ردّا على هجومات حماس في 7 أكتوبر 2023 قامت “إسرائيل” بشن أحد أكثر العمليات العسكرية وحشية وامتدادا، لمدة تزيد عن 15 شهرا.
إن تأمين غزة لمنع الهجمات المستقبلية التي يشنها الجيش الإسرائيلي، إلى جانب المشاعر المتصاعدة المعادية “لإسرائيل” والخوف من اتساع رقعة الصراع، سيدفع قادة العالم اليوم لإيجاد حل لرأب الصدع الذي أحدثته الحرب.
يرفض القادة الفلسطينيون بشكل خاص فكرة قدرة السلطة الفلسطينية المحاصرة، في رام الله، على إجراء انتخابات بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة. ولا يمكن اعتبار السلطة الفلسطينية، التي لا تحظى بشعبية في الضفة الغربية أو في غزة، على أنها تركب على ظهور الدبابات الإسرائيلية. في الأسبوع الأول من بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية، أعلن الرئيس محمود عباس أن الطريق الواضح إلى دولة فلسطينية مستقلة هو شرط مسبق لانتقال السلطة الفلسطينية إلى غزة. يؤيد عباس دعوة الرئيس الأمريكي السابق بايدن، لجولات جديدة من المفاوضات حول حلّ الدولتين، لكن معظم الفلسطينيين ينظرون اليوم بعد كل الذي حدث، إلى عملية السلام الرسمية بسخرية.
يتطلب كسر دائرة العنف، حاليا، تفكيرًا جديدًا جريئًا غير مقيد بعملية أوسلو التي استمرت 30 عامًا والتي لم تأت بأي نتائج يمكن للفلسطينيين الإحالة إليها. يدرك الطرفان أن النموذج الجديد للمفاوضات يجب أن يضمن للإسرائيليين “وعدًا” مثل ذلك الذي سيق بعد الحرب العالمية الثانية بأن ما حدث لليهود “لن يتكرر أبدًا”. لكن أيضا مع حفظ حق الفلسطينيين “بعدم الاستسلام أبدًا ” للأمر الواقع الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي.
تتفق جميع الأطراف على أن العودة إلى الوضع السابق لما قبل 7 أكتوبر، وبدون حركة حماس لن تنهي دائرة العنف. وتخشى الدول العربية انتشار الصراع، حيث تهدد المظاهرات والسخط الذي يبديه الرأي العام المتابع لما يحدث أمام عينه استقرار هذه الأنظمة. من العوامل المحتملة لتغيير قواعد اللعبة، إن المملكة العربية السعودية والدول العربية الموقعة على “اتفاقيات أبراهام” هي الآن، على استعداد لأن تكون جزءًا من حلّ يشكل ما أسماه الرئيس المصري السيسي «ائتلاف السلام». وهذا المنظور الجديد للحاجة إلى حلّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني يتيح فرصة جديدة للتوصل إلى اتفاق سلام.
يمكن القول في هذا الإطار إن الإستراتيجية التي قادتها الأمم المتحدة في كمبوديا، لإيقاف الصراع الدموي قد تكون نموذجا لحلٍّ يمكن لجميع الأطراف في فلسطين. فرضت الأمم المتحدة السلطة الانتقالية في كمبوديا الهيئة في عام 1991 بعد عقود من الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي. وسيطرت السلطة الحاكمة التي أشرفت عليها الأمم المتحدة في البلاد، على عملية الانتقال السياسي السلس وإنهاء حالة الحرب التي استمرت لسنوات طويلة.
وركزت الولاية القصيرة التي أقرتها الأمم المتحدة في كمبوديا ومدتها 18 شهرا، على التحضير للانتخابات (دون تحقيق التجريد الكامل لمختلف الجماعات من السلاح). كما ارتكبت القوات الأجنبية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ومع ذلك، فقد انتقلت كمبوديا إلى دولة أكثر سلامًا وديمقراطية وحداثة في ساحة المجتمع الدولي. في الأساس، جرّدت السلطة الأممية، الدولة الكمبودية من هيكلها السياسي، وحلّت محل النظام الاستبدادي، وتمكنت من نزع سلاح الميليشيات، وأقامت سيادة القانون، وصمّمت وأجرت الانتخابات، قبل نقل السيطرة إلى الهيئة الكمبودية المنتخبة حديثًا.
مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف السياقات، يمكن القول بتطبيق نهج مماثل في فلسطين. يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يفرض سلطة انتقالية من خلال هيئة متعددة الجنسيات مدتها أربع سنوات بقيادة الولايات المتحدة والدول العربية، بمشاركة من الدول الأعضاء الأخرى وبمساهمة فلسطينية كبيرة. ومن شأن هذه السلطة أن توفر الاستقرار، وتيسر المعونة الإنسانية، وترسخ سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان، وتعمل على إنشاء إدارة عامة جديدة في الضفة الغربية وغزة، تتسق مع المعايير الدولية.
واعتمادا على نجاح هذه السلطة الانتقالية – ولا سيما في إجراء انتخابات حرة والتوصل إلى اتفاق بشأن القضايا العالقة مثل القدس والحدود ووضع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية – ستُسلم السلطة، فيما بعد إلى حكومة فلسطينية جديدة. وسيكون في هذا الصدد التعلم من التجربة الكمبودية في تنظيم الانتخابات ونقل السلطة مُهما، ولكن ليس شرطا مسبقا، التجارب الانتقالية كثيرة والسياقات كما ذكرنا سابقا مختلفة.
ميزة هذا النهج هي أنه يخلق مظلة معترف بها دوليًا تنضم إليها وتقبل بموجبها الأطراف بـ “تنازلات صعبة” في عملية دولية محددة زمنيًا –وهي تنازلات يريد كل جانب تقديمها، لكن لا يمكنه تقديمها بمفرده. لربما سيشهد الفلسطينيون ارتياحًا من الدمار وأملا في التنمية الاقتصادية الملموسة، والانتخابات الوطنية بدون السلطة الفلسطينية الملوثة بالفساد.
وكما كان عليه الحال في كمبوديا، ستدخل عدة اتفاقات حيز النفاذ مع إنشاء السلطة الفلسطينية الجديدة. لتلبية المخاوف الأمنية لـ “إسرائيل”، ستطالب هذه الأخيرة بتصنيف حماس والجهاد الإسلامي كمنظمات إرهابية، ملزمة لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. ولربما تشمل القوة الإدارية والأمنية متعددة الجنسيات مساهمات كبيرة من الولايات المتحدة لتلبية هذا المطلب الإسرائيلي. ومن شأن المشاركة العربية من خلال الجامعة العربية أو مجلس التعاون الخليجي أو فرادى البلدان، أن تطمئن الفلسطينيين حول سلامة أراضيهم. وفي المقابل، ستجبر “إسرائيل” على الفور على التخفيف من القيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع، وتُيسر إعادة الإعمار وإيقاف الغارات العسكرية.
من الجدير بالذكر أن الحكومة الإسرائيلية التي أدارها الليكود في 2014 وافقت على “مقايضة” مماثلة قدمتها الولايات المتحدة في لكن محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية اعترض عليها في النهاية لعدم وجود أي ضمانات مادية.
يجب الاعتراف في الختام، أن دائرة الهجمات الإسرائيلية الانتقامية، ستستمر ودون أي مسار سياسي واضح للفلسطينيين لا يمكن توقع وجود نظام أمني قوي (لكلا الطرفين).
بينما تواجه أي سلطة انتقالية متعددة الجنسيات العديد من التحديات، يظهر التاريخ أن مأساة الحرب يمكن أن تحفز الأطراف على تقديم تنازلات وتحمل مخاطر جديدة جريئة لتجنب إراقة الدماء. وربما تكون الإمكانية الوحيدة لإحلال سلام دائم في الشرق الأوسط.