يقضي القيادي في حركة فتح الفلسطينية “مروان البرغوثي” – المحكوم عليه بالسجن المؤبد من قبل الاحتلال الصهيوني – أيامه داخل زنزانة انفرادية، مظلمة وضيقة، حيث لا يستطيع معالجة جراحه، إثر تعرّضه لإصابة في الكتف، بعد أن جرّه سجّانوه – في محاولة يائسة للنيل من كبريائه – وكانت يداه مُقيدتين خلف ظهره، ورغم ذلك، فإنّ شعوره العميق بالحرية الداخلية يمنحه القدرة على تجاوز الألم، موجها بذلك أكبر عقاب للكيان الصهيوني، الذي يرتعد من بطل فلسطيني يعيش تحت الأسر منذ أكثر من عقدين.
كشف تقرير لصحيفة “ذا غارديان” البريطانية عن تعرّض مروان البرغوثي القيادي الأسير – في سجون الاحتلال منذ عام 2002 – إلى أشكال عدة من التعذيب، حيث يشنّ السجانون الصهاينة حملة انتقامية بشعة ضد الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات المعروفة ومراكز الاحتجاز السرية، وقد بدأت هذا الحملة مع لحظة اندلاع الحرب الصهيونية الدموية على قطاع غزة في 8 أكتوبر 2023.
وبرز اسم مروان البرغوثي المعتقل منذ سنة 2002 بشكل متكرّر خلال مفاوضات صفقة تبادل الأسرى المتعثرة بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي، إذ تصرّ الحركة على إطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين بينهم عدد كبير من ذوي الأحكام العالية. لكن منذ بدء الحرب الصهيونية على غزة، ضاعف الاحتلال أعداد الأسرى في سجونه، لتصل إلى قرابة 9 آلاف أسير وأسيرة، إضافة إلى عدد غير معلوم من المخفيين قسريًّا ممن اعتقلوا من داخل قطاع غزة.
وخلال هذه الفترة العصيبة، شنّ الاحتلال حملة تعذيب وتنكيل بالأسرى، ما أدى إلى استشهاد عدد منهم وسط حالة اكتظاظ غير مسبوقة في السجون. ونقل تقرير الصحيفة عن معتقلين سابقين إفادات عن تعرضهم للضرب والعنف الجسدي بانتظام، إلى جانب الافتقار إلى الرعاية الأساسية، بما في ذلك محدودية الطعام، وعدم إمكانية الحصول على ملابس نظيفة، أو مواد للقراءة، أو بطانيات دافئة، أو منتجات النظافة أو الرعاية الطبية.
استهداف الرمز
وكان مروان البرغوثي بما يمثله من رمزية فلسطينية بصفته قائدًا في فتح يعيد إلى أذهان الفلسطينيين ماضي الحركة في مواجهة الاحتلال، ومحركًا محتملًا لتغيير شامل في السلطة الفلسطينية الحالية، من بين الأسرى المستهدفين على وجه الخصوص.
وذكرت الصحيفة أنّ البرغوثي قال لمحاميه خلال زيارته لسجن مجدو في مارس الماضي، إنه “في وقت سابق من ذلك الشهر تم جره إلى منطقة في السجن لا توجد فيها كاميرات أمنية وتم الاعتداء عليه. ويتذكر أنه كان ينزف من أنفه عندما تم جره على الأرض من أصفاد يديه، قبل أن يتعرض للضرب حتى يفقد وعيه”.
وبحسب “ذا غارديان”، أحصى دوتان كدمات في ثلاثة أماكن على الأقل على جسد البرغوثي عندما زاره بعد أسابيع، مضيفًا أنه من المحتمل أن يكون مصابًا بخلع في الكتف بسبب الاعتداء ويعاني ألمًا مستمرًّا، لكن مسؤولي السجن رفضوا إجراء فحص طبي كامل لإصاباته. كما تم نقله إلى ثلاثة مرافق احتجاز مختلفة منذ أكتوبر 2023، حيث احتُجز في كل مرة في الحبس الانفرادي. وقال دوتان للصحيفة إنّ البرغوثي تعرض في سجن أيالون في ديسمبر الماضي “للضرب عدة مرات”، بما في ذلك حادثة شتمه فيها الحراس بينما كانوا يجرونه على الأرض عاريًا أمام سجناء آخرين.
ونقلت الصحيفة عن تال شتاينر، من المجموعة الحقوقية في اللجنة العامة لمناهضة التعذيب لدى الكيان، قولها: “ما تعرض له البرغوثي يرقى إلى مستوى التعذيب، لكن هذا أصبح أمرًا معتادًا في جميع مرافق الاحتجاز منذ 7 أكتوبر”، مضيفة أنّ اللجنة جمعت 19 شهادة من الأسرى تشير إلى الاعتداء الجسدي أو الجنسي أو غيره من أنواع الإذلال بالإضافة إلى الحرمان من النوم والطعام والعلاج.
وتابعت شتاينر للصحيفة: “إذا كانت هذه هي الطريقة التي يسمحون بها لأنفسهم بمعاملة السجناء البارزين مثل البرغوثي، فتخيل ما يفعلونه بالمحتجزين الذين ليس لديهم الصورة ذاتها”، واصفة المستوى العام للانتهاكات بأنه “غير مسبوق”.
وتغيّرت ظروف السجناء الفلسطينيين سريعا بعد أكتوبر العام الماضي، كما زاد عددهم في الأشهر اللاحقة، إذ كثفت قوات الاحتلال الإسرائيلي مداهماتها لمدن الضفة الغربية، واعتقلت أكثر من 8,755 فلسطينيا، وذلك بحسب مفوضية الأسرى والسجناء السابقين. وقد تم احتجاز معظمهم بدون تهم وتحت قانون الاعتقال الإداري.
ومع زيادة أعداد المعتقلين في زنازين مكتظة فإنها زادت الانتهاكات. ويذكر معتقلون سابقون الضرب المستمر والعنف الجسدي وغياب العناية الأساسية، بما فيها نقص الطعام وعدم توفر الملابس النظيفة، والمواد والبطانيات الصوفية والعناية الطبية.
وقال رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين، قدورة فارس: “خلال هذه الحرب، تتعامل السلطات الإسرائيلية مع كل السجناء بطريقة تنتقم فيها من الفلسطينيين. وهم يعرفون ما يمثلون في عقلنا الجمعي وكرموز للمقاومة”. ويرى فارس، وهو سجين سابق ومقرّب للبرغوثي، أنه “بعد سماعهم كل الأوصاف عن مروان كزعيم محتمل في المستقبل، فقد قرروا، استهدافه بشكل محدد”.
ويرى فلسطينيون كثيرون، مروان البرغوثي – الذي صدرت بحقه 5 أحكام بالمؤبد – “نيلسون مانديلا فلسطينيا” يستطيع لم شمل العلمانيين والإسلاميين منهم، في وقت تمر فيه القضية الفلسطينية بأدق مراحلها. وهذا ما جعل سلطة الكيان تفرض العزل الانفرادي عليه عدة مرات في الأشهر الثلاثة الماضية، وتنقّله بين سجون عديدة أحدثها “مجيدو” حسب المعلومات المتاحة للعائلة.
واعتقل البرغوثي في عملية الدرع الواقي سنة 2002، حين اتهمه الاحتلال الصهيوني بتأسيس كتائب شهداء الأقصى العسكرية التي نفّذت عمليات مختلفة ضدّ الجنود الصهاينة، وحكم عليه بالسجن لمدة خمسة مؤبدات و40 عاماً، في حين رفض البرغوثي أن يعترف بالمحكمة الصهيونية.
ورفضت سلطة الاحتلال في سنة 2011 الإفراج عن البرغوثي ضمن صفقة لتبادل الجندي الصهيوني، جلعاد شاليط، بمعتقلين فلسطينيين في سجونها، والتي أفرج فيها عن زعيم حركة حماس في غزة يحيى السنوار.
وأكثر من يقلق الكيان المحتل هو رغبة حماس في الإفراج عن البرغوثي وهو مسعى ليس جديدا، تجسّد أول مرة في تصريح صحفي لرئيس مكتب العلاقات العربية والإسلامية في حركة حماس، خليل الحية، نُشر عبر قناة الحركة على تلغرام في نوفمبر 2023، قال فيها “نسعى بأن يكون القائد مروان البرغوثي والقائد أحمد سعدات (الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) ضمن أسماء صفقة التبادل”.
“مانديلا” الفلسطيني
يشار إلى أنّ الحديث عن إطلاق سراح القيادي في فتح مروان البرغوثي وتوليه السلطة الفلسطينية ليس جديداً، ففي عام 2009 على سبيل المثال، ردّ البرغوثي في إجابات مكتوبة من داخل سجنه، على سؤال حول إمكانية ترشّحه للسلطة إذا ما أطلق سراحه، وقال “عندما تتحقق المصالحة الوطنية ويكون هناك اتفاق على عقد الانتخابات، سأتخذ القرار المناسب”.
وفي عام 2014، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية مقال رأي وصفت فيه البرغوثي بـ”نيلسون مانديلا”، كما قرّر البرغوثي عام 2021، رغم سجنه، الترشح للانتخابات الرئاسية الفلسطينية التي لم تعقد فيما بعد.
انضم لصفوف حركة فتح وهو في عمر 15 عاما، وتعرّض للاعتقال أول مرة وعمره 17 سنة (عام 1976) لمدة عامين بتهمة الانضمام إلى الحركة، ثم أعيد اعتقاله في 1978 وأفرج عنه في مطلع 1983، ولم يلبث قليلا خارج السجن حتى اعتقل مرة أخرى وأطلق سراحه في العام ذاته.
وبعد إطلاق سراحه في 1983 ترأس مجلس الطلبة بجامعة بيرزيت، وانتخب رئيسا لمجلس الطلبة لثلاث سنوات متتالية، كما كان من أبرز مؤسّسي حركة الشبيبة الفتحاوية، ثم أعيد اعتقاله مرة أخرى عام 1984 واستمر التحقيق معه لعدة أسابيع ثم أفرج عنه. وقد أعيد اعتقاله في ماي 1985 لمدة 50 يوما تعرّض خلالها لتحقيق قاس، ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية خلال العام نفسه قبل اعتقاله إداريا في أوت.
وبرز دوره خلال الانتفاضة الأولى عام 1987 في تشكيل القيادة الموحّدة، وسرعان ما أصبح مطاردا من قوات الاحتلال الصهيوني، حتى اعتقل وأُبعد للأردن بقرار من وزير الدفاع الصهيوني حينها إسحاق رابين. وبعد الإبعاد إلى الأردن توجّه إلى تونس وبدأت رحلته التنظيمية السياسية، واقترب من قيادة الصف الأول في حركة فتح. وخلال هذه الفترة عمل مع خليل الوزير ورافقه في زيارته الأخيرة إلى ليبيا، قبل أن يتم اغتيال الوزير بعد عودته إلى تونس بأيام.
وانتخب مروان البرغوثي عضوا في المجلس الثوري لحركة فتح في مؤتمرها الخامس عام 1989. وبقي في المنفى عضوا في اللجنة العليا للانتفاضة في منظمة التحرير الفلسطينية، وعمل في اللجنة القيادية لحركة فتح، وتعامل مباشرة مع القيادة الموحّدة للانتفاضة. وعاد إلى الضفة الغربية في أفريل 1994 عقب اتفاق أوسلو، وانتخب نائبا للراحل فيصل الحسيني، وتولى منصب أمين سر حركة فتح في الضفة الغربية، وتم انتخابه عضوا في المجلس التشريعي الفلسطيني عن دائرة رام الله عام 1996 وعام 2006، وكان الأصغر عمرا بين النواب.
من إعادة تنظيم فتح إلى السجن المؤبد
كان لمروان البرغوثي نشاطا واضحا سنوات قبل الانتفاضة الثانية، إذ بدأ إعادة ترتيب وبناء حركة فتح في الضفة الغربية، وعمل على زيارة القرى والمخيمات وتطوير بنيتها التحتية، وذلك بالتنسيق مع المجالس البلديّة وهيئات مختلفة. وخابت آمال البرغوثي بعد شهر من اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، نتيجة لعدم تنفيذ الاتفاقيات على أرض الواقع، وقال إنّ سلاح حركة فتح حاضر وستحافظ عليه حتى الحرية والاستقلال. وكان له حضور بارز خلال الانتفاضة الثانية، فقد شارك في المظاهرات وكان يقدّم واجب العزاء بزيارته بيوت أهالي الشهداء، وداوم على حضور اللقاءات الصحفية.
كما هاجم التنسيق الأمني، وطالب الأجهزة الأمنية بحماية الشعب الفلسطينيّ وكوادر الانتفاضة واستهداف العملاء. وبعد أقل من عام من اندلاع الانتفاضة انهالت الاتهامات الصهيونية على البرغوثي بمسؤوليته عن عدد من العمليات التي نفّذتها كتائب الأقصى، الذراع العسكرية لحركة فتح، وتعرّض لعدة محاولات اغتيال.
ونجا مروان البرغوثي من عدة محاولات اغتيال فاشلة، أبرزها قصف موكبه أمام مكتبه في رام الله يوم 4 أوت 2001، مما أسفر عن استشهاد مرافقه مهند أبو حلاوة. وردا على هذه المحاولة، هدّد البرغوثي سلطة الاحتلال بتصعيد المقاومة، وبعد شهر أصدرت محكمة صهيونية مذكرة توقيف بحقه، وطلبت من السلطة الفلسطينية تسليمه بتهمة الضلوع في محاولات قتل وحيازة أسلحة بدون ترخيص والعضوية في تنظيم محظور. كما أرسل الاحتلال الصهيوني خلال اجتياحه لرام الله سيارة ملغّمة خصيصا للبرغوثي في محاولة أخرى لاغتياله باءت بالفشل.
وظلّ البرغوثي مطاردا حتى اعتقله الاحتلال الصهيوني من رام الله يوم 15 أفريل 2002 مع ذراعه الأيمن أحمد البرغوثي. وقد استمرت التحقيقات وجلسات المحاكم أشهرا عديدة حتى صدر الحكم عليه بعد عامين من اعتقاله بالسجن 5 مؤبدات وأربعين عاما، بتهمة الضلوع في قتل 5 إسرائيليين، والمشاركة في 4 عمليات أخرى، والعضوية في “تنظيم إرهابي”.
كان أمر اعتقال البرغوثي يستند للاشتباه في أنه ضالع في تنفيذ محاولات قتل وحيازة أسلحة بدون ترخيص، إضافة إلى عضويته في تنظيم محظور، في المقابل نفى البرغوثي هذه الاتهامات وأكّد أنّ دوره سياسي وليس له أيّ صلة بالأعمال العسكرية. واتهمته سلطة الكيان بأنه كان ضابط الاتصال بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وقادة المجموعات المسلّحة لحركة فتح، وأنّه كان المسؤول المباشر مع مرافقه الشخصيّ أحمد البرغوثي، عن توفير السّلاح والتمويل والمأوى وإعطاء الأوامر لتنفيذ العمليات العسكريّة.