“تستهوي الجرعاتُ المُسَكِّنةُ أعماقَ الإنسان وينسى أنّها طريقُ النّفسِ نحو الإدْمانْ”
انطلاقا من هذه الكلمات أنتقل إلى تفاصيل أحوال تسللت إلى عمق المجتمع تدريجيا تحت غطاء العولمة.
في خضم التحولات الرقمية الكبرى، ظهرت الهواتف الذكية كعنصر أساسي في حياة الأفراد، لكنها أيضًا باتت تمثل ظاهرة تسللت إلى عمق الأسرة الجزائرية، لتترك بصمتها الواضحة، وإن كانت محمّلة بالإغراءات والمخاطر التي تفوق ظاهرها البراق، لقد أُغرمت النفوس بها، بحثًا عن راحة آنية أو هروبًا من واقع مرهِق إلى مساحات افتراضية غير مضمونة النتائج، ما أدى إلى شروخ واضحة في البناء الأسري والاجتماعي.
إذا كانت عناصر الهوية الوطنية ترتكز على الموروث الثقافي والحضاري، فإن العولمة الرقمية جاءت لتقلب موازين تلك الهوية، محملةً بمفارقات وأهداف خفية تعمل على إعادة تشكيل القيم، مستغلةً تقاعس الفاعلين في الحقل التربوي، هذه الأدوات التكنولوجية لم تُحدث فقط تغييرًا في نمط حياة الأفراد، بل أسهمت أيضًا في تعميق الفجوة بين الأجيال، حيث كان للتسارع التكنولوجي أثره الواضح على العلاقات الإنسانية داخل الأسرة.
نعمة أم نقمة؟
الهواتف الذكية لم تعد مجرد أدوات للتواصل، بل أصبحت جزءًا من الهوية اليومية للفرد، حيث يُلاحظ انتشارها الواسع بين جميع الأعمار، اليوم، نادراً ما نجد شخصًا لا يحمل هاتفًا ذكياً، وقد أصبح مشهد الأفراد المنهمكين في أجهزتهم مألوفًا إلى درجة التطبيع معه، الأطفال والمراهقون على وجه الخصوص باتوا أسرى لهذه الأجهزة، منغمسين في عالم رقمي يبعدهم عن واقعهم الحقيقي.
تفاقم الوضع، وزاد رباط الفرد الحميمي مع الهواتف، من خلال التباهي بآخر التحديثات والغوص في عالم التطبيقات، أمام صمت الأولياء ورضاهم طمعا في نيل الراحة وتجنب شغب الأولاد وإزعاجهم الذي كان قديما محمودا، كل هذه السلوكيات اعتمدها الكبار جهلا أو عمدا أدّت إلى برمجة العقول مع إفراز هرمون السعادة لدى الأطفال عند مداعبة الهاتف أو الإبحار في محتوياته، سرقت الآلة براءة الصغار فاستحكم قيدها وبات التحسيس والإرشاد كالنفخ في الرماد، والأخطار لو ندرك قادمة لا تنتظر وقد تصيبنا أشواكها إن لم نعد إلى الجادة.
غابت الجلسات الأسرية، المسافات بين أفرادها متقاربة لكن الأرواح هائمة، جفاء مع القريب وحكايات وقهقهات مع بعيد عبر الشاشة، يُسرق الإدراك في كل حين بإرادتنا وفي وضح النهار من كم الأفكار وكم التيار وكم الضمائر المستترة وراء الشاشات، تُظهر الوقار والهدف الخفي سيظهر ذات نهار.
من الضروري أن نستشرف الخطر ونستعد ونعد الخطط ونقف حصنا منيعا يصد إعصارا فكريا ويحمي الصغار الذين هم زهور غدنا المشرق، فمن الأمور المهمة التي أراها واجبة التنفيذ هي إعادة النظر في منظوماتنا الأسرية بوضع آليات لإقامتها وتأسيسها مع تكوين قبل الزواج، بإدراك الغاية والعودة إلى موروثنا ومرجعيتنا حتى نذهب بعد ذلك إلى التخطيط وضبط إدارة الأسرة من طرف الوالدين، مرافقةً وقدوةً وثقافةً واسعةً مع الإدراك التام بعلم نفس الطفل وحاجياته النفسية ومراحله العمرية وإدماجه منذ الصغر في مشاريع بسيطة حياتية من محيطه القريب من أجل نمو سليم ووضعه في مشكلات وإعطائه فرص لمحاولة حلها مع تفعيل الحوار وملء الأوقات إيجابيا لأن البحث عن البدائل والتفكير في محطات تشاركية تساهم بشكل كبير في تنمية المعارف وتوظيفها وتضمينها بالقيم السامية.
الأسرة مدرسة لابد من وضع برنامج ينظمها، بخطط وأهداف واضحة، مع متابعة وتقييم وتحفيز واستقرار وأمان وخطوات مدروسة ومعلومة المسار، بالإضافة إلى برمجة جلسات وحوارات وخرجات ولو قليلة لكن الأهم فيها ربطها بأهداف وغايات رسالية.
كما أن ترابط الهيئات والمؤسسات والنوادي يكون بالتنسيق والعمل في فريق يدرك خطر الوسائط التكنولوجية إن لم تكن لها ضوابط، فالأسرة بلقاءاتها الداخلية وتفعيل الجلسات الغائبة، واجتماعاتها الدورية مع الفاعلين في الحقول التربوية هو ضرورة، والتكامل وتوحيد الأهداف واستشراف الأخطار الناجمة من الهواتف الذكية أكثر من ضرورة.
لابد أن ندرك أننا تجاوزنا مرحلة التحسيس، ودخلنا مرحلة المشاريع التي نوظف فيها الإدمان على الهواتف بشكلٍ ايجابي، في بحوثهم ومسابقاتهم وحواراتهم ومشاهداتهم منذ الصغر بالتوجيه والجلوس معهم، وربط الآلة بالمكتوب، ألعاب هادفة، بحوث تاريخية، مسابقات فكرية، التوجيه إلى المحتوى الهادف والمؤثر القدوة، ولا نتركهم للذئاب البشرية، فضبط العلاقة مع الهاتف واكتشاف مفاتيح استعمالاته وإدراك أخطاره بتجارب يراها رأي العين كفيل بتنشئة سليمة تحصن الجيل وتجعله يميز الخبيث من الطيب وسيكون جبلا بأخلاقه ومبادئه وبحلقات أجيال متتالية لن تهزه رياح نتنة تريد أن تفرق كي تسود.
ختامًا، الأسرة هي الأساس الذي يُبنى عليه المجتمع، إذا استطاعت أن تحقق توازنًا بين استخدام التكنولوجيا والمحافظة على القيم والتواصل الحقيقي، فإنها ستنجح في بناء جيل قوي ومتماسك، قادر على مواجهة تحديات المستقبل.