د. “عبد الله ركيبي”.. فلسطين في الأدب الجزائري الحديث (الجزء الثاني)

كان الكُتَّاب الجزائريون من أوائل الكُتَّاب العرب الذين تنبَّهوا إلى خطَر الصهيونيَّة ليس على فلسطين فحسب بل على الأمَّة العربيَّة جمعاء. وقد انطلقوا من معرفتهم “التَّاريخيَّة” بمَكر اليهود واعتمادهم على كل الطُّرُق الهدَّامة لتحقيق أهدافهم المُعادية للقِيَم الإنسانيَّة، إضافةً إلى متابعتهم الدَّائمة لأخبار اليهود في العالم، لا سيما بعْد مؤتمر “بال” بسويسرا في سنة 1897.

الكتابات الجزائريَّة في التَّحذير من أخطار اليهود والصهيونية كانت غزيرةً بعْد “وعْد بلفور”، وأمَّا قبْله فقد كانت قليلةً، وكان من أبرزها كتاباتُ “عمر راسم” الذي نَشَر في جريدته “ذو الفقار”، في 28 جويلية 1914، قائلاً: “إنَّ التَّفاهم مع الصهيونية مُستحيلٌ لأنَّ في ذلك اعترافًا بهم، وبزعامتهم، والبلاد المُقدَّسة اشتراها آباءُ العرب بدمائهم”.

إلى جانب “عمر راسم”، أشار الدكتور “عبد الله ركيبي” إلى كتابات “عمر بن قدُّور” التي كشَف فيها تأثير اليهود في أوروبا واعتمادهم على المال والمؤامرات منذ القرن التَّاسع عشر للتَّأثير على الحكومات وتخريب المُجتمعات من أجل بسْط سيطرتهم وهيمنتهم عليها. ثم تناول “ركيبي” كتابات “محمد السعيد الزَّاهري” الذي كان يُحرِّضُ ضدَّ الجمعيات والمنظَّمات التي كانت تعملُ على جمْع الدَّعم المادي للمشروع الصهيوني، وتجْميع يهود العالم تحت سقْفٍ “حُلمٍ” واحدٍ وهو إنشاء “وطنٍ” قوْمي في فلسطين.. ونواصلُ مع مقالة الدكتور الجزائري “عبد الله ركيبي”، التي نشرها في مجلَّة “الآداب” البيْروتيَّة في عدد شهر ماي 1975، حوْل “فلسطين في النثر الجزائري الحديث”..

فلسطين بين أُسْلوبيْن.. صُحُفي وأدبي

نُفرِّقُ بين أسلوبيْن فيما كتَبه الكُتَّاب في موضوع فلسطين، الأسلوب الصُّحُفي الذي ينقل الخبرَ أو يحلِّله ويعلِّق عليه دون اهتمام بالصِّيَاغة وجمال التَّعبير بل ودون تصویرٍ، إنَّما المُهم هو بيانُ الحقيقةِ وتبْصير الناس بواقع القضيَّة وبما يترتَّب عنها من نتائج. وهذا الأسلوب لا يهمُّنا في هذا البحث، وإنَّما الذي نُعْنَى به هو ذلك النَّثر الأدبي الذي يعبِّر فيه صاحبه عن انفعاله تجاه القضيَّة ويصطنع فيه الأسلوب الأدبي سواءٌ في عبارته أو صياغته أو إنشائه، ويُجسِّم فيه شعوره نحو فلسطين.

على أنَّنا من الناحية المَنهجيَّة ومن الناحِيَة التاريخيَّة، سنشير إلى الأسلوبيْن معًا، ثم نركِّز على الأسلوب الثاني، ففي الحديث عن أخلاق اليهود، انطلق الكُتَّاب الجزائريون من الواقع، فنجدهم يُحذِّرون المواطنين من شرِّهم ومن استخدامهم لمُختلف السُّبُل لتحقيق منافعهم بصرف النظر عن جميع القِيَم. وقد ظهَر مثلاً مقالٌ في جريدة “الحق”، وهي جريدة وطنية صدرت في أواخر القرن الماضي، وصَف فيه كاتِبُه “ما يتعرَّض له الأهالي التُّعساء من معاملات اليهود القاسية التي بدَّلتْ نعيمَهم بُؤسًا وغِناهم فقرًا، وجعلتْ منهم غرباءَ في أوطانهم لا يملكون شيئًا، لأنَّ أولئك الجشِعِين قد فغروا الأفواهَ لالتهام كل ما تصل إليهم أيديهم”.

“عمر راسم” يُحذِّر من الصهيونية قبْل “وعْد بلفور”

وكما سبَق أنْ ذكرْنا، إنَّ هؤلاء الكتاب تفطَّنوا إلى خطَرِ اليهود منذ فترة مُبكِّرةٍ، أيْ منذ أواخر القرن الماضي، فكتَب “عمر راسم” سلسلة مقالات: “في (المسألة اليهودية) نشرت في (المرشد)، و (مرشد الأمة) أعطى فيها رأيه الخاص..”.

و”عمر راسم”، في رأيي، هو أوَّل كاتب جزائري تفطَّن إلى هذه القضيَّة، فنراه يُحذِّر الجزائريين من طرُقُهم السيِّئَة في إفساد الشباب الجزائري، بحيث يستدرجونه إلى التَّحلُّل من الأخلاق، ويغرونه بالإدمان على الخمر أو القِمار وما إلى ذلك، فيذكر بالنص: “اليهود وحدهم الذين أخذوا يسعون في تشتيت شمْلنا، ونهْب أرزاقنا، بواسطة وباء الخمر، وقد نالوا مُبتغاهم وصرنا لهم أَسارى وعبيدًا”.

بل إنّه يُصرِّح بخطَر الصهيونية منذ وقت مبكر حتى قبل إعلان “وعد بلفور”، ويُنبَّه العربَ إلى هذا الخطر الذي لا يضرُّ بالفلسطينيين وحدهم وإنَّما يضر بالعرب أجمعين، حين يقول: “إنَّ التَّفاهم مع الصهيونية مُستحيلٌ لأنَّ في ذلك اعترافًا بهم، وبزعامتهم، والبلاد المُقدَّسة اشتراها آباءُ العرب بدمائهم”. (ذو الفقار 28 جويلية 1914)

العربُ أمَّةٌ مُتكاسِلةٌ..

والكاتبُ يبدو هنا دقيقًا واعيًا بالحقيقة الصهيونية، مُدرِكًا لأهدافها. وأيضًا يُدلِّل على أنَّه كان يتابع تطوُّرات دعواتها في تكوين وطنٍ قومي لليهود في فلسطين منذ مؤتمر “بال”. بل أكثر من ذلك، إنَّ الكاتبَ، أثناء الحرب العالمية الأولى، كتَب مُبيِّنًا خطَر مؤتمر “بال” وقراراته التي نُشِرتْ في كتابٍ بالفرنسية. كما ندَّد باجتماعات اليهود في فرنسا، حيث يقول عنهم أنَّهم: “دعوا أبناءَ إسرائيل إلى إعانة المشروع المُقدَّس وإظْهار راية سليمان”. ونبَّه الكاتبُ إلى ما قاله أحدهم: “إنَّ اليهود في فلسطين سينجحون على رغم الهلال والصليب، لأنَّ العربَ أمَّةٌ متكاسلةٌ لا تحبُّ العملَ، واليهود أمَّةٌ نشِيطة ستستولي بنشاطها على الأرض المُقدَّسة”.

فهذا الكاتبُ إذًا كان واعيًا، منذ زمن طويل، بما يَحِيكه اليهودُ ضدَّ العرب وضد فلسطين بوجهٍ خاص، ويردُّ على “رشيد رضا” (عالم أزهري) الذي اقترح: “إمَّا عقْد اتِّفاقٍ مع زعماء الصهيونيين، على الجمْع بين مصلحة الفريقيْن في البلاد إنْ أمْكن. وإمَّا صرْف قِواهم كلِّها لمقاومة الصهيونيين بكل طرُق المقاومة”.

ولكن الكاتب الجزائري يرُدُّ عليه في عُنْف. يرُدُّ على الحل الاستسلامي المبكر الذي نادى به “رشيد رضا”، فيقول “راسم”: “هذا خطأ فاحشٌ من صاحب المَنار (جريدة رشيد رضا)، لأنَّه يريد أن يُرضي الدُّخلاءَ بتنازل أهل البلاد إليهم حتى يعترفوا لهم بالمساواة”.

على أنَّه في هذه الفترة التي أشرنا إليها، وحتى قبل الحرب العالمية الأولى، نلحظ كُتَّابًا آخرين مثل “عمر بن قدور” يهتمُّون بتأثير اليهود في تركيا وفي أوروبا، وكيف أنهم سيطروا ـ بما يملكون من مال وما يستخدمون من مؤامرات – على الحكومات في تركيا وأوروبا منذ القرن الماضي، كما يضرب أمثلةً من التاريخ لعِبَ فيها اليهود دوْرًا مُخرِّبًا.

سَيْلٌ جارفٌ من الكتابات بعد “وعد بلفور”

وإذا كُنَّا لم نعثر على إنتاجٍ كبيرٍ قبْل “وعد بلفور” سوى ما ذكرْنا، فإنَّنا بعْد هذا الوعد نلحظ سيْلاً جارفًا من المقالات في مختلف الصُّحُف تندِّد به وبالاستعمار الإنكليزي الذي فرض حمايتَه بالقوة على فلسطين، وبالتالي مهَّدَ الطريقَ لإقامة وطنٍ لليهود على أرضها، بل تهاجمُ تلك الموجةَ التي طفتْ في الجزائر وتمثَّلتْ في دعوة اليهود إلى إغاثةِ أمثالهم في فلسطين، وظهور شخصيات يهودية تنشئ الجمعياتَ وتجمعُ الأموالَ بقصْد إرسالها إلى اليهود في فلسطين. وقد قابلتْ هذه الموجةُ موجةً أخرى من الجزائريين على لسان كُتَّابها تدعو الشعبَ إلى اليقظة والحذر وعدم التورُّط في إعطاء اليهود أموالاً لن تبقى في الجزائر، بل مآلُها الذهاب إلى فلسطين لتستَخدم ضدَّ العرب والمسلمين هناك.

“محمد السعيد الزَّاهري” يُشهِرُ قلَمَه..

ولعلَّ الكاتب “محمد السعيد الزاهري” كان من بين من عَنُوا بصورةٍ خاصة بهذا الموضوع في تلك الحِقْبة، وأظْهر وعْيًا بما يقوم به اليهود في الجزائر لنصرة أمثالهم في فلسطين، وقد أثارَه أحـدُ المحامين اليهود واسمه “ناطان لابیرن” الذي حلَّ بالجزائر، من “لَدُن جمعية كيرن هايسود اليهودية، يدعو إخوانَهم الإسرائيليين لإعانة مُعمِّري أرض الميعاد”. ويقول “الزاهري” عنه أيضا: “وقد احتفل به يهود بلادنا بكل أبَّهةٍ وإكرامٍ، واجتمعوا إليه مع رؤساء (الاشتراكية) في قاعة مركز العساكر والبحريَّة، حيث ألقى خطابًا يُحرِّض فيه الهِمَّةَ اليهودية لتأييد دين آبائهم وأجدادهم”.

ولكي يستحِثَّ الكتابُ الجزائريين والمسلمين والعربَ عامة على التشبُّث بالأوطان وبالقوميَّة، يشرح مجهودات اليهود لإنشاء وطنٍ رغم لهم تشتُّتهم في بلدان كثيرة، ورغم تَيْههم منذ آلاف السنين، ويناقش ادِّعاءَ اليهود في فلسطين وحقهم في أرضها “بأمْر الرب” كما يزعمون، ويفنِّد حُججهم بالمنطق والواقع، فاليهود إذا كانوا قد خرجوا منها فلماذا؟ ومَنْ أخرجهم؟ والأرض لِمَنْ بقِيَ فيها وحافظ عليهــا ولم يتركها.

والكاتبُ لا يرى في أطماع اليهود سوى لوْنٍ من أطماع الاستعمار ورغبته في استغلال الشعوب: “يقول اليهودُ أنَّ فلسطينَ ملكٌ لهم بأمْر الرَّب، وإذا كان الأمر كذلك فمن الذي أخرجهم منها، هل هو أقوى من الرب؟ وعلى كل حال فهي ليست لهم لأنَّ أهاليها هم الذين لم يفارقوها ومكثوا فيها من قبل التَّيْه إلى اليوم، ولم يأمر الربُّ ولم يوافق العدلُ على أنْ لا يملك تلك الارض إلاَّ المُتديِّنَ باليهودية، بل الحقُّ الذي لا مراء فيه هو أنَّ استعمار فلسطين باليهود هو ظلمٌ كظلم سائر الاستعمار”. ولذلك يشْجب موقفَ اليهود في الجزائر، ويرفضُ أنْ تُرسَل الأموالُ إلى فلسطين لتُستَخدم ضدَّ “أهالي فلسطين الحقيقيين”. ثم يوجِّهُ نقدَه إلى هذا المحامي وأمثاله من اليهود وزعمائهم الذين يتَحدّون شعور الجزائريين ويهدِّدهم: “وليعلموا أنَّ فلسطينَ أرضٌ عربيةٌ إسلاميةٌ، وأنَّ أموالَنا وأرواحَنا التي أزْهِقتْ في الحرب الأخيرة لا تذهب وراء سعْيِ المُرابين”.

الغَوْثُ أيَّها المسلمون..

فالزَّاهري من أكثر الكُتَّاب تفطُّنًا إلى صِلة اليهود في الجزائر بأمثالهم في فلسطين، بل باتِّحاد يهود العالم ضد فلسطين وضد العرب. وإذا كان في المقال السابق قد ناقش القضيةَ بالمنطق والحجة واستخدم أسلوب الإقناع، فإنَّه في مقالٍ آخر قد عبَّر عن شعوره وإحساسه وانفعاله بالقضية حين ظهر طغيان الصهيونية في فلسطين سنة 1929، وربَّما بعد ثورة الشعب الفلسطيني في أواخر العشرينيات التي كان ردُّ الاستعمار الإنكليزي والصهيونية عليها تلك المذابحُ وصُنوف الاضطهادِ التي شُنَّت على أبناء فلسطين، مِمَّا حرَّك في نفْسِ الكاتب هذه الصَّرخة المُدوِّيَة، مُطالبُا بالوقوف إلى جانب فلسطين في مقاله “فظائع الصهيونية في فلسطين، الاكتتاب الاكتتاب، الغوث الغوث أيَّها المسلمون”. وحتى يُحرِّك الكاتبُ مشاعرَ الناس يضرب على وترِ الدِّينِ لأنَّه أكثر تأثيرًا في الجزائريين الذين كانوا يعانون أيضًا من اضطهاد الدين ومن العنصرية والاستعمار، لذلك ينبِّهُ الجزائريين إلى ما حلَّ بأرض النُبُوَّة، ويذكِّر بأنَّ الصهاينة قد “اغتصبوا البُراقَ الشريف وردُّوه كنِيسًا لهم، واعتدوا على المسجد الأقصى في القدس الشريف وهم يحاولون أن يتَّخذوه كنِيسًا لهم أيضًا”.

تم يوجِّهُ الخطابَ إلى الجزائريين بقوله: “وهل سمعتم بأنَّ إخوانكم المسلمين الذين تركتموهم هنالك في فلسطين سنَدَةً للمسجد الأقصى وحُرَّاسًا للبُراق الشريف، قد جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ودافعوا عن البراق وعن المسجد الأقصى، ثم اغتالتهم الصهيونية اليهودية وفتكتْ بهم فتْكًا ذريعًا”.

كما يقارن مرة أخرى بين اليهود والمسلمين، ويُنبِّه الأذهانَ إلى ما يفعله اليهود من أجل إخوانهم، وما لا يفعله المسلمون من أجل الفلسطينيين: “إنَّ اليهودَ في كل موضع يؤيِّدون إخوانَهم في فلسطين على باطلِهم المُنكَر، فلماذا نحن المسلمون لا نؤيِّدُ إخواننا هنالك على حقهم المعروف المقدس؟”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
تتويج الجزائرية باداش بلقب الدورة الدولية للتنس لبنان.. 18 شهيدا و38 مصابا جراء عدة غارات صهيونية درجات حرارة قياسية عبر 10 ولايات التجارة الإلكترونية في الجزائر.. تجربة التسوّق بنقرة واحدة صواريخه أفقدت "إسرائيل" صوابها.. حزب الله يجرّ العدو إلى الجحيم الجبلي نداء من المكتبة الوطنيّة الفلسطينية.. من يحمي الذاكرة من الإبادة الثّقافية في غزّة؟ وفق هندسة معمارية تضمن الاستدامة.. معايير جديدة للإسكان في الجزائر أعطوه ناقوس الخطر ليدقّ عليه.. رواية "الملف المطوي" تصدم الملك المغربي السفير الصحراوي: قرار المحكمة الأوروبية كشف حقيقة الاحتلال المغربي بوغالي يدعو المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف حازم ضد الانتهاكات الصهيونية استرجاع ما يقارب 90 مليار سنتيم.. شرطة المغير تطيح بشبكة إجرامية عابرة للحدود يسبب نوبة صرع أو غيبوبة أو حتى الوفاة.. طبيب يحذر من الإفراط في شرب المياه مجلس الأمن قلق بشأن استهداف بعثة “يونيفيل” في لبنان ندوة دولية في نيويورك.. البرلمان الجزائري يدعو العالم إلى نصرة الشعب الصحراوي وزارة العدل تفتح باب التوظيف بتكليف من قوجيل.. الجزائر تستضيف ندوة حول قضية الصحراء الغربية وزيرة الثقافة تزور متحف الأردن وتستكشف تاريخه بسبب خسارة مالية كبيرة.. "بوينغ" تُخطط لتسريح 17 ألف موظف شبيهة بالبشر وتحتفل مع الضيوف.. تسلا تكشف عن روبوتات “أوبتيموس” هذا برنامج سير رحلات القطار على خط الجزائر – زرالدة