“إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر.”
يحدثنا أبو القاسم الشابي في هذه الأبيات عن قوة إرادة الشعوب في انتزاع الحرية غصبًا. فعندما نتصفح التاريخ ونتأمل مجرياته، نجد أن إرادة الشعوب هي العامل الحاسم الذي غيّر مجرى الأحداث، وقلب موازين القوى، وأطاح بأعتى الإمبراطوريات.
ولعل الثورة الجزائرية تعدّ مثالًا يحتذى به في هذا السياق، فقد جسدت ملحمة نضالية فريدة، واجه فيها شعب أعزل قوة استعمارية طاغية، مسلحة بأعتى العتاد، ومحصنة بغطرسة تاريخية ظنت أنها أبدية.
عظمة هذه الثورة لم تأتِ بمحض الصدفة، بل كانت نتيجة تضافر جهود واتحاد أهداف. فقادة الثورة الجزائرية كانوا نموذجًا حقيقيًا للإرادة الثورية، فلم يكونوا مجرد قادة عسكريين، بل كانوا أيضًا مفكرين استراتيجيين استطاعوا أن يوحدوا الشعب الجزائري تحت راية واحدة، ويحولوا النضال ضد الاستعمار إلى حركة جماهيرية شاملة.
ولم تقتصر أدوارهم على الميدان العسكري فقط، بل امتد تأثيرهم ليشمل الساحة السياسية، حيث عملوا على بناء شبكة من الدعم الدولي للقضية الجزائرية، ونسجوا علاقات دبلوماسية أسهمت في رفع الصوت العالمي ضد الظلم الاستعماري.
هل يمكن إخماد الثورة باستهداف قادتها؟
بما أن القادة هم أعمدة الثورة، يتساءل البعض: هل يمكن قتل الثورة بقتل قادتها؟ في الحقيقة، لا. فمع أن استهداف القادة يعد محاولة لإخماد نار الثورة، لكن التجارب التاريخية أثبتت أن الثورة الحقيقية لا يمكن إخمادها بمجرد التخلص من قادتها. فصحيح أن القادة يمثلون الثورة، إلا أن الثورة في النهاية تجسيد لطموحات ومبادئ الشعب.
ففي الثورة الجزائرية، على سبيل المثال، رغم الاستهداف المتواصل لقادة الثورة، مثل ديدوش مراد، لم تنطفئ شعلة المقاومة، بل جعلت هذا الاستهداف حافزًا لها على الاستمرار.
و يصادف اليوم السبت 18 جانفي 2024 ذكرى استشهاد ديدوش مراد، أحد مفجري الثورة التحريرية الكبرى. وُلد في 13 جوان 1927 بالمرادية بالعاصمة، ونظرًا لدوره الفعال في حرب التحرير، كان قتله هدفًا مسطرًا لدى المستعمر الفرنسي، وقد نجا من محاولات اغتياله مرات عدة.
كان ديدوش مراد ملتزمًا بالقضية الوطنية منذ بداية وعيه وانخراطه في الحركة الوطنية. حيث انضم إلى حزب الشعب ثم اختير من قبل محمد بلوزداد لتنشيط المنظمة الخاصة وحضر اجتماع القادة الـ22، حيث تم اختياره ضمن القادة الستة الذين أشرفوا على تفجير الثورة. تم تكليفه بقيادة الشمال القسنطيني، دون أن تعرف سلطات الاحتلال هويته الحقيقية بصفته القائد الفعلي للمنطقة.
لعب ديدوش مراد دورًا محوريًّا في تعبئة الشعب الجزائري وإقناع الشخصيات البارزة بالالتحاق بالمشروع الثوري. فمنذ انضمامه إلى الحركة الوطنية، عمل على نشر الوعي السياسي بين الجزائريين، من خلال عضويته في حزب الشعب الجزائري ومشاركته في تأسيس المنظمة الخاصة. بعد اندلاع الثورة، ركز جهوده على توعية الشعب بأهداف الكفاح المسلح، خاصة في منطقة الشمال القسنطيني التي كان مسؤولًا عنها.
لقد كان ديدوش مراد، الذي تجسد التزامه الكامل بالقضية الوطنية جسدًا وروحًا، يستخدم خطابًا مؤثرًا وحماسيًّا، مما جعله قادرًا على استقطاب شخصيات بارزة من مختلف الفئات للانخراط في المشروع الثوري. هذا أسهم في توحيد الجهود الوطنية بشأن جبهة التحرير الوطني.
“لسنا خالدين، سيأتي بعدنا جيل يحمل مشعل الثورة.”
هذه العبارة الخالدة التي خطها ديدوش مراد بوعيه الثوري العميق أصبحت تجسيدًا حيًّا لاستمرارية النضال. فرغم استشهاده في 18 جانفي 1955، بعد مسيرة حافلة بالتضحية، لم تتوقف الثورة. بل خلفه جيل وفيّ للأمانة، رفع راية الحرية عاليًا، ومضى على خطى الأبطال حتى انتزع الاستقلال انتزاعًا، محققًا حلمًا ناضل لأجله الشهداء.
وهذا يؤكد أن اغتيال القادة لا يطفئ شعلة الثورة بل يزيدها توهجًا وقوةً في مواصلة الكفاح.
و يعلق المؤرخ عبد الله مقلاتي على استشهاد ديدوش مراد فيقول: “وهكذا كتب القدر أن يستشهد ديدوش والثورة في بدايتها. كان بحق مناضلًا وطنيًّا صادقًا، تربى في مدرسة الوطنية، حزب الشعب والكشافة الإسلامية، وفضل أن يطلق عيشته الرغدة وأن يتجند في سبيل القضية الوطنية. وقد بذل جهودًا كبيرة إلى جانب بوضياف في إنشاء المنظمة الخاصة والتحضير للثورة، حيث تولى مسؤولية المنظمة الخاصة بنفس وطنية، وسعى إلى إعادة بعثها من جديد تحضيرًا للثورة. ونجح في التحضير للثورة بصفته الساعد الأيمن لبوضياف ومهندس نجاحاته، ونظم وقاد الشمال القسنطيني خلال الأشهر الأولى من بداية الثورة حتى سقط شهيدا.