الشَّعبُ الجزائريُّ هو أقْدَرُ الشُّعوبِ العربيَّة على الشُّعور بمآسي الشَّعب الفلسطيني، لأنَّه اصطلى بِنِيران الاستعمار الاستيطاني المدعوم من قوى الشَّرِّ للدُّول الغربيَّة الكبرى، طِيلة أكثر من قرنٍ وثُلْثِ القرْن. وعاشَ كلَّ أشكال القهر والظُّلم و”ذاق الإرهابَ بشتَّى صُوَره وأشْكاله، وتعرَّض إلى محاولات القضاء على مُقوِّماته الأصِيلة من لغةٍ ودينٍ وتاريخٍ وحضارةٍ، بل عرَفَ أخْطر من هذا، محاولةَ إلغاءِ كيانِه ومَحْوِه من الوجود”.
وإضافةً إلى هذا، فقد عَرَف الشَّعبُ الجزائريُّ مكْرَ اليهودِ وخديعتهم وتنكُّرِهم لكلِّ يدٍ امتدَّتْ إليهم بإحسانٍ عبر التاريخ. كما عرَف أنَّهم أهلُ الذُّل والمسْكَنَة والانكسار، ولا يُسفِرون عن وحْشِيَّهم وشيْطانيَّتهم إلاَّ إذا وجدوا قِوى جبَّارةً تدعمهم، كما هو حاصلٌ اليومَ في فلسطين. وانطلاقًا من هذه المعرفة باليهود وعلاقة حركتهم الهدَّامة “الصهيونيَّة” لكل القِيَم الإنسانية، وتحالفها مع الدُّول الغربية الاستعمارية، فقد تنبَّه الأدباءُ الجزائريُّون قبْل غيرهم في الأقطار العربية إلى الخطَر الصُّهيوني على فلسطين قبْل “وعد بلفور”، ودقَّوا أجْراس الخَطر في كتاباتهم عبْر الصُّحف الجزائريَّة والعربيَّة، منذُ الرُّبع الأخير من القرن التّاسع عشر. وفيما يلي، نقدِّمُ إلى القارئ مقالةً كتبَها الدكتور الجزائري “عبد الله ركيبي” (1928 – 2011) في مجلَّة “الآداب” البيْروتيَّة في عدد شهر ماي 1975، حوْل “فلسطين في النثر الجزائري الحديث”..
الوطنيَّةُ والوحدة العربيةُ وفلسطين
الدَّارِسُ للأدبِ الجزائريِّ الحديث يلحَظُ ظاهرةً مُتميِّزةً في كِتابات الجزائريِّين شِعْرًا ونثرًا، وهي الانطلاقُ من الواقع الوطني إلى الواقع العربي، من رؤْيةٍ محليَّةٍ إلى رؤية عربيَّةٍ شاملةٍ، بحيث ينُدُر أنْ نجِدَ قصيدةً تتحدَّثُ عن قضيَّةٍ وطنيَّة وتركزُ عليها وحْدَها دون الرَّبْط بينها وبين القضايا العربية الأخرى.
ولا عَجَب في ذلك، فالجزائر رغم السِّتار الحديدي الذي ضَرَبه حولها الاستعمارَ الفرنسيَّ منذ الاحتلال حتى الاستقلال لم تنفصل عن الوطن العربي، ووَقَف الشَّعبُ الجزائري وأدباؤه ضدَّ سياسة العزْل والتَّفْرقة بالقوَّة نفسها التي رفضوا بها سياسةَ الاندماج في الجنسيَّة الأجنبيَّة. ومن هنا نشأ ذلك التَّعاطف بل ذلك التَّرابط الوثيق بين الوطن وبين العُروبة، بين الوطنيَّة والقوْميَّة، بين الجزائر والعالم العربي، الأمر الذي يُفسِّر تعلُّق الجزائريين بالشَّرق وبالأمَّة العربية، كما يُفسِّر الاهتمامَ بقضيَّة فلسطين بوجه خاص، بحيث لا نُغالي حين نقول أنَّ الإنتاجَ الأدبيَّ الجزائريَّ، شِعْرًا ونثرًا، في هذا القرن، دار حول محاور ثلاثة: الوطنيَّة، العُروبة والوحدة العربية، فلسطين.
فَما من قضيَّةٍ عربيَّةٍ إلاَّ ورأينا صَداها في أقلام الجزائريين وكتاباتهم، وما من كارثةٍ وقعَتْ في الوطن العربي، إلاَّ وانْفعل بها الأدباءُ الجزائريُّون، وما مِنْ نصْرٍ تحقَّق في جزءٍ من الأمَّة العربية إلاَّ وسارعوا إلى التَّعبير عنه فرحًا وحُبورًا.
الصُّهيونيَّةُ امتدادٌ للاستعمار الغربي
ولا داعي لأنْ نُعيد إلى الأذهان الدَّوافعَ التي حرَّكتْ الأدباءَ الجزائريين بأنْ يتجاوبوا مع الوطن العربي، فهي الدَّوافعُ نفسها التي حرَّکتْ أقلامَ الأدباء العرب الأشِقَّاء حين ثار الشعب الجزائري في فاتح نوفمبر 1954، ولكن الظَّاهرة التي تُلفِتُ انتباهَ الدَّارِس هي أنَّ الأدباءَ الجزائريين لم يَعْنوا بقضيَّة فلسطين فحسب، ولكنهم تفطَّنوا منذ وقت مُبكِّرٍ إلى المؤامرة عليها، وأعني بالأدباء هنا، كُتَّاب النَّثر على وجه الخصوص. صحيحٌ أنَّ الشعراء عبَّروا عن هذه القضية حين ظهرتْ على المسرح العالمي منذ العشرينيات، وتابعوها في مراحلها المختلفة منذ إعلان “وعد بلفور” 1917 مُرُورًا بانتفاضات الشعب الفلسطيني في الثلاثينيات ثم رفضه لقرار التقسيم، ووُقوفًا إلى جانب فلسطين والعرب أثناء حرب 1948 حتى نكسة 1967، ثم تَجاوُبًا مع انتصارات الثُّوار الفلسطينيين وأبطال المقاومة بعد ذلك، غير أنَّ الشِّعر إذا كان أقْدر على تصوير هذه القضيَّة والتَّعبير عنها فنِّيًا بحيث استطاع الشعراءُ أنْ يُحرِّكوا المشاعرَ والأحاسيسَ القوميَّة والدينيَّة في هذه القضية وأنْ يكتفوا بالملامح العامة شأْن الشعر في التعبير عن الكُلِّي والعام، فإنَّ كُتَّاب النَّثر قد تفطَّنوا إلى خطَر الصهيونية قبْل هذا الوقت، وساعدهم الشَّكلُ على توضيح حقيقةِ الصهيونية من جهةٍ، وتعميق أحداث وواقع القضيَّة من جهةٍ ثانية، ثم بَيان دوْر الاستعمار الغربي في التآمر على فلسطين والعرب من جهةٍ ثالثة.
التوأمُ التَّاريخي.. الجزائر وفلسطين
ومرَّة أخرى أقولُ أنَّني لستُ في حاجةٍ إلى أنْ أُعَدِّد الرَّوابط التي تربط بين فلسطين والجزائر منذ فجْر التاريخ العربي، كما أنَّه لا حاجة بنا إلى أنْ نقارن بين واقع فلسطين بعد أنْ تآمر عليها الاستعمار والصهيونية العالميَّة، وبين الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي، فكِلا البلدين عرَفَ الاستعمار الاستيطاني وذاق الإرهابَ بشتَّى صُوَره وأشْكاله، وتعرَّض إلى محاولات القضاء على مُقوِّماته الأصيلة من لغة ودين وتاريخ وحضارة، بل عرَفَ أخْطر من هذا، محاولة إلغاءِ كيانِه ومَحْوه من الوجود، وهذا ما يُفسِّر أيضًا اهتمامَ الكُتَّاب والشعراء بنكْبة فلسطين، ويكشف عن إحساسٍ حادٍّ عنيفٍ ضِدَّ الاستعمار والتسلُّط والغزو الأجنبي.
ثورةُ الجزائريين على العبَث اليهودي عام 1805
ولعلَّ هذا الشُّعور العَميق بهذه المأساة التي حدثتْ في فلسطين انطلاقا من واقعٍ مُشابِهٍ في الماضي هو الذي جعل الشَّعبَ الجزائري منذ عشرات السنين لا ينسى الجرحَ الذي تركتْه هذه القضيَّةُ في نفوس أبنائه، وكان الشُّعراء والكُتَّاب ألْسِنَة هذا الشعب المُعبِّرين عن أفكاره وعواطفه، لكن هناك عوامل أخرى غير ما ذكَرْنا أسْهمتْ في تعميق هذا الإحساس بالنَّكبة وضاعَفتْ من الاهتمام بها، وفي مُقدِّمتها احتكاكُ الجزائريين باليهود منذ قرون طويلة، مِمَّا أتاح لهم فرصةَ فهْمِ نفسيَّتهم جيِّدًا، وإدْراك أخلاقهم التي تتناقض تمامًا مع أخلاق الجزائريين والعرب عامة، فالمعروف عن اليهـود في الجزائر، وقت الاحتلال، أنهم اسْتحَلُّوا كل مُباحٍ واستخدموا كافَّة السُّبُل من أجل الحصول على المال، وقد كان الرِّبا – مثلاً – أحد وسائلهم للربح وهو ما رفضه الشعبُ الجزائري بوازِع الدين أو الأخلاق الإنسانية عامَّة، يُضاف إلى ذلك عاملُ السياسةِ، فقد لَعِب أفرادٌ منهم دوْرًا بارزًا في الحياة السياسية بالجزائر عن طريق الاقتصاد منذ القرن الثامن عشر، خاصة حين تولَّى الحُكْمَ أحدُ الدَّايات، وهو “مصطفى باشا”، الذي كان جاهلاً ساذجًا فأطلقَ العنان لأحدِ تُجَّار اليهود المَعروفين بحيث أصبح هو الحاكم الفعلي للبلاد، الأمر الذي أدَّى إلى ثورة الجزائريين سنة 1805 على هذا الوضع بقيادة المجاهد “يحيى” الذي قضى على هذا اليهودي.
التَّواطؤ اليهودي مع جيش الاحتلال الفرنسي
على أنَّ نفوذ اليهود قد تعاظَم بعد ذلك حين أصبح اليهودِيَان “بَكْري” و”بوشناق” يتمتَّعان بمكانة مرموقة لدى الباشوات، حتى أنَّ “بوشناق” كان: “يستقبلُ قناصلَ الدول باسم الباشا”، وهذه المكانة التي تمتَّع بها هذان الرَّجُلان ترجع إلى سيطرتهما على التجارة بين الجزائر وفرنسا، بحيث أصبحَا واسِطةً بين الدولتيْن قبْل الاحتلال، بل إنَّهما كانَا يقومان بالسَّمْسرة لحسابهما الخاص، وربَّما كان لهما دوْر في توتُّر الجو بين فرنسا والجزائر قَبيْل الغزو مباشرة.
ويذْكر بعض الرَّحَّالة الذين عاصروا الاحتلال مثل “سیمون بفايفر” أنَّ الإنكشاريين اتَّهموا اليهودَ بالتَّواطؤ مع جيش الاحتلال الفرنسي “ولم يزوِّدوه بالمواد الغذائية فحسب بل وإنَّهم دلُّوه أيضًا على جميع الطُّرُّق التي تسهِّل له الصعود إلى الجبال”.
ولكي ندرك شعورَ الجزائريين، منذ ذلك التاريخ تجاه اليهود، لا بُدَّ أنْ نُسجِّل ما قاله هذا الرحالة الألماني الذي شاهد بنفسه دوْر اليهود في مساعدة الاستعمار الفرنسي وتنَكُّرهم للجزائريين الذين أتاحوا لهم العيشَ في أمْنٍ وسلام، بل أتاحوا لهم الاستقرارَ والاطمئنان، فيذكُر هذا الرَّحَّالة بأنَّ السَّلب الذي تعرَّض له الجزائريون في بداية الاحتلال اسْهم فيه حتى المُترجِمون من اليهود، ويقول بالنَّص: “.. وهُمْ في الغالب من اليهود الذين يرْتدُّون الزَّيَّ العسكريَّ الفرنسي فدنَّسوه بشكلٍ مُثيرٍ للغضب، فقد ذهب مثلاً يهوديٌّ من تونس إلى المراعي عدَّةَ مرَّات وساقَ بنفسه مئات من الأغنام لبيْعها في المدينة إلى أمثاله، وكذلك كان يفعل بالخيول والبِغال، وقد حدَث ذلك في الأيام الأولى التي عمَّتْ فيها الفوضى وكان الأهالي يختفون بمجرَّد رؤية الزيِّ الفرنسي”.
من الذُّلِّ والمَسْكنَة إلى الاعتداء السَّافِر..
وهناك وقائعٌ كثيرةٌ يَسُوقُها هذا الرَّحَّالة الأجنبي تُبَيِّن موْقِف اليهود تجاه الجزائريين وتنكُّرُهم لهم، بمجرَّد أنْ بدأ الغزوُ، فاستغلُّوا الظروفَ والفوضى التي سادتْ لينهبوا ويسلُبوا، ولم يتوَرَّعوا حتى عن نهْب النساء، كأنْ يرمي أحدُهم كميَّةً من الأسلحة بفناء دارٍ تملكها سيِّدةٌ جزائريةٌ ليتَّهِمَها بإخفاء السلاح والتآمر على السلطة بعْد أنْ يلبس بزَّةً عسكريَّةً مع جماعة معه، ويُخيِّرها بين دفْع أربعين ألف دينارٍ له أو كشْف أمرها للسُّلطة الفرنسيَّة.
هذه الوقائعُ وغيرها هي التي نبَّهَتْ الجزائريين إلى أخلاق اليهود وسلوكهم، بل إنَّ موْقِفهم – أيْ اليهود – اتَّضح أكثر حين ساندتهم الإدارةُ الاستعمارية وميَّزتهم عن الجزائريين منذ بداية الاحتلال، الأمرُ الذي جعلهم يظهرون عداوتَهم السَّافِرة للجزائريين، ويتآمرون ضدَّهم ويعتدون عليهم في وضْح النهار. يقول هذا الرَّحَّالة كذلك: “… وما أنْ رأى اليهودُ أنَّ الفرنسيين يفضِّلونهم على أبناء البلاد حتى ركبوا رؤوسَهم وتظاهروا بالشَّجاعة، واتَّسمتْ تصرُّفاتُهم بالجُرأة والوقاحة، فكانوا يعْتَدون على المسلمين لا سيما الأطفال منهم حين يلتقون بهم في طريقهم، ويُسيئون معاملتَهم بصورةٍ فظيعةٍ”.
ذُرْوَة الخَطَر اليهودي بعْد قرار “كريميو”
وقد منحَتْ السُّلطات الاستعمارية إلى اليهود، بعْد الاحتلال مباشرةً، امتيازات كبيرة في الإدارة وفي الاقتصاد والتجارة، وأصبح لهم دورٌ بارزٌ في الحياة السياسيَّة والاقتصاديَّة في الجزائر، ولكن خطرهم بلَغ الذُّرْوةَ بعد “قرار کریمیو” 1870 الذي جعل من اليهود فرنسيين دفْعةً واحدة، وقد أدَّى هذا القرار إلى سُخْط الجزائريين، لأنَّه أعطى اليهودَ ما الفرنسيين من حقوق وبالتالي ما لهم من تفوُّقٍ وامتيازٍ، بينما جعل من الجزائريين مُواطنين من “الدرجة الثالثة”. بل إنَّ هذا القرار أثار الفرنسيين أنفسهم، فالمعروف أنَّ الفرنسي عامَّةً يتعصَّبُ لوطنه وجنسه وقوْميَّته، ولا ينظر إلى الأجنبي المُتجنِّس بالفرنسية نظرةَ احترامٍ. كما أنَّ القرار المذكور أدَّى إلى ظهور جاليَةٍ كبيرة من الأوروبيين الأجانب في الجزائر، مِمَّا جعل بعض الباحثين يرى أن ثورة “المقراني” 1871 كان من أسبابها، إنْ لم يكن سببها الرئيسي، قرار “كريميو” هذا. ويُسجِّل رحَّالَةٌ آخر هو “بيرم الخامس التونسي” الذي زار الجزائر في أواخر السبعينيات من القرن الماضي (القرن 19) هذه العبارة: “وترى اليهودَ أحْرَزُ للحرية في معاملة الفرنسيين وخطابهم من المسلمين”.
التَّنبِيه من أخْطار الصُّهيونيَّة
هذه هي الأرضيَّة التي مَهَّدتْ للكُتَّاب بأنْ ينطلقوا من هذا الماضي وهذه الوقائع، فيُنبِّهوا إلى خطَر اليهـود وإلى أهدافهم، عن تجربةٍ وإدراكٍ وتاريخٍ، وهذا ما يُفسِّر – كما ذكرتُ آنفا – تلك العنايةَ الخاصة بقضيَّة فلسطين والخوف عليها من أطماع الصهيونية، وخاصة حين أخذ اليهود في الجزائر في العشرينيات يُجنِّدون أنفسَهم في جمعيَّاتٍ تدافع عن مصالحهم.
ومع هذا كلِّه فإنَّ الجزائريين لم يُعادوا اليهود ولم تظهر بينهم تلك الدَّعوة التي ترفض “السامِيَّة”، ولم ينطلق كُتَّابهم من عاطفة وطنية أو قوميَّة أو دينيَّة، بل إنَّ دعوة “اللاَّسامية” انتشرتْ بين الفرنسيين منذ القرن الماضي، بحيث ظهَر تيَّارٌ في الصحافة الفرنسية يهاجم اليهود ويستَعْدي عليهم السُّلطة. وقد تزعَّم هذه الحركة المُعمِّرون الفرنسيون “الكولون” فغذُّوا العَداوةَ ضِدَّ اليهود بصورة عنيفةٍ، وبرز من بين هؤلاء المُعمِّرين “ماكس ريجي” رئيسُ بلدية الجزائر أواخر التسعينيات من القرن الماضي.
ولقد فرَح الفرنسيُّون حين ألْغِيَ مرسوم “كريميو” بعد الحرب العالمية الثانية، “فهزَّتهم النَّشوَة العنصريَّة، وحتى أولئك النواب أمثال (مورينو) وغيره الذين لم يتبوَّؤوا مقاعدَ النِّيَابة إلاَّ بفضل النَّاخبين اليهود، فقد حبَّذوا هذا الإلغاء وصفَّقوا له”. وقد كتَب “مورينو” هذا قائلاً: “إنَّ اضطرابات سنة 1896 المناوئة لليهود ما كان سببها إلاَّ مرسوم كريميو ومطالبتنا بإلغائه، واليوم ها نحن بلغنا هدفَنا. نعم فقد أُلْغِيَ هذا المرسوم المشؤوم، وعاد اليهودي إلى منصبه وهو منصب الأهلي (الأنديجان) الجزائري الذي لم يكن ليَخرج منه، وما أخرجه منه إلاَّ خرْق قانون سافِرٍ اقترفه اليهودي كريميو..”. لذلك نشأتْ صحفٌ فرنسيَّةٌ في الجزائر تندِّد باليهود وتشنُّ عليهم حربًا سافِرةً وتطالب باضطهادهم.
هذا هو المناخ الذي ساد الجزائر في القرن التاسع عشر. مناخٌ عنصريٌّ مُتَعصِّبٌ أحدَثَه الفرنسيون اليهود والأجانب الأوروبيون، واصطلى بناره الجزائريون وأحسُّوا بالاختناق فيه، ولكنهم لم يستجيبوا لهذه الروح العنصرية التي تكْرَهُ العربَ وتحقد عليهم.
ولا شكَّ في أنَّ الكُتَّاب الجزائريين أدركوا خطَر اليهود بعد أنْ ظهرتْ الحركة الصهيونية إلى الوجود عقْب مؤتمر “بال” 1897 الذي دعا إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتأكَّدوا من نواياهم بِحُكم أنَّهم أقْرب من غيرهم إلى معرفة ما يجري في أوروبا بواسطة الصُّحف الفرنسية سواءٌ في الجزائر أو في فرنسا، وكذلك بحكْم الاحتكاك المباشر بالغرب منذ الاحتلال.