“إلقاءُ إسرائيل في البحر” عبارةٌ اختلفَ الباحثون حوْل قائِلها، ونَسبُوها إلى زعيمٍ عربيٍّ مرَّةً، ومرَّةً أخرى نسبوها إلى زعيمٍ إسلاميٍّ. وعبْر خمسين عامًا، تَشدَّقَ بها العربُ وتفاخروا.. ولكنه في ظروف الحرْب الشَّيطانيَّة (الصهيونيَّة الأمريكية الأوروبية) المُعلنة على غزَّة وفلسطين، هناك من تبرَّأ من هذه العبارة.. ونزعمُ أنَّ العبارة “الأصليَّة” هي للشيخ “محمد البشير الإبراهيمي” في مقالٍ له بعنوان “عيد الأضحى وفلسطين” نشَره عام 1948 في جريدة “البصائر”، حيث قال: “أيُّها العرب: لا عيد، حتى تُنفِّذوا من صهيون الوَعِيد، وتُنجزوا لفلسطين المواعيد، ولا نَحْر، حتى تقذِفوا بِصُهيون في البحر”.
والشَّيخُ كان ناقِمًا ساِخطًا على الصهاينة والصهيونيَّة، وأيْضًا على الدُّول التي كانتْ تدْعمُ هذا “السَّرطان العالمي” كما صَوَّره في بعض مقالته، ومن تلك الدَّول ركَّز على الإنجليز وعلى فرنسا التي حاولتْ أنْ تخنُقَ مشاعرَ الجزائريين، آنذاك، وتحجُر على عواطفهم اتِّجاه فلسطين. وقد رأى الشَّيخُ في فرنسا بأنَّها مُجرَّدُ مُستعمرَةٍ يهوديَّةٍ، حيث قال: “نحن لا نجهل تَغلغل الصهيونية في فرنسا، ولا نجهل تَحكُّمَ اليهود في مرافقِها الحَيويَّة وفي جهازها الحكومي، بل في كيانِها الذي هي به أمَّة، بل نُعِدٌّ فرنسا.. مُستعمرةً واحدةً يهوديَّة، بل نستغربُ مُطالبةَ اليهود بوطنٍ قومي، مع أنَّ فرنسا كلَّها وطنٌ قوميٌّ لهم”.
كما كان الشيخ “محمد البشير الإبراهيمي” ساخِطًا حتى على بعْض العرب لأنَّه رأى فيهم التَّخاذلَ إلى حدِّ المؤامرة على فلسطين. وتعجَّب من انكسار سبْعة جيوشٍ عربيَّةٍ أمام جيْشٍ واحدٍ، وخِلافًا للمؤرِّخين والمُحلِّلين الذي توصَّلوا إلى أنَّ أسباب هزيمة العرب في 1948 هي: السِّلاح المغشوش، وانعدام الاحترافية العسكريَّة وغيرها من الأسباب، فإنَّ الشيخ “الإبراهيمي” رأى بأنَّ الصهاينة كانوا مُتوحِّدين تحت رايةٍ واحدةٍ وقائِدٍ واحدٍ، بينما العربُ كانوا مُتفرِّقين بين رايات عديدةٍ وقِيادات مُتعدِّدةٍ، فقال: “جاؤوكم على قلْب رجُلٍ واحدٍ، وجِئْتوهُم بقلوبٍ مُتنافِرة، قادَهم إلى الظَّفَر قائدٌ واحدٌ ورأيٌ جميعٌ، وقادَكم إلى العار قُوَّادٌ مُتشاكِسون ورأيٌ شَتَيتٌ، ما أَضاعَ السِّيادةَ إلاَّ توزيعُ القِيادةِ، اجتمَعوا وافترقْتم، فسَلِمُوا واحْترقتم..”.
أوْجَزَ الشيخ “محمد البشير الإبراهيمي” قراءَته للعرب، فقال: “أيُّها العرب: بعضُكم أبْرارٌ، وجُلُّكم أشْرارٌ، وكُلُّكم أغْرارٌ..”. فهل ما زالتْ قراءةُ الشيخ “الإبراهيمي” تنطبِقُ على العرب في أيَّامنا هذه؟ وهل ما زالتْ فرنسا مُستعمرَةً صهيونيَّة أم أنَّ بلدانَ ومناطقَ أخرى في العالم المُتقدِّم و”الثالث” صارتْ من ضِمْن المُستعمَرات الصهيونيَّة؟ سنتركُ للقارئ مُهمَّةَ البحث عن إجابات على ضوْء مُواصلةِ إبْحارَنا في مقال الدكتور الجزائري “عبد الله ركيبي” (1928 – 2011) المنشور في مجلَّة “الآداب” البيْروتيَّة في عدد شهر ماي 1975، حوْل “فلسطين في النثر الجزائري الحديث”..
“العالمُ المُتحضِّرُ” يهوديٌّ أكثر مِنَ اليهودِ أنفسِهم
عبَّر الشيخ “محمد البشير الإبراهيمي” عن عروبة المغرب العربي وعن تجاوب أبنائه مع عرب فلسطين، ولكنه يشرح كيف أنَّ وضْعهم يختلف عن وضعِ عرب المشرق العربي، إذْ إنَّ ظروفهم صعبة تحت الاحتلال الفرنسي الذي يشجِّع اليهودَ ويتغاضى عن أعمالهم، فإذا جمعوا الأموالَ فإنَّه لا يحرك ساكنًا، وإذا فتحوا باب التدريب على السلاح في معسكرات خاصة بهم تجاهل ذلك، بينما لو فعل العربُ في الجزائر مثل هذا “لَقامتْ قِيامة الاستعمار الفرنسي..”. ولقد سجَّل الكاتبُ المفارقةَ العجيبة التي عاصرها حين كان الجزائريون يتَخفّون ليهاجروا الى فلسطين ويشاركوا في الحرب ضد المُحتلِّين فيقال لهم أنَّهم “فرنسيون” أو “مُدجَّنون”) أيْ يعيشون تحت الحصار والمراقبة الشديدة في ظل الاستعمار)، وحتى جمْع الأموال لفلسطين كان من المُحرَّمات عليهم.
وتملأ الحسرةُ نفسَ الشيخ “محمد البشير الإبراهيمي” وهو يشاهد هذا التَّواطؤ من طرَف السلطات الاستعمارية الفرنسية ومن أوروبا كلِّها ضدَّ الجزائر والعرب، ويُظهِرون روحًا عنصريةً ما لها نظيرٌ، في حين يتَّهِمون العربَ بالعنصريَّة، ويتكهَّن بمصير العُنصريِّين أيْنما كانوا، ثم يسْخَر من “العالمُ المُتحضِّر” الذي أصْبح يهوديًّا أكثر من اليهود أنفسهم: “وآمنا بأنَّ السِّحرَ الذي أبْطله موسى قد أحياه أشْياعُه ولكن بغير أدواته، أبْطله بعصا الخشب وأحيوه بحبال الذَّهب..”.
فرنسا.. مُستَعمَرةٌ يهوديَّةٌ
وفي مقال آخر “قِيمةُ عواطف المسلمين في نظَر فرنسا”، نجِدُ الشَّيخ “الإبراهيمي” يعرِضُ إلى موقف فرنسا من قضية فلسطين، وبوجْهٍ خاص مَوقفَها من الجزائريين في هذه القضية. ويَنقُد تأييدَها للتَّقسيم ولم تُراعِ عواطف الجزائريين، ويَعْزو ذلك إلى حقدٍ استعماريٍّ، وقبْل هذا، يَعزُوه إلى سيطرة اليهود في فرنسا، فيقول: “نحن لا نجهل تَغلغل الصهيونية في فرنسا، ولا نجهل تَحكُّمَ اليهود في مرافقِها الحَيويَّة وفي جهازها الحكومي، بل في كيانها الذي هي به أمَّة، بل نُعِدٌّ فرنسا ومستعمراتها كلِّها مُستعمرةً واحدةً يهوديَّة، بل نستغربُ مُطالبةَ اليهود بوطنٍ قومي، مع أنَّ فرنسا كلَّها وطنٌ قوميٌّ لهم”.
فرنسا.. تُعلِنُ أمْرًا وتَفعلُ ضدَّه
وهذا الحُكْم لم يصدر من الكاتب عن تَجنٍّ أو عن نظرةٍ ضيِّقةٍ أو حماسٍ قوْميٍّ، وإنَّما عبَّر عن واقعٍ كانت الحركةُ الصهيونية تحتلُّ فيه مكانًا بارزًا في السياسة والإعلام والاقتصاد الفرنسي، كما كانت وما زالتْ تُهيمِن في هذه المجالات كلها في بلدان أخرى حتى اليوم، ولعل أمريكا تُمثِّل قصَّةَ هذا النُّفوذ والسيطرة في عصرِنا هذا. أمَّا في ذلك الوقت، فإنَّ الكاتبَ يتحدَّثُ عن فرنسا لأنَّها كانتْ تستعمر الجزائر والمغرب العربي كله. ويكرِّر ما ذكَره سابقًا من أنَّ فرنسا لم تفكِّر لا في عواطف عربِ هذه المنطقة ولا في مصالحها معهم، وانساقتْ وراءَ شعورها الخاص أو تحت تأثير الصهيونية، وأعلنتْ عن نواياها المُمالئة للصهيونية وتحت تأثير أمريكا “ودولاراتها” مع أنَّ فرنسا تردِّد باستمرار بأنَّها لا تعادي المسلمين، فهي تُعلن أمرًا وتفعل ضدَّه.
ونُحِسُّ بالمَرارة في نفْس الكاتب من هذا الموقف فيعبِّر عن يأسه، وهو شعورٌ كان يحسِّه الجزائريون في تلك الفترة ويدفعهم إلى الغضب من هذه التصرُّفات غير العادلة.
لا عِيد حتى تُنجِزوا لفلسطين المَواعيدَ..
ولما وقَعتْ الكارثةُ، وخسر العرب المعركةَ عام 1948 حزنَ الجزائريون وازدادتْ المَرارةُ في نفوسهم، لأنَّ هزيمةَ العرب تُصيبهم في الصَّميم وتُشعِرهم بالدُّونِيَة والاحتقار سواءٌ من المُعمِّرين أو من اليهود الصهاينة. ويأتي الشِّعر ليعبِّر عن هذا الحزن وعن هذه المَرارة أكثر من النَّثر، لأنَّه أسْرع في التَّعبير عن الانفعال في تلك اللحظة التي عصفتْ بالعرب جميعًا لا أهل فلسطين فحسب. ولكن الإبراهيمي ينفعل بقوة لهذه المِحْنة، فيكتب فيها خواطِر تُشبه الشِّعر، يُصوِّر بها ما لَحق الفلسطينيين من حيْفٍ وتشرُّدٍ، ويستغلُّ مناسبةَ عيد الأضحى فيتفجَّر قلمُه ويهاجِم هؤلاء الذين يفرحون في العيد وفلسطينَ يغتالها اليهودُ، فيقول: “النفوس حزينةٌ، واليوم يوم الزِّينة، فماذا نصنع؟ إخوانُنا مُشرَّدون، فهل نحن من الرحمة والعطف مُجَرَّدون؟ تتقاضانا العادةُ أنْ نفرح في العيد ونبتهج، وأنْ نتبادل التَّهاني، وأنْ نطرح الهُمومَ، وأنْ نَتهادى البشائرَ، وتتقاضانا فلسطينُ أنْ نحزن لمِحْنتها، ونغتمَّ، ونُعْنَى بقضيَّتها ونهتمَّ”.
بِمِثل هذه الصَّرخة يُعبِّر الشيخ “الإبراهيمي” عن اللَّوْعة والأسى للنَّكبة التي شرَّدتْ الشعبَ العربي الفلسطيني، ويطالب العربَ بالعمل لا بأن ينْحروا الذَّبائح، يقول: “أيُّها العرب: لا عيد، حتى تُنفِّذوا من صهيون الوَعِيد، وتُنجزوا لفلسطين المواعيد، ولا نحْر، حتى تقذفوا بصهيون في البحر”.
الاستعمارُ “يَحْجُر” على مَشاعِر الجزائريين..
ويُصوِّرُ وقْعَ الكارثةِ عليه حتى ألْجَمتْ نفسَه عن الكلام وقلمَه عن الكتابة: “إنَّ بين جنْبيَّ ألمًا ينَزَّى، وإنَّ في جوانحي نارًا تتلظَّى، وإنَّ بين أناملي قلمًا سُمْته أنْ يجري فجمَح، وأنْ يسْمح فما سمَح، وإنَّ في ذهني معاني أنْحى عليها الهمُّ فتهافتتْ، وإنَّ على لساني كلماتٌ حبَسها الغمُّ فتخافتت”.
وفي هذا تجسيدٌ لِما حلَّ به وبالعرب أجمعين، فقد رسَم صورةً للهلَع الذي استبدَّ به بل بنفوس الجزائريين في تلك المِحْنة، وزاد من حِدَّة هذا الإحساس أنَّ الجزائري كان يُمنَع حتى من إظْهار مشاعره وتعاطفه نحو أشقَّائه، لأنَّه تحت سيطرة استعمارٍ أشدَّ قسوةً من أنواع الاستعمار الأخرى، فلا يترك فرصةً للناس لمُجرَّد التَّنفيس عن حرمانهم، فهُم يختنقون ويموتون غيظًا وكمدًا، وهذا ما عبَّر عنه الكاتبُ في هذه القطعة التي اختار كلماتها كما اختار لها السَّجْع الذي يُناسبها.
حربٌ دينيَّةٌ صليبيَّةٌ يهوديَّةٌ على فلسطين
ويستغلُّ الشيخُ “الإبراهيمي” أسلوب السَّجْعِ في قطعة أخرى، في سجعٍ آخر من سلسلةٍ كتبَها في تلك الفترة أيضًا. وإذا كانتْ أفكارُها قد سبَق أنْ عبَّر عنها في مقالاته، فإنَّه من حيث الأسلوب قد أعطاها شكلاً جديدًا أكثر تأثيرًا، لأنَّه أحْيا به سجْع القُدماء وطريقتهم في التَّصوير والتَّهويل والمبالغة وإظْهار قدرتهم على البَيان واللغة، يقول: “ثأرٌ للغرب في فلسطين، لم تنبت عليه شجرةُ من يَقْطين، وشياطينُ تنْزو للإغراء إثْرَ شياطين، ويومٌ في أعناقكم بيوم حِطِّين، تُنْسِيه غريزةُ الماء والطين فتذكِّره بعزَّة الجنس والدِّين. أَنَسيتُم يوم تَنادوا مُصبِحين، وتَعادوا مُسلَّحين، وتَداعوا مُصْطلِحين وتَعاوُوا من كلِّ حدْبٍ، وتَهاوُوا من كل صوْبٍ ذُؤْبان، تَقدَّمها رُهْبانٌ وغُربانٌ، تُظلِّلها صُلْبان، بنفوسٍ من الحقد ثائرةٌ، وقلوب بالبغْضاء فائرةٌ، تُنازِعكم إرْث الإسلام، ومِعراج نَبِيِّ السَّلام؟ أَنَسيتم ما فعله صلاح الدين بالمُعتدِين”.
لماذا انْكسَر العربُ في 1948؟
ويستمرُّ على هذا الوتيرة في تقْريع العرب ولوْمهم مُعلِّلاً سبَبَ تَكالُب الغرْب واتِّحاده ضدَّهم. وكذلك سبَبُ انكسار العرب وهزيمتهم وانتصار اليهود وتحقيقهم لهدفهم، فهؤلاء اعتمدوا على اليقظة وحُسْن الاستعداد واستخدام العلم والاتحاد والتَّكاتف وكذا القِيادةُ المُوحَّدة، أمَّا العربُ فقد اعتمدوا على النَّفيض، يقول: “جاؤوكم على قلْب رجُلٍ واحدٍ، وجِئْتوهُم بقلوبٍ مُتنافِرة، قادَهم إلى الظَّفَر قائدٌ واحدٌ ورأيٌ جميعٌ، وقادَكم إلى العار قُوَّادٌ مُتشاكِسون ورأيٌ شَتَيتٌ، ما أَضاعَ السِّيادةَ إلاَّ توزيعُ القِيادةِ، اجتمَعوا وافترقتم، فسلِمُوا واحْترقتم..”.
بهذه الجُمَل القصيرة المُوجزة حلَّلَ الكاتبُ أسبابَ الانتصار والهزيمة، بل لخَّص بها واقع العرب عام 1948. ويُذكِّرنا حديثُه هذا بالعبارة التي قالها المفكر العربي المعروف “ساطع الحصري” حين سُئِل في ذلك الحين: كيف هُزِم العرب وكانوا سبعةَ جيوشٍ؟ فأجاب: لقد هُزِموا لأنَّهم كانوا سبْعة جيوش. وكِلاَ الكاتِبيْن كان هدفُهما التَّأثير وإيقاظُ النفوس والأذهان على الواقع المرير، ويلخِّص “الإبراهيمي”، بعد ذلك في مقاله، موقفَ العرب بعد تلك المِحنة بقوْله: “أيُّها العرب: بعضُكم أبْرارٌ، وجُلُّكم أشْرارٌ، وكلُّكم أغْرارٌ..”.
مُحاولةٌ لاغتيال الحقِّ والعدل
فالكاتِبُ حانِقٌ ساخِطٌ على العرب، فهو يُصدِر في حُكمِه هذا الذي قد يبدو مبالِغًا فيه، عن أزمةٍ روحيَّةٍ وشعورٍ بالذلِّ مِمَّا لَحِقه ولَحِق العربَ جميعًا من عارٍ وهزيمةٍ، ولكن دون شكٍّ كان صادقَا التَّعبير عن هذا الشعور، ولم أقرأ نثرًا جميلاً يُصوِّر الكارثةَ لغيْر “الإبراهيمي”، وإنْ قرأنا شعرًا جيِّدًا مُعبِّرًا عن الجُرح العميق والألم المُمِضِّ مِمَّا لَحق فلسطين على يد الاستعمار والصهيونية من اغتيالٍ لها وللحقِّ والعدلِ، فهي مَثَلَ فريدٌ في التاريخ يقوم شاهدًا على أنَّ القوَّةَ يمكن أنْ تنتصر إذا لم تجد إرادةً أقوى منها.