّة، وتبثُّ أنوار الهدى واليقين بين صفوف الأمَّة.
جبهة الدِّفاع عن الحرية..
وهكذا ومنذ تلك الساعة، استمرَّ التَّصاعدُ الوطني مُتخطِّيًا مَدارِجَ النموِّ، واستمرَّت الفكرةُ سائرةً في طريقها لا تَلوي على شيء. فكنتُ أُمعِن خلال ما كتبتُ في المُذكِّرات، في وصفِ الحركات الوطنية مثل “حزب الشعب الجزائري” و”حزب انتصار الحريات الديمقراطية” مع مصالي الحاج وأحمد مزغنة، وإضرابهم. و”حزب البيان الجزائري” مع عباس فرحات، والدكتور سعدان ومن إليهم. و”جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” مع ابن باديس، والإبراهيمي، والتّبسي، والميلي، ومن التفَّ حولَهم. والمؤتمر الإسلامي وشباب المؤتمر، مع الأمين العمودي.
ولم أنسَ ما نسِيَه الناس أو حاولوا نِسيانه، لم أنسَ جبهةً قوِيَّةً، ظهر فيها لأوَّلِ مرَّةٍ قُبيل الحرب التحريرية، تضامن حزب الشعب الجزائري، وحزب البيان، وجمعية العلماء المسلمين، وجماعة الشيوعيين، ومُمثِّلي المناضلين المُستقلِّين، وهي جبهة الدفاع عن الحرية.
قلمٌ في خدمة الجزائر والإسلام والعُروبة
ثم إنِّي ذكرتُ بين صفحات الكتاب شيئًا مِمَّا كنتُ أنشرُه كل شهرٍ بمجلة “الشِّهاب” من أول أعدادها إلى آخرها، حيث كنتُ أصرخُ بكلمة الحقِّ، وكنتُ أدعو الأمَّةَ لما يُحييها، وكنتُ أقول الكلمةَ المؤمنةَ التي كان غيري يُحجِم عن قولها، فقد صرختُ في “الشِّهاب”، في وجه الإدارة الاستعمارية، ودُعاة التَّفرنُس والاندماج، قائلاً: “كَلاَّ ثم كلاَّ، إنَّ الجزائر ليست فرنسا، ولم تكن الجزائر فرنسا، ولن تكون الجزائر فرنسا!”. ولم أنسَ خلال كل ذلك، ذِكر تفاصيل ما قامت به الحكومةُ من مناوراتٍ، وما أثارت من مشاكل، وما أيقظَته من فتنٍ بلغَت بها حدَّ إزهاق الأرواح من أجل اتِّهام الأبرياء وتحطيم الجماعات.
كما لم أنسَ ذِكر ما نُشِر بين الصُّحف الوطنية المختلفةِ المناهج، من مشاجراتٍ بلغَت حدَّ الاقذاع، وكيف تصدَّيتُ لكل ذلك، بإيمانٍ واقتناعٍ، إلى أن مَحوتُه ولم أُبق منه أثرًا، ونصرنِي اللهُ نصرًا عزيزًا.
موتُ الشهداء الأبرار.. وعيشُ السُّعداء الأحرار
وهكذا استمرُّ في البحث، وفي الوصف، وفي سرد الذكريات الصادقة، ذاكِرًا خلال ذلك ما أنتجتُه من كتبٍ مختلفة، خدمةً لقضية الإسلام والعروبة ووطنية الجزائر.. إلى أن كانت الحربُ العالمية الثانية العرمة، التي ساقوا إليها الأفواجَ العديدةَ من رجالِنا وأبنائنا، يتعذَّبون ويموتون في سبيل الغاصب المُحتلِّ، جبرًا وكرهًا. وكان الفرنسيون خلال تلك الحرب المُدمِّرة ينافقون، ويدجِّلون، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. حتى إذا ما وضعَت الحربُ أوزارَها، كان جزاؤنا عمَّا قدَّمناه لهم، “جزاء سِنِمَّار”، كانت مذابح 8 ماي 1945م، الرهيبة، الفظيعة، التي أَردُوا خلالَها ما يزيد عن الأربعين ألفًا من رجالنا ونسائنا وأبنائنا. ونادوا بغطرسة الجبناء: إنَّ فرنسا ها هنا إلى الأبد!
يومئذٍ، أيقنَ الشَّعبُ الأبي أنَّ لا حياة دون ضحايا، أنَّ لا حرية دون دم، أنَّ لا خلاص من الاستعمار إلاَّ بمعركةٍ قاسيةٍ، شرسة، طويلة الأمد، فيها موتُ الشهداء الأبرار وبعدها عيشُ السعداء الأحرار.
هكذا سار الشعبُ سيرَه المُوفَّق المطمئن يهيئُ للثورةِ إطارها، ويُوقد في المكامِنِ نارَها، غير عابئٍ بما عاناه من اضطهاد. فإذا ما دقَّت ساعةُ القدر. ونادى المنادي أن حيَّ على الجهاد، وثبَ الشعبُ وَثبةَ الأسد الهَصور، ووقَف عِملاقًا مواقِفَ البطولةِ والفداء التي لم يقفها شعبٌ آخر قَبله على ما أعلم، وهانَت عليه الأرواحُ فداءَ الحريةِ والاستقلال، فكانت الانتفاضةُ شاملةً عمَّت كلَّ أطراف البلاد، وارتوَت الأرضُ الطَّاهرة من دماء الشهداء الأبرار، من “سوق أهراس” إلى “تندوف”، ومن “ساحل المتوسط” إلى ما وراء “جبال الهقار”.. إلى أن حطَّمنا الاستعمارَ تحطِيمًا وأخرجناه ذليلاً حقيرًا، لا من أرض الجزائر وحدها، ولا من المغرب العربي فحسب، بل من كامل القارة الإفريقية، وإلى الأبد!
ما قلتُ إلاَّ الحقَّ
ذلك خلاصةُ ما ذكرتُه في كتابي الجديد (الجزء الثاني الذي صدَر سنة 1977)، وما أطنبتُ فيه من وصفِ الحوادث والرجال، أقدِّمه لكم، وأشهدُ أمامَ الله، وأشهدُ أمام الضمير.. أنِّي ما قلت فيه إلاَّ الحقَّ، وما توخَّيتُ فيه إلاَّ الصدق..