روايةٌ في “أدب الموت”.. قراءةٌ في “الأفق الأعلى” للكاتِبَة فاطمة عبد الحميد

ماذا لو اختفى الموت من حياة النَّاس، وما أهمِيَّته في دُنْياهم؟ قليلون من كُتَّاب هذا العالم انشغلوا بفكرة الموت وكتبوا عنه من منطلقٍ فكري فلسفي أو من مُنطلقٍ أدبيٍّ وفَنِّي.. وفيما يلي تُقدِّمُ الكاتبة والنَّاقدة الفلسطينية “صالحة خليفة” قراءةً في روايةٍ يُمكِن اعتبارها تندرج ضمْن “أدب الموت”، وهي رواية “الأفق الأعلى” للكاتِبة السعودية “فاطمة عبد الحميد” وهي قاصَّةٌ وروائيةٌ مُتخصِّصةٌ في علم النَّفس، وصدَر لها مجموعةٌ قصصِيَّةٌ بعنوان “كطائرة ورقية”، وثلاث روايات: “حافة الفضّة”، “ة النِّسوة”، “الأفق الأعلى”.

لَوْحةُ الغِلاف

تبدو الأضْداد بشكلٍ واضحٍ من خلال الأبيض الذي يرمز إلى كفن الإنسان عندما تنتهي حياته، وكذلك تلك الورقة البيضاء التي تُسمَّى شهادة الوفاة. واللَّونُ الأسْوَد الذي يُعبِّرُ عن مَشاعر الحزن والحِداد عندما يُباغتُ الموتُ شخصًا قريبًا. إذًا اللَّوْنان مُتقابِليْن ويلتقيان عند الموت.

على عَتَبات النَّص

“ها أنا وراءَك تمامًا أحدِّقُ الآن في الجزء الخلفي من رأسك، لا تلتفتْ قَبْل أنْ أُنهي ما جئتُ لقوله”، مَنْ هذا الواثق بنفسه منذ البداية، وماذا يريد أنْ يقول؟ ثم يكمل بقوله: “إنْ كنتُ أحدِّثك مباشرةً، بصوتك أنتَ، فلأنَّ صوتي لن يكون مُستساغًا، ستتأكد من هذا حين نلتقي وجهًا لوجه، فنحن سنلتقي لا محاله”.

تشُدُّنا الكاتِبة إلى الغوْص في بحر روايتها للتَّعرف على صاحب الصوت، وكيف ومتى سيلتقيان؟ وكيف سيكون اللقاء؟ تستمر في وصفه من خلال الحِكَّم التي يتحدُّث بها، فنحتار: مَنْ هذا الذي يملك كل هذه الحِكمة والثقة بما يقول؟ عندما قال: “لا تخف إنَّ الوجود هناك يختلف عن الوجود هنا، فهنا لا ينمو الكائن عامودِيًّا كحالكم هنا، بل ينمو في ذاته”. تدفعُنا الكاتبةُ إلى الغوص أكثر في أسْطر روايتها، وإلى فك شفرة العلاقة بين الصوت والآخر، والأحداث التي تأخذنا إلى التَّعرف على صُوَرها، وإلى قراءة كل واحدة على حدة ثم إعادة تركيبها لنقرأ الصُّوَر مترابطةً ومتكاملةً، فنصِلُ إلى عنوان الرواية “الأفق الأعلى” ولوحة الغِلاف.

الحبكــة

تضعُنا الكاتبةُ أمامَ عَصْفٍ ذِهْني عندما قدَّمتْ لنا “سليمان الصغير”، الذي أرادتْ أمُّه “حمدة” أنْ يسْبق سنوات من عمره بأنْ تُزوِّجه ابنة خالها ذات الأربع والعشرين سنة والتي في وَجهِها عيْبًا خلْقِيّا، خوفًا على نَسْلها، وأنْ يصبح رجلًا بينما أقرانه يلعبون كرة القدم ويذهبون إلى المدرسة للتعلم. أمَّا “سليمان” فكان عليه أنْ يجلس في مجالس الرجال الذين هُم أباءُ أصدقائه، فكيف عليه أنْ يقوم بذلك الدَّوْر؟ ولأيّ هدفٍ؟

أيُّ صدمةٍ يتلقَّاها القارئُ عندما قُلِبتْ الصُّورةُ، أنْ يكون القاصر ذكرًا وليس أنثى كما هو سائد، فهو الأقوى وهي الأضعف.. الكاتبةُ استطاعتْ، بأسلوبها المثير الماتِع، أنْ تُوصل رسالتها إلينا، وتأخذ مشاعرَنا وتكتسب تعاطفَنا مع قضية “سليمان” ابن الثالثة عشرة، وما مرَّ به من ظروف قاسِيةٍ، بقِيَتْ تلازمه حتى آخر يوم له في هذه الحياة.

الأمْكِنَـة

دارتْ معظم الأحداث في بيئة واحدةٍ وإنْ أخذتنا أحيانًا إلى أماكن أخرى في الحي مثل: ملعب الكرة، والصيدلية، والقهوة، وغيرها من الأمكنة التي في الحي، إلاَّ أنَّها تركَّزتْ في شقَّة “سليمان”، وتحديدًا عند شرفة المطبخ الملاصقة لشرفة مطبخ “سَمَر” السيدة الأربعينية التي أحبَّها “سليمان” وهو في سِنٍّ مُتأخِّر من عمره. كما أخذتْنا الروايةُ إلى إسطنبول حيث “باسم” ابن “سليمان” يسافر إليها من أجل عمل يقوم هناك، ليرتبط بعد ذلك بحُبِّ فتاة تركية تعمل في مقهى يرتاده في إسطنبول، فنسافر معه كلَّما سَكَنه الشوقُ إليها.

الزَّمن

لم تُحدِّد لنا الكاتبةُ الزَّمنَ الذي دارت خلاله الأحداث، تُرى هل هي مصادفة أنْ “مُحِيَ” الزمن في الرواية، أمْ أرادتْ الكاتبةُ أنْ نَسْتنبط الزَّمن في سياق القراءة لإثارة تفكيرنا؟

الشُّخُوص

تنوَّعتْ شُخوص الرِّواية بكثير من الإثارة حول سِماتهم، وأسلوب حياتهم المثيرة. ولم تقدِّم لنا الكاتبةُ الشخصيَّةَ الأنموذجية المِثالِيَّة، لتقول لنا أنَّ هؤلاء هم من يعيشون بيننا، وقد يكون بينهم مَن يشبهنا. وما يشدُّنا في الرِّواية شخصيةُ المرأةِ التي أسْقطتْ عليها الكاتبةُ الكثيرَ في المُتخَيَّل لديها.

الشخصيةُ المِحْوَرِية

ذلك الصوت، المُحرِّك لأحداث الرِّواية، والمُسَيْطر بقوة وبثقة عليها، عِشنا معه زَخَم الفِكْر المُتَفلسف، صاحب الحِكْمة والقُدْرة على تغيير الأحداث.. الصوتُ الذي تَخافه البشرِيَّة جمعاء، وإنْ ادَّعى البعض غير ذلك، بأنَّه المُنقِذ الوحيد لهم للتحرر من الحياة المُعذَّبَة، لحياةٍ هي الأفضل من حياة الدنيا، قال الصوت: “أحدَّثك قليلاً عن الأرواح التي تشفُّ بين يدي، وهي صاعدةٌ إلى السمَّاء”، لعلَّه وهو صوتُ الموتِ.

الشَّخصِيَّة الغَرائِبِيَّة

“حمدة” الأرملة التي أخذت قرارًا صارمًا في تزويج ابنها القاصر ابن الثالثة عشر، لابنة خالها التي تكبره، خوفًا على نسلها، أسلوبها في تعليمه السِّباحةَ كان عجيبًا وقاسيًا في الوقت ذاته، تربطه بحبلٍ مَوصول بها وتلقيه في البحر وهي لا تُجيد السباحة، يكاد يغرق دون أنْ تُبالي، أسلوبها في تحريض أصدقائه بعدم اللعب معه كرةَ القدم، وكذلك حرمانه من الطعام حتى يكفّ عن الهروب من غرفة نومه التي تشاركه فيها زوجته “نبيلة”، وهو لم يدرك بعد كيف عليه أن يصبح رجلا في يومٍ وليلة.

سليمان: ابن حمدة هو زوج “نبيلة” التي تكبره، دفعتْ به أمه إلى حالة من الصمت لازمته طوال حياته، وأضاع الكثيرَ من حياته، حلمَ يومًا أنْ يكون لاعب كرةِ قدمٍ ولم يتحقَّق حلمه، وأنْ يتزوج “سمر” حبَّه الحقيقي، لكنه فقدها بسبب ضعفه.

نبيلة: الزوجة، ورثتْ دَوْر حمدة في علاقتها مع زوجها سليمان، وكذلك مع أبنائها، فشكَّلتْ حياتهم كما يحلو لها، قمعتهم وسيطرتْ عليهم حتى سلبتْ سليمانَ شخصيتَه وأماتتْ الرجولةَ في داخله، وكذلك أولادها، مارستْ الوصاية المطلقة عليهم.

سمــــــر: السيدة اللَّعوب التي كانت أمها تعملُ مُغنِّيَة في الأفراح، وتزوجتْ من “فاضل” الذي لا تجد السعادة الزوجية معه، أقامت علاقة غير شرعية مع الصيدلي “آدم” الذي يصغرها في العمر، وتشبِع روحها في الحب العفيف الطاهر مع “سليمان” صاحب العمارة، فكانتْ فريسةَ الفَقْد للمشاعر الروحِيَّة والرغبات الجسدِيَّة.

أبناء سليمان: “باسم” التائه في حياته والشارد في دربٍ لا يصل إلى مبتغاه أبدًا، فرضت عليه أمه حياته الزوجية، واختارتْ له زوجته “منال”، سافر إلى إسطنبول ليبحث عن حُبٍّ حقيقي لا يكتمل، لأنَّه حبٌّ من طرف واحد، ليعود أدراجَه إلى بيته وزوجته وأولاده.

أمجد: الابن الأصغر الذي يشبه والده بأذنيه الخفاشيتين، أراد أنْ ينسلخ من أيّ شبه مع أبيه، فعَمَد إلى إجراء عملية تجميلية لأذنيه، ليقتل رمزية أبيه. وقد عمدتْ الكاتبة إلى جعْل أبيه وأخوته لا يكترثون بالتغيُّر الواضح على شكله بعد إجراء العملية، وكأنهم في حالة إنكار لما قام به، كما أنه لم يتزوَّج، كان همُّه أنْ يعتني بوجهه وبهندامه، وكان أنيقًا في حياته.، تقدِّمه لنا الكاتبةُ من منظور السَّارد، الذي لا صوت له، وإنْ ظهَر فيكون خافتًا، لم نجد له أصدقاء، واختفى الأعداء لديه، لم نسمع أنَّ لديه حياته الخاصة به.

قُصــــي: الابن الأوسط، الذي تمرَّد على زوجته “أسماء”، ليتحرر من الغرور الذي سيطر عليها، يستقرُّ في شقة والده بعد تطليق زوجته أسماء، لتشدّه الشُّرفةُ التي كان يقضي والده جلَّ وقته بها قَبْل وفاته، ويكتشف أنَّ أباه كان يعيش قصة حُبٍّ حقيقية.

الأسلوبُ الإبداعي للكاتبة

اتّسمتْ روايةُ “الأفق الأعلى” بالخدعة السَّردية التي أبرزتْ براعةَ الكاتبة في تطويع الخدعة بأسلوب ماتِع شيِّق، تستثير أفكارَ القارئ الفلسفية من بداية الرواية حتى نهايتها، مع تلك التفاصيل الإنسانية البسيطة واليوميّة التي يعيشها شُخوصها والتي تشكِّل ملامحهم.

امتلكتْ الكاتبةُ براعةً في استخدام العبارات التي وظَّفتها بحذاقةٍ وذكاء، من خلال ربط الحدث بها، تربطُ سوءَ الأحوال الجوية بعدم قدرة “سمر” على التَّقدُّم في طريق العشق الغريب مع “سليمان” بحاجز اللغة، وعندما هوَّلتْ في وصْف العين السحرية المقلوبة لتظهر قبح تقاسيم وجه الصيدلي “آدم”، كاشفةً لنا قُبْح الحياة. جعلتْ كل دمعةٍ ذَرفتْها “سمر” كالعملات المعدنية حين تسقط على سطح الرخام تُحدث دويًّا، لتعطي قيمةً لدمعتها، وصدرها كقطعة رُخام غالية الثمن، تربطه بحالة التغيُّر في حياة “سليمان”، بعد أنْ كانتْ “نبيلة” هي من تقوم بدور بالاعتناء به، ليصبح هو في دَوْر من يعتني بـ “سمر” حين قالتْ: “وهذا ما لمْ يَعتده في حياته كلها، فقد ألف أنْ يكون الباكي، وما على الآخرين إلاَّ أنْ يعتنوا به”.

رمزِيَّةُ البذور التي زرعتها “سمر” في شُرفة “سليمان”، ثم نمتْ وأزهرت، لم تستطع “نبيلة” أنْ تزرع البذور لتنمو وتزهر، وكأنَّ “سمر” هي من أزْهرتْ له حياته وأعادتْ له روحه.

وعند موت “سليمان” تنكشفُ الصورة المُغَيَّبة عن زوجته وأولاده، والذين لم يصدِّقوا ما كان يحدِّثهم به عن عمله، كأنَّهم يُنكرون صورَته التي يريدها أنْ تكون جليّةً أمامهم، ففي مجلس العزاء، يحضر الفنانون الذين كانوا صغارًا وكان يعتني بهم، ويبثُّ في نفوسهم القوة وعدم الخوف من الظهور على المسرح، فكانت بصمته فيهم، وفي نجاحهم، يُسقِط ما بداخله فيهم ويتحرر مّما سيطر عليه من ضعف بفعل الآخرين، وموت لجسمه البارد الذي يحمل ملامح متجمدة إلاَّ أنَّه من الداخل كان يحترق كمَدًا لصقيع حياته.

كذلك موتُ القُدْوة، عندما جلبتْ “نبيلة” لابنها باسم مُرطِّبًا، وشرحتْ له طريقة استخدامها له بجرأة، سقطت من عين “باسم” أمَّه، وفقَدَ منذ تلك اللحظة قَداستها عنده، وكأنها تقول له: “حتى الأمُّ ليستْ كاملةً”.

صُوَرُ الموتِ في الرِّواية

صوتٌ يتسلَّلُ إلى أحداث الرواية، يتمّوَّج على هيئة مونولوج، يُخرِجُنا من يومِيَّات السَّرد الاعتيادية، ويثيرُ الدَّهشةَ كلما حاول اكتشافه ومعرفته على صورته الحقيقية، لحظة اقتراب القارئ منه، يتمنى لو أنَّ ذلك الصوت بقِيَ كما يريد، باستعارة صوت القارئ بعيدًا عن صوته الحقيقي عندما قال: “وإنْ كنت أحدِّثك مباشرة بصوتك أنتَ، فلأنَّ صوتي لن يكون مُستساغًا”.

الصورة الأولى هي الصورة الحقيقية للموت وإنْ اختلفتْ طُرُقها، والتي يُشفى الإنسان بها عندما يترك الحياة. أمَّا الصورة الثانية، فهي صورة الموت الذي يسلبنا حقنا في العيش بإرادتنا وحريتنا، كموت “سليمان” الذي لازمه طوال حياته.

منحتْ الكاتبةُ الموتَ صفةَ الكائن الحي، تُصيبه الغيرة في أحيانٍ عدة، تدفع بنا لاكتشافه من خلال أصوات أخرى، يستخدم اسمه مجازًا في مواقف لا صلة له بها: “أراقب شخصًا يموت على غير يدي، كالموت حُبًّا، والموت غربةً ووحدةً ” رغم نفيه لما أصابه من انزعاج لمن يصفون نجاتهم منهم انتصارًا إلاَّ أنَّ الحقيقة أنَّ ما سَمِعه من البشر كان مصدر إزعاج له، يقول: “لا يزعجني البتة أنْ تُسَمُّوا نجاتَكم مني انتصارًا”. لتضعنا الكاتبة أمام الحقيقة المقلقة عندما يقول الموت لنا: “كل ما عليك أنْ تدركه أنَّني اللَّمسة الأخيرة”.

“نبيلة” عاشتْ هذا الموت، افتقادها للسعادة الزوجية الحقيقية مع “سليمان” الطفل، تراه مَنقوصًا من رجولته وذكورته، مِمَّا دفَعها لتمارس العنف ضِدَّ المُعلِّمات المتزوجات اللواتي كُنَّ سعيدات في حياتهن الزوجية.

خذلان الشابة التي التجأتْ إلى “سليمان” وهي خائفة تبكي، لتخرج من سيارته في اتجاه الموت الحقيقي. وكذلك خذلان “منال” أمام مشاعر زوجها “باسم”، وخيانته لها، مِمَّا تسبَّب في الموت الخفيِّ والصامت لزواجها، خذلان “سمر” لـ “سليمان”، وعودتها إلى زوجها “فاضل”، فتختار الموتَ الرُّوحي.

تحرُّر “سليمان” من موته الروحي إلى الموت الحقيقي، أجادتْ الكاتبة في اختيار نهاية “سليمان”، وربطتْها ببداية الرواية. نقطةٌ مِحوريَّة في حياة “سليمان”، عندما سُرِق من لحظة تسديد الهدف في المرمى، لتبقى تلك الرَّكلة التي لم يُسدِّدها مُعلَّقةً في حياته، فيُقِيم المباراةَ وهو في سنٍ كبير. وموتُه لحظةَ تحقيق الهدف في المرمى، ليتحرَّر، ليكون الموت طوق نجاةٍ، “ألاَّ أكون حين أحْمِل أحدَكم، طوقَ نجاةٍ؟”.

صُورَة المرأةِ في “الأفق الأعلى”

خرجتْ الكاتبةُ عن المألوف، والصُّورة النَّمطية للمرأة الضعيفة المُنكسرة، المغلوبة على أمرها، هي امرأةٌ مُتسلِّطة مُتجبِّرة، تتحكم بمصير الرجل بأشكال عِدَّة، بصورة أم سليمان “حمدة”، المرأة القوية صاحبة القرار الحازم، ترسم للرجل، وتخطط وتنفذ.. “نبيلة” هي امتداد إلى أمِّ سليمان، ورثتْ دورَها في حياة سليمان، إلاَّ أنها أكثر حجمًا واتساعًا، امتدت لتطال أولادها، لتختار لهم حياتهم.. أمَّا “أسماء” زوجة “قُصي” فقدَّمتْ لنا صورةً للمرأة المُتعالِيَة المُتكبِّرة المَهووسة بالنجاح الذي هو أهمُّ من علاقتها بزوجها.

المرأة القوية “منال” لكن بطريقة أخرى، هي قوة التَّغافل والتَّجاوز لتحافظ على حياتها، وإنْ كان على حساب كَيْنونتها كامرأةٍ وزوجةٍ. أمَّا “سمر” فتعيش الندمَ على خيانتها لزوجٍ لاهٍ عنها، اتَّخذتْ قرارًا صارمًا لتكشف عن قُوَّتها والتَّغلب على ضعفها، بالعودة إلى زوجها “فاضل”، لتتطهَّر من خطيئتها وذنوبها.

الرَّجلُ في “الأفق الأعلى”

ما السرُّ وراءَ إصْرار الكاتبة أنْ تقدِّم لنا الصورةَ غير المألوفة لدينا في مجتمعٍ ذُكوري من الدرجة الأولى، فالرجل لديها هو ذلك الضعيف الذي لا يملك زِمام أمره.. مَسلوب الحُريَّةِ في الرِّواية. أمَّا الصورة الأخرى المقابلة لـ “سليمان” الابن المُدلَّل من طرَف أمه.. وَهَبته هذه الأمُّ حريةَ العيشِ كيفما يشاء، وتكفَّلت بحياة زوجته “سمر” كي تصمت عنه، وتحافظ على نسْله بطريقة مُغايرة لطريقتها.

أمَّا أبناء “سليمان”، فهُم صُوَرٌ مختلفة عن بعضهم البعض. “باسم” يبحث عن حُبٍّ خارجَ حدود وطنه، لعلَّه يتحرَّر من سلطة أمه. و”قُصي” الضعيف أمام زوجته، يتحرَّر منها بطلاقه منها، وكأنْ به تحرَّر من قيْد أمِّه. “أمجد” الذي يبحث عن شيءٍ آخر مختلفٍ عن أخوته، ألاَ وهو حُبُّ الذَّات، والتَّحرُّر مِمَّا يشبه والدَه الرجلَ الضعيف، فيُجْري عمليةً تجميلِيَّة لأذُنيْه الخفاشيتين الشبيهتين بأذُنيْ والده.

نظرةٌ استشرافِيَّة إلى المستقبل

امتلكتْ الكاتبةُ نظرةً إلى المستقبل، وتنبَّأتْ بما يحيط بنا من حروب، والموت لم ينقطع، وبدأ يحتضن أجسادنا وفي كل لحظة، إلى درجة أنها تساءلتْ عن مصير الموت ذاته: “إذا لم يبقَ أحدٌ في هذه الدنيا، ما مصيره يكون؟”. استخدمت الكاتبةُ صيغةَ المبالغة، لتجسِّد لنا حجم الموت القادم إلينا. وجعلت من الموت طوْق نجاة للبشرية، من حالة الدَّمار الذي يحيط به.. جعلتْ الموتَ نفسَه يشمئِزُّ من تلك الحروب وأثارها على البشرية والتي هي من صنع الموت، يقول:” أقِرُّ بأنَّ فكرة القتل تُشعرِني بالاشمئزاز”.

وعن موْتِ الطفولة، قالت الكاتبة: “منذ غادروا طفولتهم” اليوم نحن نعيشُ وأدَ الطفولة، اللحظة الفاصلة ما بين الحياة والموت، لا نعلمُ من هو المنتصر، وأيُّ المكاسب فيها أقوى.. هل الحياةُ المنتصرةُ أمْ هو الموت؟

رأيٌ آخر

أخذتْنا الكاتبة إلى رواية “انقطاعات الموت” للأديب “جوزيه ساراماجو”، فالموت حائرٌ ما بين كثرته وانقطاعه، إلاَّ أنَّه هنا يقف عند نقطة مُهمَّة من حياته، ففي رواية “فاطمة عبد الحميد”، الموتُ سيصل إلى مرحلة يفْقِد دوْرَه في حياة الناس، بينما في رواية “خوزيه”، الناس أخذوا يبحثون عن الموت في المدن التي لم ينقطع فيها كي يحضنهم.. لندرك أهميةَ الموت في حياتنا. وفي الفصْل الأخير (المستشفيات)، كان على الكاتبة الاستغناء عنه، فهو لا يخدم الرواية بشيء، وأنْ تكتفي بالوقوف عند موت “سليمان”، وقد يكون لها وجهة نظرٍ أخرى تقنعنا بها.

صالحة خليفة - كاتبة أردنية

صالحة خليفة - كاتبة أردنية

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
سكيكدة.. إصابة 21 جريحًا في حادث مروري تونس.. شايب يجدّد التزام الحكومة بحماية أفراد الجالية قمة كمبالا.. الجزائر تشارك في رسم خارطة طريق زراعية جديدة الاقتصاد العالمي في 2025.. صندوق النقد الدولي يتوقع استقرار النمو وتراجع التضخم عام 2024.. تسجيل 14700 حالة إصابة مؤكدة بجدري القردة في إفريقيا الحرب على غزة.. 5 آلاف شهيد والإبادة الصهيونية مستمرة إرهاب الطرقات.. وفاة 64 شخصا وإصابة 2087 آخرين منذ بداية السنة أحوال الطقس.. ثلوج وأمطار على هذه الولايات بوركينا فاسو.. الجزائر تقدم مساعدات إنسانية مصدرها من المغرب.. توقيف 6 أشخاص وضبط قنطارين من الكيف بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة.. قوجيل يهنئ الجزائريين حملة التضليل والتشويه الفرنسي.. الخارجية الجزائرية ترد بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة.. الرئيس تبون يُهنئ الجزائريين تنصيب اللواء طاهر عياد قائدا للحرس الجمهوري بالنيابة "الفاف".. وليد صادي يعلن نيته الترشّح لعهدة أولمبيـة ثانية "لم يبق منها سوى فروة الرأس”.. انصهار وتبخر جثث الشهداء في غزة وسط الدمار.. الاستعانة بالسجناء لإطفاء الحرائق في لوس أنجلوس ارتفاع أسعار النفط بنحو 3%.. "برنت" يصل إلى 79,76 دولار للبرميل كيف أصبحت الجزائر "مكة الثوار" في إفريقيا والعالم؟ بمناسبة انتخابه رئيسا للبلاد.. رئيس الجمهورية يهنئ نظيره اللبناني جوزيف عون