رفَضَ الشَّعبُ الجزائريُّ المدرسةَ الفرنسيَّةَ والطِبَّ الفرنسيَّ وكل ما كان الاستعمارُ يزعمُ تقديمَه من خدماتٍ، لأنَّه كان يَعِي بأنَّ الاستعمارَ لا يُقدِّمُ شيئًا بالمجَّان، ومَساعِيه من أجل التَّقرُّب من الشَّعب الجزائري كانت تهدفُ إلى “التَّدجين” والاستلاب الرُّوحي والفكري.. واستعمارِ الإنسانِ من داخلِه وأعماقه لـ “تصنيع” إنسانٍ آخر لا يرتبط بأرضه ولغته ودينه وتاريخه.
كان الشَّعبُ الجزائريُّ، رغم فقْره وضُعفه ومآسيه اليوميَّة، عَصِيًّا على كلِّ أشْكال الإغواء والإغراء، ولم يَثِق يومًا في الاستعمار. وقد روى الجنرال “دوماس” أنَّ الوالي العام “بيجو” راسَل بعض العشائر في نواحي “غيلزان” مُحاوِلاً اسْتِمالتَهم وإغوائهم ليبتعدوا عن الأمير “عبد القادر”، فكان جوابهم: “قلت لنا بأنَّ الأمَّةَ الفرنسيةَ أمَّةٌ كبيرةٌ وقويةٌ. فلتعلمْ إذًا أنَّ العدلَ من شِيَم الكبار الأقوياء.. فأيْنَ العدل وأنتم تريدون الاستيلاءَ على بلادٍ هي ليستْ لكم؟ وإذا كنتم أغنياء، فماذا جاء بكم إلى شعبٍ ليس له ما يعطيه لكم سوى البارود…؟ وأنتم بعد هذا تهدِّدوننا بحَرْق مَحاصيلنا الزراعية وإعطائها علَفًا للخَيْل والدَّواب. وقد أصابتْنا أمثالُ هذه المصائب عدَّةَ مراتٍ، فمرَّتْ بنا سنواتٌ عَرَفْنا فيها القحطَ والجرادَ والجُوع، ومع ذلك فقد كان الله دائمًا معنا، لأنَّنا مُؤمنون، ولأنَّنا عربٌ، وليس العرب مِمَّن يقضي عليهم البؤسُ والشَّقاءُ، فلتعلمْ إذًا بأنَّنا لن نخضع لكم أبدًا”.
هذه الإضاءات تكشفُ بعض الجوانب النَّفسيَّة للتَّاريخ الثوري وللشَّعب الجزائري على حَدِّ السَّواء، وقد أوْجزَ الدكتور “حنفي بن عيسى”، وهو مُتخصِّصٌ في علم النَّفس، الأسْبابَ التي دَعَتْه إلى تقديم قراءةٍ في الكتاب الذي ترجمه للأستاذ “مصطفى الأشرف” وركّز فيه على الجانب النَّفسي، بل دعا الباحثينَ إلى إعادة قراءة التَّاريخ الثوري الجزائري من هذا المجال. ونواصل مع القارئ إبْحارَنا في مقال الدكتور “حنفي بن عيسى” الذي نُشِر بمجلة “الثَّقافة” الجزائرية الصادرة في الأول أفريل 1984 تحت عنوان “الجوانب النَّفسِيَّة في حروب التحرير من خلال كتابات مصطفى الأشرف”…
النصُّ الثَّاني عشر: الخطوط الرئيسية لعقائِدِيَّة الحركة الوطنية
بدأ وعيٌّ سياسيٌّ جديدٌ يتكون ابتداءً من 1871، ولم يكن هذا الوعي يعتمد على الكفاح المُسلَّح وحدَه، وهذا الوعي تجلَّى في مُنظمَّة شعبية لا تخلو من شيء من الغرابة، وكانت تُسمَّى “الشرطة”، وذلك أنَّ كثيرًا من الجماعات الريفِيَّة نشأتْ فيها لجانٌ حُرَّة مُنتخبَةٌ من طرَفِ الدَّواوير، ويتراوح عدَدُ أعضائِها بين 10 و12 عُضوًا، وكانتْ هذه الجمعِيَات الشَّبيهة بالمجالس الشعبية ذات نفوذٍ قويٍّ لدى الشعب، وقد نشأتْ کرَدِّ فعلٍ على سيطرة القُيادِ وأعْوان الاستعمار، وتهدف إلى “مُراقبة تصرُّفات القُياد، وفرْضِ الغرامات، ومُصادرة أملاك العُصاة المُنشقِّين عن الجماعة، وشراءُ الخيول والأسلحة والعَتاد، وإعادة النَّظر في أحْكام القاضي واللِّجان التَّأديبية”.
ولقد يكون من المُفيد – بالرُّجوع إلى النُّصوص التي جمعَها ضُبَّاط الغزو الفرنسي – أنْ نضَع الخُطوطَ الرئيسية للعقائدية (أو ما يُسمَّى الأيديولوجية) التي، رغم بَساطتها، كانتْ هي المَوْرد الذي نَهَل منه الفلاُّحون الجزائريون في اتّجاهاتهم الوطنية، وهذه النُّصوص عبارة عن أجْوَبةٍ كان يرُدُّ بها الأهالي، في البوادي والأرياف، على الإنذارات الشَّديدة المُحمَّلة بالتَّهديد، والتي كان المارشال “بيجو” يُوَجِّهها إليهم حتى يَحْملهم على الخُضوع.
ويمتازُ أسلوبُ هذه الأجْوِبة بالصَّراحة والتَّشابه في الشَّكْل والمضمون، ونَجِد فيها صُوَرًا مُؤثِّرةً تدُلُّ على التَّعلُّق بالأرض والتَّفاني في سبيل الوطن، والعمل من أجل تحقيق العدالة، ويستخلصُ الإنسانُ من هذه النُّصوص الخالِيَة من التَّنْميق، المَليئة بالجِدِّ والتعقُّل، يستخلصُ منها وُجود شُعور وطنيّ قائم على عناصر مُترابطة هي: الجَماعة والأمُّة والكَيان الجغرافي.
إنَّ أحَد هذه النُّصوص يتعلَّق بالوالي العام “بيجو”، عندما مَرَّ على عشائر “فليتة” (في نواحي غيلزان)، فقرَّرَ أنْ يُوَجِّه رسالةً إلى رفاق “عبد القادر” في النِّضال ليَطْلب منهم أنْ يَكُفُّوا عن مُساندته، وهذا هو ردُّ عشائر “فليتة” كما رواه الجنرال “دوماس”: “قلت لنا بأنَّ الأمَّةَ الفرنسيةَ أمَّةٌ كبيرةٌ وقويةٌ. فلتعلم إذًا أنَّ العدلَ من شِيَم الكبار الأقوياء.. فأيْنَ العدل وأنتم تريدون الاستيلاءَ على بلادٍ هي ليستْ لكم؟ وإذا كنتم أغنياء، فماذا جاء بكم إلى شعبٍ ليس له ما يعطيه لكم سوى البارود…؟ وأنتم بعد هذا تهدِّدوننا بحَرْق محاصيلنا الزراعية وإعطائها علَفًا للخَيْل والدَّواب. وقد أصابتْنا أمثالُ هذه المصائب عدَّة مرات، فمرَّتْ بنا سنواتٌ عَرَفْنا فيها القحطَ والجرادَ والجُوع، ومع ذلك فقد كان الله دائما معنا، لأننا مُؤمنون، ولأنَّنا عربٌ، وليس العرب ممن يقضي عليهم البؤس والشَّقاء، فلتعلمْ إذًا بأنَّنا لن نخضع لكم أبدًا”.
وهكذا يتبَيَّن لنا أنَّ وطنِيَّة الفلاَّحين كانت، في الفترة ما بين 1830 و1871، ظاهرة عمَّتْ سائرَ أرْجاء البلاد، وتغلغلتْ في النُّفوس. ولئِنْ لم تتبلور تلك الظاهرة عن فكر عقائدي واضح، فقد كانتْ بدون جدالٍ ذات أبعادٍ قومِيَّةٍ. وإذا كان الفلاحون في السُّهول أو في الجبال يقولون عن أنفسهم بأنَّهم “عرب” أو “مسلمون”، فلم يكونوا في الواقع يقصدون بهذه العبارات أيَّ تعصُّبٍ لشعبٍ من الشُّعوب أو الدين من الأديان، ولئن صحَّ أنَّ “ابن سالم، خليفة الأمير عبد القادر، كان قد صرَّح لدى استسلامه في شهر فبراير 1847، حسبما ما رَواه أحدُ الشُّهود، “لقد حاربنا إلى يومنا هذا للدفاع عن حريتنا وديننا”، لئن صحَّ ذلك، فإنَّ الدفاعَ عن الحرية على أيَّةِ حالٍ، قد احتلَّ الدرجةَ الأولى في اهتمامات الأفراد والجماعات.
تَعقِيبٌ على النُّصوص..
إنَّ الهدفَ الذي سَعيْنا إليه من تقديم هذه النُّصوص المُختارةِ، هو لفْتُ انْتِباه المُؤرِّخين والباحِثين إلى الجوانب النفسية والاجتماعية التي يبدو لي أنَّها مَفقودة أو تكاد، في معظم الدِّراسات المَّكتوبة عن حروب التَّحرير، وعن المُقاومة الوطنِيَّة. وإذا كان للأستاذ “مُصطفى الأشرف” من فَضْلٍ في تأليفِ كتابه القَيِّم الذي تَوَلَّيْنا ترْجمتَه، فهذا الفضلُ يتمثَّل بالدرجة الأولى في أنَّه اخْتطَّ مَنهجَا يتمثلُّ في الإحاطة بالموضوع تاريخِيًّا، مع تسليط الأضواء النَّفسِيَّة الاجتماعية على الأحداث والوقائع التاريخية التي عالجها.
ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الجوانبَ النفسِيَّةَ المَطروقةَ مَبثوثةٌ في الكِتاب بأكمله، ولم نذكرْ منها إلاَّ بعضها، ومن شاء أنْ يتوسَّع عليه بالرُّجوع إلى الفهرس المُفصَّل، حيث سيجدُ العناوينَ التي لها علاقة بالنَّظرَة النَّفسِيَّة، وهي التالية: تحديد المَفاهيم القومِيَّة (صفحة 9). العنصرية اللاتينية (صفحة 12). عَقبات أمام الغزو الاستعماري (صفحة 17). الشعور القومي إلى الشعور الثوري (صفحة (34). تعصُّب أعمى أم وعي سياسي (صفحة 45). بين الجهاد المشروع والصليبية الحاقدة (صفحة 51). بين الوطنية والقومية (صفحة 75). الوطنية: من المستوى المحلي إلى المستوى القومي (صفحة 94). فتوى بوقف الحرب (صفحة 103). الميول السَّادية في الحرب (صفحة105). الحرب من أجل الحرب (صفحة 107). مهنة القتل وسفك الدماء (صفحة 114). محاولة تحطيم البلاد ماديا ومعنوِيًّا (صفحة 128). رد الفعل الشعبي (صفحة 129). التهديد والوعيد (صفحة 131). من الاندماج إلى الإدماج (صفحة 155). العقائدية المُمَهِّدة للكفاح المسلح (صفحة 168). نظرة الاحتقار إلى المحتلين الأجانب (صفحة 204). مشروع قانون التجنيس التبرير الغزو الفرنسي (صفحة (238. بلاغات (صفحة 261). الحرب كوسيلة للتكفير عن الذنوب (صفحة 264). سياسة التنصير (صفحة 274). الغزو الفكري (صفحة 276). عقلية الفرنسيين المستوطنين بالجزائر (صفحة 287). حماقات المعمرين (صفحة 288). الخوف من انتهاء الحرب (صفحة 311). العمل النفساني (صفحة 339). الانتصار الكاذبة (صفحة 341). التجميع القسري للأهالي (صفحة 348). الثقافة الأجنبية: بين الرفض والقبول (صفحة 413). صمود الثقافة العربية (صفحة 415). وضعية المغلوب (صفحة 417). التربية الذاتية (صفحة 419). تغيير العقليات (صفحة 449).
وبعد، فما من شكٍّ أنَّ الأستاذ “الأشرف” ليس من المُتخصِّصين في علم النفس، ولكن فَضْله، كما سَبَق لي أنْ قلتُ، عظيمٌ، باعتباره من الرُّوَاد في طَرْق هذه الأرض التي لم تطأها أقدامُ الباحثين من قَبْله.
وما أجْدَر هؤلاء أنْ يَنْكَبُّوا على دراسة مُقانِيات الدفاع لدى الشعب الجزائري الأبِيِّ، خلال الغزو العسكري والفكري، وتطوَّر هذا الغزو من:
- الاحتلال: وما نجم عنه من مقاومة.
- التعمير: وما نجم عنه من مقاومة.، وما نتج عنه من نشوء الحركة الوطنية الريفيَّة التي قوامها العاطفة والشعور الوطني.
- الاستعمار: الوطنية بتحويلها إلى حركة قومية، وقوامها العقل والفكر، مُضافًا إليهما العاطفة والشعور الوطني.
وإذا تسنَّى للباحث أنْ يَستعِين بالتَّناول النَّفساني للأحداث والوقائع التاريخية، فحينئذ سوْف يَدرسُ ذلك الدفاعَ المُستَمِيتَ لدى الشعب الجزائري، من خلال المُقانِيَات التي يتحدَّثُ عنها النَّفْسانِيُون: من رَفْضٍ للمدرسة الفرنسية ورفضٍ للطب الفرنسي، ورفضٍ لكل ما هو صادرٌ عن الغاصبين.. ومِن كَبْتٍ، ونُكوصٍ، وانْزواءٍ، واعتزالٍ، وانطواءٍ على الذَّات، وإسقاطٍ، وتَقمُّصٍ، ومخالفةٍ في الرأي بهدف إبراز الشخصية، وتصعيدٍ للمشاعر المَكبوتة، في صورة إبداعٍ فني أو أدبي لا يفتأ مُتأرجِحًا بين التَّلميح والتَّصريح… بين التَّنصُّل والتأصُّل.. بين الماضي والحاضر.. بين القديم والجديد.. بين الخذلان والاعتزاز.. بين الاستسلام والصُّمود، بين اليأس من تغيير الأوضاع، والأمل في المستقبل المنشود.