على مدى العصور والأزمنة، أثبت الدين الإسلامي بأنّه أعظم قوة في الوجود، وينتصر ضد كل من يسعون إلى إخماد أنواره، وهو لا يحتاج إلى المسلمين لينتصر بل هو ينتصر بذاته.. والمسلمون هم الذين يحتاجون إلى الإسلام لكي ينتصروا ويستعيدوا عزّتهم وقوتهم ويكون لهم دورٌ فاعلٌ في تقرير مصير العالم. هذه الحقيقة يؤكّدها تاريخ الشعب الجزائري خلال أكثر من قرن وثلث القرن، فقد كان الإسلام هو القوة الروحية التي جابه بها الجزائريون كل مشاريع طمس هويّتهم ومحاولات فرنَستهم ومحو ذاكرتهم وأصالتهم..
في عام 1832، صرّح سكرتير الحاكم العام الفرنسي في الجزائر قائلا: “إن أيام الإسلام قـد دنَت وفي خلال عشرين عاما لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا أن نشكّ بأنّ هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكن أن نشك على أيّ حال بأنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد”. وأمّا الكاردينال “لافيجري” فقد صرّح عام 1867 قائلا: “علينا أن نجعل من الأرض الجزائرية مهدًا لدولة عظيمة، أعني بذلك فرنسا أخرى يسودنا الإنجيل دينا وعقيدة”. من جانبه، الأسقف “أنطوان ديبيش”، الذي أسّس أول أسقفية في الجزائر عام 1838 بعد اتفاق تاريخي بين البابا “غريغوار” والملك “لويس فيليب”، قال: “إنّ وجود الإسلام في إفريقيا قد انتهى، وبعد نصف قرن لن يبقى أثر له إلا عند الهمجيّين، وستبعث به أوروبا إلى الصحاري التي لجأ إليها لينقرض هناك، وبذلك تُكمل أوروبا مشروعها الذي بدأت تنفيذه إبّان الحرب الصليبية”. واقع الحال الآن هو أنّ الديانة المسيحية انحصرَت في أوروبا ولعلها أصبحت مُجرّد تسميّة لـ “دين بلا مؤمنين”، بينما الإسلام صمد في الجزائر برغم كل مخطّطات الطمس والتنصير، وازداد رسوخًا وعمقًا في قلوب الجزائريين..
في هذا المقال يُحدّثنا الباحث والمؤرخ الجزائري “أحمد بن نعمان” عن “الحصانة الدينية للشخصية الجزائرية”، وكيف استطاع الشعب الجزائري أن يواجه المشاريع الاستعمارية لاستفراغه من محتواه الروحي: (لغته، دينه، تشريعه الإسلامي..) وإعادة إشباعه بمحتوى فرنسي غربي. المقال نشرته مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر سبتمبر 1980، وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشره لتبقى هذه القضايا حيّة في ذاكرة الأجيال، وتُدرك أن الإسلام من أعظم القوى الكامنة في أعماقها، وهذا الغرب الذي يعمل على هدم القِيَم وتشويه الإسلام إنّما يسعى إلى إحداث الشّروخ في الحصانة الروحية لاختراقها والتسلل منها إلى الشخصية الجزائرية الأصيلة التي أعجزت الشيطان الاستعماري وكل القوى التي دعّمته وساندته. لنترك القارئ مع المقال..
الكيان المعنوي الثقافي يُميّز بين المجتمعات والأمم
من عظائم حكم الخالق في شؤون خلقه أنه أبدع ما شاء، ووفّر لكل مخلوقاته وسائل المقاومة من أجل البقاء إلى أجلٍ يعلمه.. وإذا صرفنا النظر عن الكائنات الدنيا كالنباتات والحيوانات، وركزنا على الحيوان الناطق باعتباره أرقى المخلوقات… فإننا نجده أكثر حظًّا ممّا عداه في التوفر على وسائل المقاومة من أجل البقاء، ولعل ذلك راجع لضعفه البيولوجي من جهة، ورفعة قيمته الفكرية التي جعلته مُستخلَفا في الأرض ومسؤولا عن تحمّل الأمانة التي عجز عن حملها ما دونه من الكائنات من جهة أخرى..
على أنّ هذه الوسائل المادية والمعنوية قد وهبت للإنسان فردًا في جماعة، وجماعة في أمة، للمحافظة على الكيان المادي البيولوجي، والكيان المعنوي الثقافي الذي يكوّن الشخصية الوطنية المميزة للمجتمعات والأمم..
وإذا كان الإنسان على الصعيد البيولوجي يرث ويكتسب مجموعة من المحصّنات التي تمنح جسده المناعة ضد الأمراض… فكذلك الإنسان – بوصفه كائنا اجتماعيا – يرث ويكتسب محصّنات كثيرة تمنح كيانه الاجتماعي مقوّمات البقاء والمقاومة ضد العوامل التي تستهدف القضاء على شخصيته المتميزة، وسنضرب صفحًا عن المُحصِّنات الجسدية المعروفة في عالم الطب، لنتحدث عن العوامل التي تُكسب المجتمع مناعة تمكّنه من المقاومة والمحافظة على مكوناته وخصائصه المميزة له عن سائر الأغيار من المجتمعات في العالم. وهذه المحصنات الاجتماعية تتمثل في كل النظم الاجتماعية السائدة في حياة الأفراد، بقطع النظر عن درجة فعاليتها التي تختلف من مجتمع إلى آخر.
الدين والحصانة الروحية للشخصية الوطنية
وبما أن الدين في مجتمعنا يُعتبر من أقوى النُّظم (الاجتماعية – الثقافية) المؤثِّرة في الأفراد والمتأصّلة في نفوسهم، فإنّنا ارتأينا أن نتحدّث عن قوّة الحصانة التي يمنحها الدين الإسلامي للشخصية الوطنية، من أجل الصمود والبقاء أمام الهزات العنيفة التي تعصف بها من حين إلى آخر في خضم الصراع العنيف الدائر بين الثقافات والحضارات والنُّظم…
ومن باب اختبار أصالة هذه الشخصية سنتناولها بالبحث في الفترة التي تمثل أكبر امتحان لها، وهي فترة الاحتلال الأجنبي، لأن الأصالة الحقيقية للأشياء تظهر أيام العسر أكثر ممّا تظهر أيام اليسر والرخاء. وهكذا نلمس بقوةٍ أكبر محكٍّ للحصانة الدينية للشخصية الجزائرية في الصراع الطويل، الذي دار بين الأصيل والدّخيل على الساحة الوطنية. فكيف تم ذلك الصراع؟ وما هي فاعلية الحصانة الدينية للمحافظة على الشخصية الوطنية بكل خصائصها المتميزة عن شخصية المستعمر الدّخيل؟
محاربة العربية وفرنسة التعليم..
من التعاريف الشاملة للاستعمار أنه “استيلاء دولة على قُطر من الأقطار وإدارة شؤونه والعمل على استثمار مرافقه المختلفة، إمّا بيد مهاجرين يرحلون إليه، أو بيد سكانه الأصليين أو باشتراك كلا الفريقين، والدولة المستعمرة تضمن في هذا العمل لنفسها ولقومها أعظم فائدة تستطيع الحصول عليها” (التعريف من كتاب “الاستعمار” للأمير مصطفى الشهابي، صادر عام 1955).
إلا أنّ الاستعمار الفرنسي في الجزائر كان يهدف – زيادة على الاستغلال الاقتصادي والاستحواذ السياسي – إلى جعل الجزائر قطعة لا تتجزأ من التراب الفرنسي (أرضا، ولغة، وثقافة، ودينا). وقد انتهج لذلك سياسة الفَرنسة وهي إحلال اللغة الفرنسية محلّ اللغة العربية في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، حتى يصبح المجتمع الجزائري فرنسي اللسان والثقافة، وينقطع بذلك عن تاريخه ويفقد مقوّمات شخصيته القومية تدريجيا ويذوب في بوتقة الأمة الفرنسية..
فقد جاء في إحدى التعليمات الصادرة إلى حاكم الجزائر غداة الاحتلال “إن إيالة الجزائر لن تصبح حقيقة (مملكة فرنسية) إلا عندما تصبح لغتنا هناك قوميّة، والعمل الذي يترتب علينا إنجازه هـو السعي وراء نشر اللغة الفرنسية بين الأهالي إلى أن تقوم مقام اللغة العربية الدارجة بينهم الآن”.
وهكذا شرعت الإدارة الفرنسية في تطبيق سياسة الفرنسة في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية مبتدئة بمجال التعليم. وعن فرنسة التعليم يقول المؤرخ الجزائري “أحمد توفيق المدني”: “كان التعليم أيام الحكومة الفرنسية استعماريًّا بحتًا لا يعترف باللغة العربية ولا يقيم لوجودها أيّ حساب، فاللغة الفرنسية هي وحدها لغة التدريس في جميع مراحل التعليم” (من كتاب “جغرافية القطر الجزائري” لأحمد توفيق المدني، طبعة 1963).
فقد كان التعليم كله باللغة الفرنسية، بقصد تنشئة أفراد المجتمع الجزائري على اللغة الفرنسية وحدها فيتذوّقونها ويُطِلّون بها على الثقافة الفرنسية فيتأثّرون بها، ويتحمّسون لها في غياب معرفتهم للغة العربية. ولم تكتف الإدارة الاستعمارية بفرض اللغة الفرنسية في التعليم الرسمي في الجزائر، بل كانت تطلب من الأعيان الجزائريين أن يرسلوا بأبنائهم إلى فرنسا ليتعلموا اللغة الفرنسية، وعن ذلك يقول المؤرخ الجزائري “حمدان خوجة” الذي عاصر كل أحداث الغزو الفرنسي: “.. وبهذه المناسبة جمع السيد (کادي دوفو) – شيخ البلدية – المجلس البلدي وكنت عضوا فيه، لتهنئة الجنرال (كلوزيل) بالعودة سالما، وعلى إثر الزيارة أخبرنا بالتقارير التي وصلته، وقال بأنه عملًا على راحته وللتّدليل على الثقة للحكومة الفرنسية، يجب أن نجمع على الأقل خمسين طفلا من أبناء الأعيان يُبعثون إلى فرنسا ليتعلموا اللغة.. أيّد شيخ البلدية هذا الطلب واقترح أن يشرع في تنفيذه، وقال: إنّ رفض إرسال الأطفال إلى فرنسا يُعتبر خروجًا عن طاعة الفرنسيين، والذي لا يريد الامتثال إلى هذا الإجراء يجب أن يخرج من مدينة الجزائر” (من كتاب “المرآة” لحمدان خوجة، الجزائر 1834).
محاولات لفرنسة المجتمع الجزائري كاملا!
وكان الهدف من المطالبة بإرسال الأطفال إلى فرنسا هو تكوين نخبة من الجزائريين الذين يُعلَّمون باللغة الفرنسية حسب خطة مرسومة بعيدين، عن بيئتهم اللغوية والثقافية وعن كل ما من شأنه أن يبعث في نفوسهم الروح الوطنية والقومية ويوعّيهم ضد الاستعمار، فيعودون إلى أهلهم مُفرنَسين فرنسة كاملة، ويعملون على نشر اللغة الفرنسية، وترسيخ أقدام الاستعمار في البلاد!
وزيادة على جعل التعليم باللغة الفرنسية وحدها، ومحاولة تكوين النّخبة المُفرنَسة من الجزائريين الذين يساعدون على نشر اللغة الفرنسية بين أهليهم، فُرضت اللغة الفرنسية في الإدارة والمحيط الاجتماعي، وأجهزة الإعلام، فأصبحت هي اللغة الرسمية في الإدارة، وهي اللغة الوحيدة في كتابة أسماء المحلّات والشوارع وكل المرافق العامة، واستُبدلت بمعظم الأسماء العربية للشوارع والمدن، أسماءٌ لقادة الغزو العسكري والفكري للجزائر، أمثال: بيجو، كلوزيل، لافيجري.. ولأعلام الفكر والأدب الفرنسيين، مثل: ديكارت، فيكتور هيجو، لامرتين… وكانت تهدف سياسة الفرنسة من وراء ذلك إلى جعل البيئة الثقافية الجزائرية قطعة من البيئة الثقافية الفرنسية، حتى يكون لفرنسة التعليم سند من فرنسة الإدارة والمحيط الاجتماعي، لأن فرنسة التعليم بدون فرنسة المحيط، عديمة الجدوى، كما أن فرنسة المحيط والإدارة بدون فرنسة التعليم أيضا لا تؤدي الغرض المطلوب من سياسة الفرنسة الكاملة للمجتمع الجزائري، وهي الغاية القصوى التي كانت تهدف إلى تحقيقها الإدارة الفرنسية من وراء كل محاولاتها.
ونذكر من القرارات التي أصدرتها السلطات الفرنسية لفرنسة الإدارة الجزائرية، قرار عام 1849 الذي يقول نصّه: “إنّ لغتنا هي اللغة الحاكمة.. فإنّ قضاءنا المدني والعقابي يُصدر أحكامه على العرب الذين يقفون في ساحته بهذه اللغة، وبهذه اللغة يجب أن تُكتب جميع العقود، وليس لنا أن نتنازل عن حقوق لغتنا، فإن أهمّ الأمور التي ينبغي أن يُعتنى بها قبل كل شيء، هو السعي وراء جعل اللغة الفرنسية دارجة وعامة بين الجزائريين الذين قد عقدنا العزم على استمالتهم إلينا وإدماجهم فينا وجعلهم فرنسيين”.