لم يكن اختيار ساحة المقاومة بالجزائر العاصمة لإحياء الذكرى الـ 63 لعيد النصر، مجرد قرار بروتوكولي، بل هو رسالة تحمل في طياتها دلالات تاريخية عميقة، تربط بين ماضي الجزائر الثوري وحاضرها المتشبث بالسيادة والكرامة. يأتي هذا الاختيار في وقت تتعرض فيه غزة لوحشية الاحتلال ليؤكد أن المقاومة ليست حدثًا عابرًا في سجل الشعوب بل هي هويةٌ متجذرة في وجدانها.
لقد كانت ساحة المقاومة شاهدة على نضالات الجزائريين، حيث احتضنت مظاهرات ومسيرات واجهت بطش المستعمر الفرنسي، وعلى بعد أمتار منها استشهد المئات من العمال الجزائريين فيما يعرف بعملية ميناء الجزائر إثر اعتداء إرهابي نفذته المنظمة المسلحة السرية الفرنسية. واليوم، إذ تُقام احتفالات عيد النصر في هذه الساحة، فهي بمثابة رسالة إلى العالم بأن الجزائر التي مرّغت الاستعمار الفرنسي لن تنسى تضحيات أبنائها، ولن تتخلى عن دعمها لكل قضايا التحرر العادلة.
وبينما يحتفل الجزائريون بانتصارهم على مستعمر دام أكثر من قرن، يعيش العالم فصولًا جديدة من المقاومة في غزة، حيث يتعرض الشعب الفلسطيني لأبشع أشكال العدوان. من قلب ساحة المقاومة، تقول الجزائر إن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وإن إرادة الشعوب أقوى من أي قوة غاشمة. وكما فرض الجزائريون استقلالهم بدماء الشهداء، فإن الشعوب التي تكافح اليوم ضد الاحتلال لن تتوقف حتى تحقق حريتها.
شهدت مراسم إحياء الذكرى رفع العلم الوطني، وقراءة الفاتحة ترحمًا على أرواح الشهداء، ووضع إكليل من الزهور أمام النصب التذكاري، بحضور وزير المجاهدين وذوي الحقوق العيد ربيقة، إلى جانب مسؤولين وممثلين عن الأسرة الثورية والمجتمع المدني. وفي كلمته، أكد الوزير أن هذه المناسبة ليست مجرد ذكرى، بل محطة لإعادة التأكيد على أن الجزائر انتزعت استقلالها عن قوة استعمارية وحشية بفضل التضحيات العظيمة، وأن هذا الاستقلال سيظل خطًا أحمر.
كما تخلل الاحتفال ندوة تاريخية نظمها منتدى “المجاهد”، حيث سلط المؤرخون الضوء على المراحل الحاسمة التي مرت بها ثورة التحرير، مشيرين إلى أن التنظيم المحكم للثورة الجزائرية أسقط الجمهورية الفرنسية الرابعة، وأجبر الجنرال ديغول على التفاوض مع قادتها. وتمت الإشارة إلى الدور الذي لعبه الدعم الدولي في تعزيز مكانة الثورة، وصولًا إلى توقيع اتفاقيات إيفيان التي وضعت حدًا لاستعمار دام أكثر من 130 عامًا.
وتأتي هذه الذكرى في سياق أزمة متجددة بين الجزائر وفرنسا، عقب قرارات باريس الأحادية بإبعاد رعايا جزائريين، ما أدى إلى توتر دبلوماسي جديد بين البلدين. وبينما تستعيد الجزائر انتصارها التاريخي، تعيد التأكيد على تمسكها بسيادتها ورفضها لأي ضغوط فرنسية، في رسالة واضحة بأن زمن الإملاءات قد ولى.
الجزائر التي هزمت المستعمر الفرنسي بالأمس، تقف اليوم إلى جانب كل الشعوب التي تسعى لنيل حريتها، من غزة إلى أي بقعة في العالم تناضل ضد الظلم والاستبداد. وبينما تحاول فرنسا اليوم تكرار سياساتها القديمة بأساليب جديدة، ترد الجزائر كما ردت عبر التاريخ: نحن أمة قاومت، وستظل تقاوم، ولن تخضع أبدًا.