“خَدّام النّاس سيدهم”.. العمل في الأمثال الشعبية الجزائرية

العمل هو العنوان اليومي للإنسان في حياته، به يضمن معاشه، ويُحقّق ذاته، ويُؤكَد معناه الإنساني. وقد حَفل التراث بالعديد من الأمثال الشعبية الجزائرية التي تُحفّز على العمل وتُعلي شأنه، وتجعله مفتاح السعادة، كما حَفلَ أيضا بالأمثال التي تذُمّ الكسل وتجعل منه مَدخلاً إلى الانحراف والأمراض النفسية والمُجتمعية.

في البدء كان العمل

“في البدء كان العمل” مقولةٌ يشترك فيها كثيرٌ من الفلاسفة الغربيين من أمثال: “يوهان غوته” (1749 – 1832)، و”لودفيغ فتغنشتاين” (1889 – 1951)، و”جورج لوكاش” (1885 – 1971)‏، فهم يرون بأن الإنسان صنع تاريخه وثقافته بالعمل، وبه تميّز عن المخلوقات الأخرى التي تتقاسمُ معه الوجودَ على الأرض. وأبلغُ من حظّ على العمل وميّز بين الإنسان العامل المُجتهد وغيره من الناس، هو القرآن الكريم والسّنة النبوية، بالإضافة إلى ما لا يُحصى من الكتب في الموروث الإسلامي والعربي. وكذلك، تناولت الفلسفات والمذاهب الفكرية العملَ ووضعت له قواعدَ وأخلاقيات وعلومَ مثل: علم نفس العمل.

الأمثالُ الشعبية.. سلطةٌ معنويةٌ

التراث الشعبي الجزائري اهتم بالعمل من خلال إنتاج مجموعات من الأشعار والحكايات والأمثال الشعبية، ربطت بين العمل وكرامة الإنسان وشرفه ومكانته في مجتمعه، وفي الوقت نفسه ذمّت الكسل وربطته بالآفات الاجتماعية والأمراض النفسية، وأوجدت صفات تحقيرية لكل كسول أو متكاسل. بل أن تلك الأمثال امتلكت سلطةً “معنوية” يحتكم الناسُ إلى ما تضمّنته من الحكمة والوعظ. ويُمكن اعتبار الأمثال حول العمل بأنها “دستور شعبي” فرض على الناس احترامَه والأخذ به لتحقيق المنفعة العامة، ذلك أن ثمارَ العمل لا يجنيها الإنسانُ العامل وحده فقط، بل يجنيها مُجتمعَه، وكذلك “ثمار” الكسل يتحمّلُ أعباءَها المُجتمع أيضا.

تعدّدت الأسماءُ والمعنى واحد

في الأدبيات الشعبية، يُقال: العمل والشّغل والخدمة، وأسماء أخرى تُعبّر عن معنى واحد وهو بذل مجهود لتقديم شيء يستوجب تلقّي المُقابلَ، سواءٌ كان هذا المقابل ماديا أو معنويًا. وقد توزّعت موضوعات الأمثال الشعبية في العمل حول ما يُمكن اعتباره تصنيفات مثل: الدعوة والتحفيز، النصيحة والإرشاد، الإتقان والجودة، الجزاء أو المكافأة، ذم الكسل والتحذير منه.. وتصنيفات أخرى كثيرة. وهناك حاجةٌ إلى جمع كل الأمثال حول العمل، وتصنيفها، وإعادة تفعليها، لا سيما من خلال الوسائل الرقمية، لاستنهاض الهمَم، والاستفادة من حكَم ومواعظ الأسلاف الذين أنتجوا تلك الأمثال من تجاربهم عبر الزمن والأجيال.

مُعادلات شعبية

من الأمثال الشعبية التي تمّ صياغتها بشكل معادلة بين قيمتين، أو ترادف في المعنى رغم اختلاف مدلول الألفاظ، أو جاء فيها عنصران حيث يكون الأول شرطاً لحدوث الثاني، نجد مثلا: اخدم تربح، الحركة بركة، تَحرّكوا ترزقوا، اللّي يزرع يحصد، اشق تلقى ولما يشقى ما يلقى. ومن الأمثال التي تدعو إلى العمل وتحظّ عليه، ولا تشترط نوعيّته ما دام حلالاً طيّبا، نجد مثلا: أضرب ذراعك تاكل المسقّي، الراقد ما عطاتو أمه كسرة، أخدم في الفحم تدّي الصوارد واللحم.

لا “سيادة” لمن لا يعمل

نوعية العمل ليست هي التي تمنح قيمةً للإنسان في مجتمعه، بل العمل الشريف الذي لا احتيال فيه ولا تهاون، والشّرط هو الإتقان والصدق والثقة في بذل الجهد. فلكل إنسان قيمته من موقع عمله مهما كان هذا العملُ بسيطًا، وطبيعة الحياة ذاتها أوجدت الاختلاف والتّفاوت في القدرات والكفاءات والتنّوع في مجالات الأعمال. ومن أقوى الأمثال في هذا الاتجاه هو المثل القائل “خَدّام الناس سيدهم”، والمعنى مُشبعٌ بالإيجابية التي تجعل من العمل شرطا للسيادة، فلا يُوجد في مجال الأعمال خادمٌ وسيّدٌ، فالخادم سيّدٌ بعمله. ومن الأمثال التي تستوضح هذه الفلسفة الشعبية في العمل، المثلُ القائل “اخدم بصوردي ولا تعاند البَطّال” ويُقال أيضا “اخدم بفلس وحاسب الناعس”، والصوردي هو أقل جزء في العملة القديمة وربما يُعادل السنتيم، والمثل يعني أن العمل وبذل الجهد وتحصيل أبخص مردود مادي أفضل من الاستسلام إلى البطالة في انتظار عمل ذو مردود كبير.

أَليسَ العمل عبادةً؟

بعض الأمثال الشعبية فيها كثيرٌ من الوعظ، وأيضا فيها رفعٌ لمعنويات الإنسان العامل الذي تتجاوز كفاءته وقدراته طبيعة العمل الذي يشتغله، حيث أن المعنَى يتعلّق بفوائد العمل غير المادية، وفي هذا الاتجاه، نجد هذه الأمثال: اخدم بعرفك تستر عرضك، اخدم الأحد والعيد ولا تذل نفسك لخوك سعيد، أيام الزراعة والحرث معدودة وأيام الحصاد ممدودة. ونلمس الحكمة البليغة لفلسفة العمل في الأمثال الشعبية، حيث أن العمل يأخذ معنى الواجب الإنساني اتجاه الحياة ذاتها، ولعله أهمّ جزء في رسالة الإنسان “الحيّ”، ولا يرتبط بضرورة حصول المقابل المادي، فقد يكون الإنسان ميسورا ويمتلك من الأموال والثروات ما يُغنيه عن العمل هو وورثته لأجيال لاحقة، ولكنه يعمل في مجال قد يكون بسيطا ومرتبطا بميوله الشخصية، ذلك أن العمل هو أهمّ الوسائل لتحقيق الذات، وأداء الرسالة في الحياة.. أَليس العملُ عبادةً؟

العملُ برهانُ الرّجولة

يُلاحظ أن العمل في الأمثال الشعبية الجزائرية ارتبط بالرجل أكثر من المرأة، ذلك أن الأزمنة التي نتجت فيها هذه الأمثال لم يكن للمرأة دورٌ في الحياة خارج بيتها، ولم تطن مُطالبة بالعمل، في المدينة خاصة، وأمّا في الأرياف والمناطق الفلاحية، فطبيعة الحياة كانت مختلفة في عاداتها وتقاليدها، حيث كانت المرأة تضطلع مع أفراد عائلتها بأعمال كثيرة مثل الاحتطاب وجلب الماء والمشاركة في الأشغال الفلاحية. ويُمكن القول إن الأمثال الشعبية الجزائرية ربطت بين العمل و”رجولة” الرّجل.

تغيّرت الحياة.. وبقيت الأمثال

تغيّرت أنماط الحياة وأشكالها، ويتوجّه الإنسان إلى بذل الجهد الأقل في إنجاز عمله وحركته اليومية مع التطوّر التكنولوجي، ولكن الأمثال الشعبية يبقى فيها الكثيرُ من القيم النبيلة التي تكاد أن تصل إلى “تقديس” العمل و”شيطنة” الكسل. كما تبقى تلك الأمثال تراثا شعبيا يكشف عن فلسفة الأسلاف وفكرهم في التعامل مع قضايا المجتمع ومختلف شؤون الحياة، بالكلمة الحكيمة التي يتقبّلها جميع النّاس وكأنها ليست نتاج تجارب الإنسان وفكره فحسب، بل هي ناتجة من مصدر آخر يُقارب “القدسية”. كما أن تلك الأمثال هي جزءٌ أصيلٌ من الهوية والتاريخ الوطني والتراث الشعبي، يجب المحافظة عليها والعمل على إعادة بعثها وتفعيلها بما يخدم الإنسان والمُجتمع.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
توقيع اتفاقيات بين "سكيلس سنتر" والمؤسسات الجزائرية لدعم التحول الرقمي أمن الشلف يضع حداً لشبكة دولية لتهريب مهاجرين عبر البحر أمن بشار يفكك شبكة إجرامية ويضبط 22.56 كيلوغرامًا من المخدرات هذا هو رابط المنصة الجديدة لأساتذة التعليم العالي للحصول على شهادة تدريس عبر الخط سفيان شايب: "الجزائر تضع أبناء الجالية ضمن أولوياتها لتنمية الاقتصاد الوطني" القرض الشعبي الجزائري..نمو ملحوظ في الصيرفة الإسلامية نحو إطلاق 12 مشروعًا رقميًا لحماية التراث الثقافي وحدات حرس السواحل تنفذ عملية إجلاء إنساني لـ 03 بحارين من جنسية بريطانية مزيان يدعو إلى تعزيز مهنية الإعلام لمواجهة حملات التضليل ضد الجزائر رداً على الاستفزازات الفرنسية.. حركة النهضة تدعو إلى رفع التجميد عن قانون تعميم استعمال اللغة العربية بداري يُشرف على توقيع 21 اتفاقية توأمة بين جامعات ومراكز بحثية وزارة الصناعة تُوقّع على مذكرة تفاهم مع شركة رائدة في صناعة السيارات لمناقشة ملفات هامة.. وزير الخارجية التركي في زيارة رسمية إلى الجزائر حرب الظل تبلغ ذروتها في روما.. تسريبات ولقاءات خفية تعيد ترتيب أوراق النووي الإيراني الخارجية الفلسطينية تُحذّر من مُخطّط خطير يستهدف الأقصى شنقريحة يُنصّب القائد الجديد للدرك الوطني أيام إعلامية حول الشمول المالي عبر ولايات الوطن قارّة الشرور.. كيف أنتجت أوروبا كل طغاة القرن العشرين؟ إصابة 12 شخصاً في انقلاب حافلة بالجزائر العاصمة جولة جديدة من المحادثات النووية بين طهران وواشنطن