وهي تجلس على سرير المستشفى، ترفعُ الجريحةُ الفلسطينية “رهف سلمان” أُصبعين مما تبقى من أصابعها، لترسم علامة النصر، فهي مُصرّة على تجديد أحلامها وترتيبها، وتضميد جراحها. وكانت “رهف” قد فقدت يدها اليُمنى وساقيها في العدوان الصهيوني الأخير على منطقة جباليا.
الجزائر وفلسطين بلدُ واحد
قالت الجريحة “رهف خليل سلمان ” (11 عاما) في حديثها لموقع “الأيام نيوز”، إنها تتمنّى أن تتلقّى اتصالا من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قائلة ببراءة الأطفال: “أرغب أن يتم الاتصال بي من طرف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون”، فمع صغر سنّها وحالتها الصعبة ووضعها المأساوي، فرحت كثيرا عندما علمت أننا نمثل مؤسسة إعلامية جزائرية، فتقول:” نحن بلد واحد” .
حلُمت يوما بأن تُصبح رسّامة تُعيد تشكيل الواقع بألوانها، لكن الصاروخ الذي أطلقته طائرة صهيونية ، اتّخذ من الطفلة “رهف سلمان” وأطفال فلسطينيين آخرين أهدافًا ، فتبدّدت أحلام الطفلة قبل أن ترسم بالألوان.
ففي الساعة 8.30 مساء والتصعيد ما زال مستمرا ضد غزة دوّى صوتٌ انفجارٌ أضاء الظّلام، وتحوّل الجوُّ إلى غبار، وانتشرت رائحة البارود في كل مكان، وبعدها انطلق الصراخ وبدأ الضجيج، لتتضّح معالم الفاجعة شيئا فشيئا، فهُنا أطفالٌ تمزّقت أشلاؤهم، وبعضهم بُترت أطرافهم، وآخرين آصابتهم شظايا الصاروخ، وبدأ الناس بالتوافد للبحث عن أطفالها .
بداية شريط الألم
من هنا بدأت حكاية رهف المغموسة بالدم، فقد تشوّه وجهُها الملائكيّ بشظايا الصاروخ، وبُترت يدها اليُمنى وقدماها، وهي تقطن في شمال قطاع غزة بمنطقة مُكتظّة بالسّكان، وقد كانت بالقرب من منزلها، عندما استهدفت طائرات الاحتلال الصهيوني، مجموعة من الأطفال .
خرجت رهف.. خرجت من بيتها تركض بخطوات متسارعة باتجاه أخيها محمد الذي كان يبعدُ أمتارا قليلة عن البيت، لتناديه كي يتناول طعام العشاء، لكن الصاروخ الصهيوني الغادر وصل إليها قبل أن تجتاز المسافة المطلوبة منها، فحرمها من أطرافها وقضى على أحلامها.
الطفلة كانت تتمنى أن تعيش ككل أطفال العالم، وتعيش طفوتها مثلهم تماما، ولكن الاحتلال المتوحّش سلب منها أحلامها بهمجيته وعدوانه، وهي تتمنّى أن يتمّ استكمالُ علاجها وتركيب أطراف اصطناعية لها.
وفي لحظات مُشبعة بالحزن، تستذكر رهف من أن الصاروخ الصهيوني الذي شاهدته بأم عينيها يقترب، بتر يدها اليمنى التي تكتب بها وأبقى لها اليسرى، لتُحرم من الكتابة وممارسة هوايتها المفضلة وهي الرّسم.
وقالت رهف، وهي تستلقي على سرير في المستشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة، و الشّاش الأبيض يلفّ أطرافها الثلاثة التي بُترت: “طلعت أنادي أخوي عشان نتعشى، شفت صاروخ بعدين شعرت كأني تكهربت وما عرفت شو صار لقيت حالي بالمستشفي”. وتُضيف بصوت أقرب إلى التّمتمة: “إيدي وإجري الثنتين سبقوني للجنة، بس أنا نفسي أركب إيدين ورجلين بدي أرجع أكتب. المشكلة إني بكتب بإيدي اليمين وهي اللي انقطعت، وظلت الشمال”.
وتسترسل رهف، وهي تقص علينا شريط حكايتها المؤلمة، بأنها تريد التدرُّب على استخدام يدها اليسرى، لتتمكن من العودة إلى أقلامها والكتابة من جديد ، ولتحاول رسم أحلام صارت بعيدة.
حكاية رهف ستبقى شاهدة على واقع يدفع فيه المدنيّون أثماناً مضاعفة للعدوان الصهيوني، وكل طفل في غزة يُمكن أن يكون رهف أو على قائمة الضحايا في أي وقت.
القصف الصهيوني شتّت العائلة
ومن جهتها، قال “منال سلمان” والدة الطفلة رهف، إن ابنتها أُصيبت بعدة إصابات منها كسرٌ وخلعٌ في كتفها، بالإضافة إلى البتر في أطرافها، وهي تعاني من حالة نفسية صعبة.
وأضافت الوالدة في حديثها لـ” الأيام نيوز”: “إنني متواجدة مع ابنتي رهف في المستشفى الأندونيسي شمال القطاع، بينما الأب يرافقُ ابني محمد في مستشفي الشفاء وسط غزة، فقد أصيب ابني أيضا في عملية القصف نفسها.
وتضيف الوالدة مُتحدّثة عن طفلتها، بأنها كانت مواظبة على الصلاة وقراءة القرآن في كل صباح، وكانت تلعب مع رفيقاتها بالمساء. وكان الرسم متنفسًا لها.
وتروي لنا الوالدة قصة رهف من بدايتها، عندما أرسلت ابنتها رهف لتنادي أخاها محمد حتى يتناول العشاء في لمة عائلية، لكن سرعان ما دوّى انفجار كبيرٌ غطّى غبارُه أجواء المنطقة ، وهزّ دويّه جدران المنزل.
وتتابع الوالدة: “خرجتُ أبحث عن أولادي.. كان محمد ينزف، ونقل إلى المشفى، بينما لم أجد رهف، وقضينا ساعة في البحث عنها، حتى عثرنا عليها في المستشفى الإندونيسي في شمال القطاع .
تغير مسار الحياة
تقول والدة رهف: “الحمد لله الذي أحياها، فقد جهّزنا أنفسنا لاستقبال خبر استشهادها، لكن الحمد الله خرجت حية، حتى ولو صارت بلا أطراف، وستحاول الآن تغيير مسار حياتها للتأقلم مع واقع حالها الجديد بفقدانها لثلاثة أطراف.
وتتابع الوالدة حديثها: “في إحدى الليالي المؤلمة، استيقظت رهف وقالت: أريد قلما ودفترا لكي أرسم، فلم أتمالك نفسي من البكاء، فرهف لا تستطيع أن تُمسك القلم بيدها اليسرى.
حكاية رهف هي حكاية فلسطينيين كثيرين نجوا من الموت بأعجوبة، وخسروا أطرافهم أو أحباءهم، وهم مُصرّون أن يُواصلوا الحياة بأحلام وآمال أقوى وأكبر من صواريخ العدوان الصهيوني.