رحابة الصدر وفسحة الزمان رغم ضيق المساحة وانحسار المكان.. الكويت.. ظهر فلسطين الذي لا تقصمه المتغيّرات

على حداثة حدودها السياسية وحديث عهدها بالاستقلال عن الاحتلال البريطاني، وعلى ضآلة عدد سكانها بالنسبة إلى بقية الدول العربية، وعلى مرورها بمحطات صعبة ومواقف أصعب في تاريخها الوطني المنظور، حيث كان الموقع الإستراتيجي والثراء “البريستيجي” من أهم أسباب ابتلاءاتها الجمّة، ذلك أن البترول وبقدر ما كان عليها نعمة، فقد كان في بعض جوانب “معاناتها” نقمة، حيث جعل قوى الشرّ تتربص بها من كل جانب.. رغم كل ذلك، إلا أنها ظهرت كأعظم ما تكون عليه دولة فاضلة شريفة، مترفعة صادقة، ترفض الظلم وتشجب الباطل وترافع من أجل الحق والعدل والسلام، بكل سيادة وإخلاص لقيمها وثوابتها، غير آبهة لا لتهديد هؤلاء ولا لتحذير أولئك.

إنها الكويت.. لؤلؤة الخليج موقعا وجوهرة العرب مرتعا وقلعة الوفاء منعة..التي رفضت التنازل عن رصيدها المكنون وسخائها الممنون في تبني القضية الفلسطينية، ودعم القضايا العربية، ونصرة القضايا العادلة في العالم، وهي المواقف التي جبلت عليها، يغذيها في ذلك الإيمان الراسخ لدى أمراء العائلة الحاكمة أولا، ورجال الدولة وشيوخ القبائل، بمبدئية التزام الحق والصدق في التعاطي مع الأحداث والملفات هنا وهناك عبر العالم.

فعلا، ومع اندلاع المواجهات بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، سارعت الدولة الكويتية إلى الجهر بموقفها الرافض لكل الممارسات التي تقوم بها قوات الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، حيث وقف أميرها الشيخ “نواف الأحمد” وهو على فراش المرض – رحمه الله تعالى – موقفا عظيما أثبت من خلاله وجدد وقوف الكويت إلى صفّ الشعب الفلسطيني إلى أن يحقق حلمه بالاستقلال والحرية، مُدِينا في الوقت نفسه التصعيد المأساوي لقوات الاحتلال في قصف غزّة وأهلها، وضد المصلين في القدس والاقصى، وضدّ الآمنين في الضفة الغربية.. واستشهاد الآلاف معظمهم من المدنيين الأطفال والنساء.

الخارجية الكويتية، بدورها، لم تتخلف عن الموعد، ولم تخل بالتزاماتها الأخلاقية وخياراتها السياسية السالفة، حيث أكدت على لسان وزير خارجيتها الشيخ الدكتور “أحمد ناصر المحمد الصباح”، قبل اندلاع غزوة طوفان الأقصى أن “..جميع الإجراءات والقرارات الإسرائيلية الأحادية، التي تستهدف تغيير الوضع القانوني والتاريخي القائم في الأراضي المحتلة، أو فرض واقع جديد عليها، تعتبر لاغية وباطلة ولن تُوجِدَ حقًا ولن تنشئ التزامًا..”، كما كان قد أعرب عن إدانة دولة الكويت واستنكارها بأشد العبارات استمرار سلطات الاحتلال الصهيوني فيما تمارسه من عمليات تهجير وبناء للمستوطنات على الأراضي الفلسطينية، لاسيما في القدس وفي حي الشيخ جراح.. مشيرا في الوقت نفسه إلى أن تلك الممارسات تستهدف تبديل الحقائق على الأرض، وبالتالي فهي انتهاكات بحق القانون والشرعية، كما أنها عدوان صارخ على القرارات والمرجعيات الدولية ذات الصلة.

لم يتوقف التعبير عن الموقف الشريف للدولة عند سقف الأمير وشرفة الوزير، وإنما نزل إلى رحاب البرلمان الشعبي – الأكثر ديمقراطية في الوطن العربي -، حيث كان قد تقدم عدد من أعضاء مجلس الأمة، من بينهم رئيسه “مرزوق الغانم” في وقت سابق، بطلب للتعجيل بقيام المجلس ولجانه بالبت في القوانين المقترحة المقدمة بشأن “مقاطعة إسرائيل، وحظر التعامل أو التطبيع مع الكيان الصهيوني”، وكان 41 نائبًا من أصل 50 قد وقعوا – في وقت سابق – على بيان أكدوا فيه موقف الكويت الثابت لمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيونى، وشددوا على أن الكويتيين لن يقبلوا أي تراجع عن التزام حكومة بلادهم بقضية العرب والمسلمين الأولى.. وأكد البيان أن الشعب الكويتي سيبقى يشدّ على يد القيادة السياسية في موقفها الشجاع والثابت تجاه القضية الفلسطينية على مر السنين، مشيرًا إلى أن جرائم الاحتلال لا يمكن نزعها من نفوس أبناء الكويت.

لم تكتف الكويت بتحجيم الكيان الصهيوني وردعه من داخل مؤسساتها الدستورية فقط، وإنما كانت قد نقلت المعركة إلى كل المنابر الممكنة دوليا وأمميا، كان أبرزها الموقف التاريخي الذي لفّ الكرة الأرضية جرأة وإبهارا، والذي كان بطله السيد رئيس مجلس الأمة، مرزوق الغانم، عندما خاض معركة إعلامية ودبلوماسية ضد وفد “الكنيست” الصهيوني، ومسح به الأرض أثناء انعقاد المؤتمر 137 للاتحاد البرلماني الدولي العام 2018م بروسيا، حيث انفجر غاضبا مؤدبا: “..كلام ممثل هذا البرلمان المغتصب – يقصد ممثل الكنيست – ينطبق عليه المثل المعروف عالميا، إن لم تستح فافعل ما شئت.. وهذا هو أخطر أنواع الإرهاب وهو إرهاب الدولة..”، مضيفا في السياق ذاته، مخاطبا رئيس الوفد الصهيوني مرة أخرى: “..عليك أن تحمل حقائبك وتخرج من هذه القاعة، بعد أن رأيت ردة الفعل من كل البرلمانات الشريفة بالعالم.. اخرج الآن من القاعة إن كان لديك ذرة من الكرامة.. يا محتل يا قاتل الأطفال..”.

تناقلت الصحف والأجهزة الإعلامية العالمية، بعد ذلك، ردود الفعل الصادرة من هنا ومن هنا، جاءت في مجملها مؤيدة مباركة مدعمة لكلمة السيد الغانم، والذي أوضح بعد ذلك في تصريح للصحفيين: “..كانت كلمة رئيس الوفد الإسرائيلي مستفزة للغاية، لحد أنها أثارت حفيظة وفود العديد من البرلمانات العالمية، بما فيها الوفد الكويتي، ولذلك أقول لكل من يحاول أن يحبط الهمم ويقلل من العزائم: إن المولى عز وجل لا يكلف نفسا إلا وسعها، ونحن وضعنا طرد الكنيست الاسرائيلي من الاتحاد البرلماني الدولي ليكون هدفا لنا ويتحقق أكبر إنجاز سياسي منذ ما يقارب نصف قرن..”. وفي ذلك أشجع ردّ وُجه للكيان الصهيوني، وأقوى موقف يمكن أن تتبناه دولة في زمن التردي والهرولة وبيع الذمم.

وتبعا لموقف العزة والكرامة ذاك، ظل وسم “مرزوق الغانم” على رأس “الهاشتاغات” الأكثر تداولاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي لفترة طويلة، كما تسابقت أيضًا وعلى فترات قوى سياسية وطلابية كويتية مختلفة إلى إصدار بيانات استنكار، وتنظيم فعاليات ومهرجانات افتراضية عدة، صبّت جميعها في حوض الرفض العارم لأي شكل من أشكال الهرولة والتطبيع، مؤكدة دعمها المطلق للموقف الرسمي للدولة، في مساعيها المساندة للقضية الفلسطينية من دون قيد ولا شرط.

كل ذلك، والكويت تكافح من أجل الحفاظ على توازن واستقلالية مواقفها داخل محيط مضطرب يتسم بالفوضى والجنون، حتى لا نقول بالتهديد والعدوان؛ من الأطماع التاريخية جهة العراق، والتي نادرا ما طال بها العهد بالهدوء والاستقرار.. إلى الشرق حيث عيون الهيمنة الإيرانية مشرّعة على جميع الاحتمالات.. إلى الجنوب ومملكة آل سعود التي لا تثبت على موقف إلا نشازا.. إلى بقية دويلات الخليج ومواقفها المتضعضة التي تحركها الأهواء والأطماع والحزازات.. ولذلك، تكون الكويت في موقف من يمسك بجمرة في الكف، وهي تتشبث بمبادئها العربية الإسلامية الثابتة حيال القضايا المصيرية للأمة، من غير تسرع ولا استعجال، ومن دون تهريج ولا انفعال.. حكيمة في تعاطيها مع كل الملفات بكل هدوء وأناة؛ تتريث وتفكر وتحلل وتمحص.. ثم تقرر، وتصدر الموقف الأنسب النابع من قناعاتها الوجودية، والمتوافق مع ثوابتها السياسة بكل صراحة ووضوح، ومن دون مساومة ولا مقايضة ولا تآمر على الغير.

كل هذا الثبات والاتزان في المواقف والرؤى وفي الخطاب السياسي العام لم يتنزل هكذا من فراغ، وإنما ظل مصدره العائلة الحاكمة “آل صُبَاح” التي استطاعت المحافظة على وقارها ووجاهتها في قيادة الشعب الكويتي بحكمة وحسن تدبير، “مُقدِّسَةً” علاقة الاحترام ومشاعر المحبة وآيات التقدير التي يكنّها الكويتيون لولي أمرهم بكل رضى وطمأنينة وارتياح، وهم يرون ويلمسون ذلك الرشد من خلال سلاسة التداول على الحكم، والرتابة داخل البيت الحاكم من دون رجّة ولا ضجّة ولا ضير، كما يحدث عادة في كثير من دول العالم.

يشهد التاريخ بأن الكويت ظلت واقفة إلى صف البلدان العربية بكل شجاعة وقوة منذ نكسة العام 1967م، وبدفعها من خالص أموالها مبالغ كبيرة لإعادة بناء الجيوش العربية، وصولا إلى حرب أكتوبر 1973م، ووقوفها إلى صف دول الطوق لمواجهة الصهاينة، رغم ما كانت تتعرض له من ضغوط أمريكية وبريطانية.. كما سعت لرأب الصدع بين الجزائر والمغرب من جهة، وبين المغرب وجبهة البوليساريو من جهة ثانية، لحل قضية الصحراء الغربية.

لم تتلكأ يوما في دعمها للفلسطينيين، ولم تتراجع لا ماليا ولا دبلوماسيا ولا سياسيا، حيث ظلت فلسطين في قلب الحراك النضالي لدولة الكويت، ومرافعاتها من أجل إحلال السلام وبسط الاستقرار في المنطقة وفي العالم. وفي هذا السياق، لن ينسى لها التاريخ موقفها الصلب الثابت والشجاع وهي تواجه المشروع الأمريكي القاضي بتحميل حركة “حماس” مسؤولية ما يجري في غزة، على اعتبار أن الحركة، وفق التصنيف الأمريكي، تنظيم إرهابي بينما الكيان الصهيوني المحتل قوة سلام ومحبة.. وبهذا تكون قد أفسدت على الأمريكان انفاذ مشروعهم العنصري، وهو الموقف الذي جعل الرئيس الأمريكي يصرح بقوله: “..إن الكويت دولة خارجة عن الإجماع العربي..”، رغم ذلك، لم تكترث الكويت لهذا التصريح ولم تعره أية أهمية، وبقت ثابتة لم تتزعزع، وقد زادها إصرارا على التشبث بمواقفها التاريخية محاولةُ إعلام بقية العرب في المنطقة الترويج غير البريء لكون الكويت ستسير على خطى الإمارات والبحرين والسعودية في التطبيع مع الكيان الصهيوني.

في اليمن، ومنذ اليوم الأول لخيار الحرب الذي تبنته الدول الخليجية الأخرى، بقت الكويت متمسكة بخيار الحوار ومقاربة وجهات النظر، معلنة بأنها ليست طرفا في الحرب.. لم يلتفت أحد لنداء الحكمة الذي أطلقته، ولم يستمع التحالف السعودي لرأيها، فكانت النتيجة دمارا وخرابا ودماء في اليمن، واستنزافا للجهد والوقت والمال في السعودية ومن تحالف معها.

لم تهدأ الدبلوماسية الكويتية حيال الأزمة الخليجية، واستمرت تكافح بهدوئها المعتاد، عساها تقنع مختلف الأطراف بضرورة الجلوس إلى طاولة الحوار، ومناقشة الخلافات الموجودة بدل استعمال لغة المواجهة والحصار. وقد نجحت في ذلك ب تفكيك الألغام وإذابة الجليد بين الإخوة الفرقاء، بالاستمرار في جهود إنهاء الحصار على قطر، وإعادة بعث الحياة في هيكل مجلس التعاون الخليجي من جديد. كل هذا، علاوة على نأي دولة الكويت بنفسها عن معاداة إيران ومحاربتها، مستمسكة بعلاقات حسن الجوار، مرددة في كل مرّة بأن إيران دولة جارة للعرب عموما ولدول الخليج خصوصا، وهي باقية بالجوار ولن ترحل من هنا، فالأسلم للجميع أن تبقى العلاقات بين الجيران حسنة، وقائمة على الاحترام والتعاون وتبادل المصالح.

وبالعودة إلى الحدث الأبرز، غزوة “طوفان الأقصى” وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من حرب إبادة شاملة، كانت الكويت قد تعرضت لهزة عميقة أثناء ذلك، تمثلت في رحيل أميرها الشيخ “نواف الأحمد الجابر الصباح” (16/12/2023)م، الأمير الذي جاء في صمت ثم رحل في صمت، والذي من كرائمه أنه رغم المرض والتعب، لم يتوقف عن إسداء النصائح والتوجيهات والأوامر لرجال الدولة بمواصلة المسيرة على النهج ذاته،  خدمة لشعب الكويت ورخائه، ودعما لقضايا الأمة ومواقفها الشريفة، خاصة قضية فلسطين والقدس، وعدم التنازل عن أي موقف من شأنه أن يخلّ بالتزامات الكويت وتعهداتها.. وبذلك يكون الأمير قد ارتقى الى ربه طاهرا شريفا، غير مبدّل ولا مغيّر، على نهج أسلافه من أمراء “آل صباح”.. وشيء من فلسطين في قلبه ودمه.

وتخليدا لمآثر الأمير الراحل، وعلى الرغم من حالة الحزن التي عمّت الكويت، فقد أكمل أمير البلاد الجديد الشيخ “مشعل الأحمد الجابر الصباح” ما كان قد أُمِر به من قبل، من وقفات تضامنية وحملات لجمع التبرعات لصالح الشعب الفلسطيني، خاصة ضحايا العدوان الهمجي الصهيوني، آخذا العهد على نفسه بأن يساهم في إعادة إعمار غزة ومحو آثار الدمار.

يحدث كل هذا ولا أحد قد شعر بأن أميرا حلّ وآخر رحل، في تداول سلس وحكيم على منصب قيادة الدولة، وبالتالي رزانة السياسة الكويتية التي لا تتغير بتغير الأمراء، لأنها فعلا نابعة من عقيدة صلبة وايمان عميق، حيث لم يختلف الشيخ “صباح الأحمد” عن سلفه في تبني المواقف الدبلوماسية وإدارة السياسات الخارجية الكويتية، كما لم يتغير الوضع مع وصول الأمير “نواف الأحمد”، وبالتالي لن يتخلى الوافد الجديد “مشعل الأحمد” عن العهود والالتزامات التي جبلت عليها عائلة “آل صباح”، منذ عقود طويلة من الزمن، أهلتها بكل تبصر وحصافة لقيادة شعب الكويت الحاذق الحليم.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا