إلى الحضرة العلية كانت الرحلة الزكية والفسحة السنية، لسيد ولد آدم وخير البرية، على ظَهْرِ البُرَاق رفقة “جبريل” أمين الوحي ودليل السماء.. حيث كان الإقلاع ليلا من مكة الكعبة الحمساء، إلى صخرة بيت المقدس إيلياء مهد القداسة والسلام.. إلى سدرة المنتهى زهرة الروح وغمرة النور وصرير الأقلام، أين انتهى بالرفيق الأُنْسُ والمقام، ومضى بالحبيب الشوق والهيام، للتأمل والتبصر والتبحر في علم الخالق العظيم.
عانى النبي من أذى قومه وظلم عشيرته، فأراد ربه أن يُذْهِبَ عنه الحزن وينفّس عنه الكرب، بأن أكرم نزله ورفع قدره وأعلى شأنه، ثم أعاده إلى بيته وأهله معزّزا مكرّما.. فيا لها من عزّة ويا له من كرم..؟ لقد وقف على سمو مكانه العلي في حضرة الاجتباء الرباني، وأدرك رفعة مقامه الزّكي في غمرة النور الشعشعاني، بمعجزة إلهية لم تتجلّ من قبل مكائن أسرارها لأي رسول ولا نبي.
فكانت الرحلة الإعجازية التي أفحم بها الله خصوم نبيه وأغاظ قلوب أعدائه، وأيّده من خلالها ونصره في دعوته إلى الحق بالحجة والإقناع، حيث أسرى به من مكة المسجد الحرام، إلى بيت المقدس المسجد الأقصى، ليشدّ أزره ويسند ظهره، وهو الذي فقد عمّه أبا طالب، وودّع زوجته خديجة، فوجد نفسه وحيدا، رفقة بعض من ضعاف القوم، يصارع أهوال موج الضلالة في بحر من الجهالة والبغضاء.
نزل جبريل الملك وأخيه ميكائيل، وأخذا بالجسد الشريف لمحمد النبي، وأراحوه على ظهره، ثم شقّا صدره الكريم وأخرجا قلبه النبيل وغسلاه بماء زمزم، بعدها مُلئ قلبه حكمة وإيمانًا. وفي ذلك يقول مفتي الديار المصرية السابق، الدكتور على جمعة؛ إنّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان قد تعرّض لعملية شقّ الصدر ثلاث مرات؛ إحداهن في طفولته، وثانية عند نزول الوحي، وثالثة قبيل واقعة الإسراء والمعراج، وذلك لتمكينه من حمل أمانة الدعوة التي هي أثقل من وزن الجبال، وتهيئته لاستيعاب وحي الله، وتحضيره لما سيلقى ويشاهد من آيات ربّه أثناء رحلته العلية.
وفي الوقت الموعود من الليلة المباركة، جاء الملك جبريل بالبراق – دابة أصغر من الفرس وأكبر من الحمار تضع خطوتها عند مدّ بصرها – فطارا حتى أنزله جبريل مدينة طيّبة فصلى بها، ثم أنزله طور سيناء وهو المكان الذي كلّم الله فيه النبي موسى فصلّى به، ثم بيت لحم حيث ولد النبي عيسى عليه السلام فصلى به، ثم اقترب من بيت المقدس فنزل بباب المسجد، وربط البراق بالحلقة الحديدية التي كان يربط بها الأنبياء، ثم دخل المسجد ليلقى الأنبياء من آدم إلى عيسى، وقد جمعهم الله للقيا محمد، فسلّموا عليه وصلّى بهم ركعتين، ثم انصرفوا وقد استلم من أبيه إبراهيم إمامة الأنبياء.
لتبدأ بعد ذلك وقائع رحلة المعراج، حيث صعد جبريل بالنبي إلى السماء الدنيا، اطلع خلالها على بعض أحداثها، ثم صعد به إلى السماء الثانية فرأى فيها زكريا وعيسى ابن مريم، ثم صعد به إلى السماء الثالثة فرأى يوسف عليه السلام، ثم صعد به إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس، ثم إلى الخامسة فرأى فيها هارون، ثم إلى السادسة فرأى فيها موسى، ثم إلى السابعة فرأى فيها إبراهيم عليه السلام.. إلى أن انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهنا أخذ جبريل بيد محمد إلى الحجاب المقدّس قائلا؛ لكلّ منا مقام معلوم، إذا تقدّمتُ أنا احترقتُ، وإذا تقدّمتَ أنت اخترقتَ.
استلمه ملك آخر، فصعد به حتى وصل عرش الرحمن، فأنطقه الله بالتحيات، فردّ النبي قائلا؛ التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله.. وهنا فرضت الصلاة على النبي وأمته، وكان عددها خمسون صلاة كل يوم وليلة. فلما عاد من هناك، مرّ بالنبي موسى فسأله أن يعود إلى ربّه ويسأله التخفيف في الصلاة عن أمته، فعاد فخفّف الله عنه عشرًا، ثم أرجعه موسى إلى الله مرة أخرى يسأله التخفيف، فخفّف الله عنه عشرًا، وظلّ هكذا بين الله وموسى حتى جعلها الله خمس صلوات، بعدها نادى ربّ العزّة على النبي قائلًا؛ إنّي قد فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، والخمس بخمسين، وقد أمضيت فريضتي وخفّفت على عبادي.
ثم أعاده ربّ العزّة إلى مكة، بعدما أراه من آياته ما لم يُرِ مثلها من قبل أحدا من خلقه، فكان الكرم والتكريم والفضل والتعظيم.. إلّا أنّ كفرة قريش جعلوا من الحادثة فرصة للسخرية من النبي وممن آمن به، حتى أنهم استعانوا باليهود من باب أنهم أهل الكتاب ليحرجوا رسول الله أكثر.. لكنهم فشلوا عندما أفحمهم بأجوبته الدقيقة ووصفه المطابق لمدينة “إيلياء” بيت المقدس، والتي لم يزرها من قبل أبدا.
فما أشبه اليوم بالبارحة، وقد ظهرت طائفة “القرشيين” الجدد، ولو أنهم في أثواب مسلمين متدينين في زمن الصهاينة اليهود، الذين ما إن حلّ موسم ديني أو حضر موعد تعبدي أو أزِف عيد تاريخي، على سنة أسلاف الأمة وساداتها أهل التقى والنهى، إلا وارتفعت أصوات بعض أتباع هذه الطائفة بالتحريم تارة وبالتكفير تارة أخرى، على ملة كهنة البلاط أصحاب جهاد السنن، الذين يعتقدون بأنّ الله لم يهد غيرهم.
وفي هذا السياق، مرّت بالأمة هذا العام، ذكرى الرحلة المقدّسة العلية، والفسحة الطاهرة السنية؛ الإسراء والمعراج.. والتي دأب المسلمون على إحياء ليلتها بكل إيمان وخشوع، ذكرا لله وترتيلا لكتابه وصلاة على رسوله وتذكيرا للناس بخصال الشرفاء.. أقول؛ مرّت بالأمة والأمة في أسوا حالاتها، ورغم ذلك لم يشفع لها وضعها المزري بين تكالب الأعداء وتهافت الأوغاد، من أن يمسك هؤلاء الجهلة ألسنتهم المقرفة، على الأقل من باب الحفاظ على الحدّ الأدنى من اجتماع الصفوف ووحدة الأمل، وذلك بدعوى أنها بدعة ولا يجوز الاحتفاء بها ولا التذكير بكراماتها ولا بمناقب صاحبها.. ولو أنهم علموا فعلا معنى الاحتفاء بهذا الحدث العظيم، في بُعْدَيْهِ؛ الحضاري والروحي، لما كان لهم أن يعترضوا على ذلك.
رحلة الإسراء والمعراج، محطة عظمى في تاريخ الأمة، استلم فيها رسول الله “محمد” إمامة الرسل والأنبياء من أبيه إبراهيم عليه السلام، كما استلم قيادة المؤمنين الموحّدين من بني “إسرائيل” وجعلها في بني إسماعيل أمّة العرب والإسلام.. وهنا مكمن الحقد ومرقد الغلّ، ومصدر البغضاء التي لحقت بهذه الأمة، منذ وقوع هذا الحدث العظيم الذي غيّر مجرى الزمان ومشهد الأكوان، فكان ما قبل محمد وصار ما بعده.
رحلة الإسراء والمعراج، منعطف تاريخي جَلَل، حيث زُحْزِح يومها بنو “إسرائيل” عن موضع القسطاس من الأمم، وهم الذين خانوا عهد الله، بأن قتلوا رسله وحرّفوا رسالاته وخذلوا أنبياءه وأفسدوا في الأرض ولم يصلحوا، فجعلهم الله أمة شتاتا وشعبا أشتاتا.. فلا غرو إن ظهروا اليوم بوجه قبيح وأظهروا كل هذه الوحشية وكل هذا الصلف وكل هذه الغطرسة، بحق الأبرياء العزل والأطفال الرضع والنساء الحوامل.. ذلك أنّ ما تخفي صدورهم أمرّ وأدهى، فهم شعب لا تتوارث أجياله سوى شيئين اثنين؛ المال المهين والحقد الدفين.. وخصوصا حقدها الغادر ضدّ أمة العرب والمسلمين، التي خيّرها الله وجعلها أمة وسطا، شاهدة على الناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر والبغي.