دلّس.. مدينة العرب المنسية

لأجل عينيك السوداوين، “الصاحيتين الممطرتين”، أكتب أيها العربي الشامخ هناك عزا وكرما.. عند سفوح “بوعربي” أو على أرصفة الميناء الفينيقي العتيق، لا تزال أنت كما كنت منذ ألوف السنين، ترفض أن تتبدل وتأبى أن تنكسر ولا تقبل الهجران والرحيل؛ جلد سامق جسور، وفيٌّ للأرض والعرض والوطن، كعادة أجدادك من عهد نوح والأوتاد وإرم ذات العماد.

كسيف الله القاطع، يغوص في البحر ذراع المدينة الحالمة الكتوم، ويتمدد بكل فخر وكبرياء، ليروي للعابرين والماكثين، وللبحارة والخيالة والفرسان، أسطورة المجد الضارب في عمق البحر وأدغال اليابسة وعنان السماء.. فهذه “دلّس” إذا، بريئة من غير تحوير عفيفة من غير تدليس، لا تزال تحضن البحر وتلثم الماء وتأوي إليها آلاف الأساطير…

المدينة التي أسسها الفينيقيون الكنعانيون سادة البرّ والبحر، وتبناها القرطاجنيون وجعلوا منها عروسة ساحرة قبل غزو البرابرة الرومان، والذين استسلموا بدورهم لسحر البلدة الطيبة، فصنعوا منها لؤلؤة أسموها “روسوكوروس” أو رأس الحوت، على الساحل الشرقي للعاصمة “إيكوزيوم” الفينيقية، حيث عرفت عصرا من الرخاء والازدهار لم يسبق لغيرها من المدن أن عرفت مثله، ويرجع الفضل كله للإمبراطور الروماني “كلاوديوس”، الذي لا يزال منبع “سيدي سوسان” شاهدا على عصره ودليلا.

وغداة وصول الفاتحين وانتشار الإسلام بالمغرب العربي، لململت البلدة جراحها وكظمت آلامها، واستعادت عافيتها بأن تم بناء المدينة الجديدة على أنقاض تلك القديمة، التي كانت قد دمّرتها الزلازل وأنهكتها الحروب وأتت عليها الغزوات.. ففي ظرف غير طويل، تحوّلت المدينة إلى قبلة للمتعة والعزلة والراحة والاستجمام، يقصدها العلماء والأولياء والصلاح والقادة والأمراء، طلبا للأمن والأمان، حيث يكفيها عزا وكرما أن أوت “معز الدولة بن صمادح” صاحب العامرية بالأندلس، الذي جعل منها دار قرار بعدما استولى المرابطون على ملكه العام 1088م، حيث شيّد القصبة وأجلى إليها بعضا من أهل الأندلس.

لم يصبر ملوك بني حفص أصحاب تونس عن “دلّس” لما بلغهم عنها من سحر وجمال، فسير إليها أبو عبد الله الحفصي جيشا انتزعها من ملك بني عبد الواد أصحاب تلمسان، قبل أن يستردها أبو حمو موسى الزياني.. إلى أن استولى الإسبان على معظم المدن الساحلية غداة سقوط غرناطة، فجعل الإخوة “بارب روس” من “دلس” قاعدة وعاصمة لقيادة جيوش التحرير، قبل المكوث بالعاصمة الجزائر.

وأما إبان الغزو الاستعماري الفرنسي، فقد استماتت دلس كشوكة عصية في حلق الغزاة، حيث لم يستطيعوا دخولها إلا العام 1844م، أي أنها قاومت الاحتلال طوال أربع عشرة سنة كاملة رغم العزلة ونقص العدة والإعداد.

استقلت الجزائر واستعادت “دلّس” كرامتها بعدما دفعت في سبيل ذلك دماء خيرة أبنائها تضحية وفداء، إلا أنها لا تزال بلدة وديعة كتوما، ترفض البوح بأسرارها الساحرة العصماء.

ليس بـ”دلس” كازينوهات ولا حانات ولا ملاهي تعرف بهن، وإنما هناك مقامات خالدة للسادة أهل التقى والصلاح والإصلاح؛ من زاوية سيدي عمار، إلى مقام سيدي الحرفي، ومن القصبة العتيقة منازل الشرف العربي، إلى المسجد الكبير ومنارة بانقيت.. وصوت محمد بن سعيد بن حمّاد الصنهاجي الدلاسي البوصيري، يصدح نظما ومديحا في بردته الميمية التي ذاع صيتها في الآفاق ترنما وإنشادا بحب سيد الخلق رسول الحق صلى عليه الإله وسلما.

إنها قصيدة “البردة” التي تعد من أشهر المدائح النبوية وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، وفي محاكاتها تنافس أكثر من مائه شاعر، منهم المشطر والمخمس والمسبع.. كما تجاوزت شروحها المكتوبة خمسين شرحاً، حتى صار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد ويرتلونها مثل الصلاة.. إنها القصيدة التي لها في دلّس جذور وهوى، وأصول صاحبها ترتقي إلى هذه البقعة الطيبة الطاهرة التي شقت له من اسمها كناية حتى قيل؛ هو الإمام “الدلاسي” صاحب البردة والشأن، الذي أبدع من باب المحاكاة والمشاكلة للامية كعب ين زهير الذي نال من يدي رسول الله الشريفتين بردته الزكية التي صارت وصفا للقصيدة العصماء.. كما أن صاحبنا الإمام الدلاسي البوصيري، كان قد رأى -في منامه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ألقى عليه بردة حين أنشده القصيدة؛

أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذي سلمِ…………..

……..مزجتَ دمعًا جرى من مقلةٍ بدمِ

أمْ هبَّتِ الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ……….

……وأوْمَضَ البَرْقُ في الظلْماءِ مِنْ إضَمِ

فما لعينيكَ إن قلتَ اكففا هَمَتا…………

…….ومَا لِقَلْبِك إنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِ

أَيَحْسَبُ الصَّبُّ أنَّ الحُبَّ مُنْكتِمٌ……

………ما بَيْنَ مُنْسَجِم منهُ ومضطَرِمِ

لولاَ الهَوَى لَمْ تُرِقْ دَمْعًا عَلَى طَلَلٍ..

………..ولا أرقتَ لذكرِ البانِ والعَلمِ

فكيفَ تُنْكِرُ حُبَّا بعدَ ما شَهِدَتْ….

……..بهِ عليكَ عدولُ الدَّمْعِ والسَّقَم

هي ذي دلس الولادة إذا، وذا وجهها الملائكي العفيف الذي يتوارى هادئا بديعا خلف الروابي والوهاد، ويطل على البحر بكل خجل وحياء، ومن دون صخب ولا رياء، على عكس مدائن الساحل والشطآن التي تتبدى سافرة متبرجة للبحارة والأمراء.. فطوبى لـ”دلس” من حاضرة عصماء، وطوبى لساكنة “دلس” عرق يعرب ودم الفاتحين، من كل جنس ومن كل دين.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا