منذ نكبة فلسطين والقضيّة الفلسطينية تعدّ أحد أهمّ المحاور السّياسية للدّول العربية والإسلامية بامتدادها الإقليمي والدّولي، والقضيّة الفلسطينية القضية المركزية العربية والإسلامية على مدار التّاريخ، على الرّغم من أنّ “كامب ديفيد” أبعد العرب قليلًا عن قضيّتهم الأولى فلسطين وأنّ النّظام العربي بعقده لاتّفاقات السّلام مع “إسرائيل” بعد اتّفاقية “كامب ديفيد” وتحميل الفلسطينيين لهموم قضيّتهم إلّا أنّ القضيّة الفلسطينية بقيت من أولى اهتمامات الشّارع العربي؛ واهتمام الشّارع الغربي الذي يبدي تعاطفه وتضامنه مع قضيّة فلسطين على مرّ التّاريخ وفي الوقت الحاضر، وبالرّغم من الأهمية الاستراتيجية للتّضامن العالمي بالنّسبة لقضية فلسطين، ولدورها في تحقيق أهدافنا الوطنية. يوجد فجوة كبيرة ما بين الدّعم الممكن للقضيّة الفلسطينية، وبين الدّعم الحاصل فعليًا، والدّعم الملموس الذي لا زال راسخًا على أرض الواقع.
من الأهميّة بمكان تحديد معنى التّضامن، فالتّضامن يعني المبادئ والقيم والنّضال المشترك بين الشّعوب والحركات؛ وهذا يعني أنّ التقدّم لصالح حركة ما يعني التقدّم للحركة الأخرى، وبالمثل: فإنّ التّراجع على جبهة ما؛ يعني التّراجع على الجبهة الأخرى. والتّضامن هو أمر مختلف عن قبول المساعدات الخيرية أو تقديمها؛ فالتّضامن هو العمل المشترك بالتّنسيق مع الحلفاء لتحقيق المصالح والأهداف الجماعية.
ورغم أنّ رعاية الدّولة لقضيّة ما يمكن أن تعني التّضامن أيضًا، ولكن مصالح الدّولة ومصالح حركة تحرير وطني ليست ذات الشّيء. فالتّضامن الحقيقي هو ذلك المتأصّل في القوى السّياسية والاجتماعية على أرض الواقع، أي الشّراكة النّضالية، في شبكات العمل وتبادل الأفكار المشتركة مع أقرانهم في المجتمعات الأخرى. وإذا ما كان التّضامن متجذّرًا في القاعدة، فلن يكون في الأساس أيّ داع للقلق بشأن التّغييرات في سياسة الدّولة أو الحكومة. وفي هذا الصّدد؛ يحتاج التّضامن أن يتمثّل في الولاء لمبادئ مشتركة، وليس لهياكل الحكم التي تفسد بسهولة مع مرور الوقت، ولا يجب أن يتوقّف التّضامن على انتقاء الأفراد واختياراتهم.
وفي هذا الصّدد، يجب أن نشير أوّلًا؛ إلى أنّ فلسطين لم تكن يومًا قضيّة الشّعب الفلسطيني وحده، بل كانت لها أهميّتها في النّضال العربي ضدّ الامبريالية الغربية، ممّا جعلها قضيّة العرب المركزيّة في إطار الكفاح العربي من أجل تقرير المصير ولكسر أغلال التّبعية للغرب، على الصّعيد الاقتصادي والسّياسي، وأيضًا للابتعاد عن الأجندات الرّجعية وهذا هو السّبب الذي دفع العديد من مجتمعات مرحلة ما بعد الاستعمار أن تنظر للقضيّة الفلسطينية، باعتبارها كفاحا من أجل المستقبل المأمول، لأنّهم يستطيعون تعريفها وفهمها من خلال تجربتهم الكفاحية في التحرّر من الاستعمار خلال تاريخهم الخاص. هذا، بالإضافة لدور فلسطين في التّراث الإسلامي والمسيحي، الذي أضاف بعدًا آخر؛ حيث ينفي النّضال الفلسطيني بصورة مباشرة كلّ نوع من أنواع الادّعاءات الحضرية أو الاستثناء في العلاقة بالأرض على أسس دينية، وهي الصّهيونية في حالتنا هذه.
وقد ترجمت الأبعاد المختلفة لهويّة النّضال الفلسطيني إلى العديد من أشكال التّضامن مع مرور الوقت، وعلى امتداد خطوط سياسية متعدّدة، وعلى سبيل المثال؛ جاء العديد من المتطوّعين العرب والمسلمين إلى فلسطين عام 1948، من مناطق بعيدة جدًّا مثل المغرب العربي، اليمن، البوسنة، والعراق في جهود لمنع وقوع نكبة فلسطين.
وخلال سنوات الخمسينات وأوائل الستّينيات، وخلال مرحلة تصاعد المد القومي العربي وحركة عدم الانحياز، جرى إبراز القضيّة الفلسطينية في أوساط حركات التحرّر الوطني من السّيطرة الاستعمارية في آسيا وإفريقيا.
وقد كان لإعادة هيكلة منظّمة التّحرير الفلسطينية في عام 1968، في سياق هزيمة المشروع القومي العربي الرّسمي؛ ضرورة لتمهيد الأرضية للفلسطينيين لتولّي قيادة نضالهم والبحث عن حلفاء من اختيارهم، وتزامنت هذه العملية مع تصاعد الاتّجاهات السّياسية الرّاديكالية في أوروبا الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثّانية، هذا إلى جانب التّعبيرات الجيفارية في أمريكيا الجنوبية والوسطى، وإلى جانب المقاومة الصّلبة في فيتنام. إنّ كلّ ذلك شكّل الأسس المادّية والمعنوية لحركات التّضامن لتنتشر وتتعزّز في أوساط الحركات السّاعية للتّغيير.
لقد أيقظت الحرب الأخيرة على غزّة أصوات حركات تضامن قديمة، وفي الوقت نفسه ساهمت في توعية قطاعات واسعة من النّاس بالنّضال الفلسطيني. وحملة مقاطعة “إسرائيل”، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها؛ تقوم بضخّ دماء جديدة ومفاهيم جديدة لدى حركات التّضامن التي اضطربت سابقًا بسبب الهزيمة السّياسية والالتباسات في مرحلة “أوسلو”، وهي طريقة عملية للنّاس العاديين للاحتجاج على السّياسات “الإسرائيلية”، وعلى تواطؤ حكوماتهم مع “إسرائيل” في جرائمها. وكلّما ازداد عدد الفلسطينيين المنخرطين في تعزيز وتوسيع هذه الحملة، كلّما زادت الفرص لإغلاق قنوات الدّعم الذي ييسر لـ “أبارتهايد إسرائيل” ممارسة التّطهير العرقي ضدّ الشّعب الفلسطيني.
وبفعل التّضامن ومناصرة القضيّة الفلسطينية سيصبح النّظام “الإسرائيلي” منبوذًا ويتّجه للانهيار. إنّ مثل هذا السّيناريو ممكن، ولكنّه يحتاج للوقت كي يتبلور ويتلاحم ويأخذ شكلًا محدّدًا. وبناء شبكات التّضامن بصبر وثبات حول حملة مقاطعة “إسرائيل”، وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها؛ هي الوسيلة الفضلى لضمان بناء تحالفات طويلة الأجل، وتحويل صرخات النّجدة التي نسمعها عبر شاشات التّلفاز إلى تهاني وتحيّات، وكلمات شكر لحركات التّضامن عبر الحدود.
معركة “سيف القدس” و”طوفان الأقصى” أعادت من جديد تشكيل الوعي العربي بمختلف توجّهاته وانخرطت قوى عربية عديدة ومن مختلف الطّوائف في مقاومة الاحتلال لتعيد هذه الصّحوة الأمّة للتّاريخ وتستعيد الأمّة معها ذكريات وتاريخ عزّ الدّين القسّام الذي انبرى للدّفاع عن فلسطين في ثورة الـ 1936 .
معركة “طوفان الأقصى” أعادت القضيّة الفلسطينية لتتصدّر أولوية اهتمام النّظام العربي وتعيد القضيّة الفلسطينية للاهتمام العربي والدّولي، فقد انشغل البعض – من هذا النّظام العربي- في تنفيذ أجندات سياسية هي في واقعها وحقيقتها خارجة عن الأولوية العربية ضمن تصفية حسابات لا تمتّ للصّالح العربي بصلة، وأصبحت أولوية -هذا البعض- تآمر العرب على بعضهم البعض هي أولى أولويّات الاهتمام والاستقطاب الإقليمي والدّولي، هذا الوضع العربي بماضيه وحاضره، أخذ النّظام العربي بعيدًا عن اهتمامات هذا النّظام بقضايا الأمّة العربية القومية وتحقّق نظرية الأمن القومي وحتّى شعوب الأقطار العربية انشغلت بهمومها اليومية لإغراق الأنظمة لشعوبها بعبء مشاغل الحياة اليومية ليبتعدوا عن ملامسة قضاياهم والاهتمام بها .
ابتعد هذا البعض من النّظام العربي عن توحيد الجهد العربي للتّصدّي لما يتعرّض له الأمن القومي العربي من خطر التدخّل الإقليمي والتمدّد الإيراني والتّركي والبعض استظلّ بجناح الهيمنة والحماية الصّهيو-أمريكية، وتعرّضت العديد من الأقطار العربية للتّآمر والغزو والاحتلال وكان ذلك ضمن مخطّط يهدف إلى إعادة تقسيم خارطة الوطن العربي وإعادة إخضاعها للنّفوذ الأجنبي بحيث انخرط البعض من هذا النّظام العربي بهذا المخطّط الرّهيب الذي يعدّ الأخطر في التّاريخ العربي الحديث.
لم يخجل النّظام العربي من نفسه وهو يقود معركة إسقاط نظرية الأمن القومي العربي ليتخلّى عن فلسطين ويصرّف النّظر عما تتعرّض له فلسطين والشّعب الفلسطيني من ممارسات الاحتلال الصّهيوني من مخطّطات الاحتلال “الإسرائيلي” لتهويد القدس والأراضي الفلسطينية والعربية.
هذا النّظام العاجز عن لجم “إسرائيل” ومخطّطاتها هو نفسه اللّاهث وراء هذا الكيان الغاصب للأرض الفلسطينية لأجل تطبيع العلاقات مع هذا الكيان وإقامة الممثّليات الدّيبلوماسية والتّجارية وفتح السّفارات لهذا الكيان المعتدي على الأرض والحقوق العربية وهو الذي شارك وساهم في اغتيال علماء العراق وفي التدخّل في شؤون الأمّة وكان له باع طويل في معاناة العراق ولبنان والمشرق والمغرب العربي.
إنّ نصرة القضيّة الفلسطينية في ظلّ سياسة التّطبيع خيانة وأنّ شيطنة المقاومة لتمرير المخطّطات هو الخيانة بعينها وحقيقة القول أنّ معركة طوفان الأقصى و”سيف القدس” قد أيقظت الضّمير العربي وأربكت الحسابات للنّظام العربي وتحرّكت الشّعوب العربية الثّائرة لحريّتها وكرامتها ولسان حالها يقول إنّ فلسطين والقدس قضيّة قومية عربي وهي محور الصّراع وأولويته مع أمريكا والصّهيونية وهي من تجمع الأمّة العربية وتوحّدها.