إذا تخلّت “الكلمة” عن شرفها تسقط الأخلاق في بؤر التفسّخ، ويسود الكذب والنفاق والزّيف والظلم.. ويختلّ ميزان المجتمع فيدخل في مرحلة فقدان عناصر أصالته وهويّته وموروثه القِيَمي والروحي. وإذا تجرّدت “الكلمة” من مسؤوليتها تصبح سلاحًا هدّامًا للإنسان والمجتمعات والأوطان، وما أكثر الأمثلة حول هذه “الكارثة” على جغرافية العرب والمُسلمين في عصرنا الرّاهن! وفي الحديث الشريف: “إنَّ العبدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضوانِ اللَّهِ، لا يُلقِي لها بالًا، يَرفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلقِي لها بالًا، يَهوِي بها في جَهَنَّمَ”. فماذا لو استوقف الإنسان عمرَه ليومٍ واحدٍ فقط، ورصَد الكلمات التي ترتفع به إلى أسمى الدّرجات أو تلك التي تهوي به إلى جهنّم، لا سيما الإنسان الذي يُبحر لساعات يوميًّا في عوالم شبكات التواصل الاجتماعي؟ وأزعم بأنّ هذا الحديث النبويّ من أخطر الأحاديث التي يجب أن نتعمّق معانيها على ضوء تفاصيل يومياتنا الرّاهنة!
مجرّد “كلمة” نقولها في حديث عابرٍ أو نكتبها في لحظة سهوٍ على جُدُر شبكات التواصل، ترتفع بنا إلى أسمى الدّرجات أو تهوي بنا إلى أسفل الدّركات! في قصيدته “اختاري”، يقول “نزار قباني”: “لا توجد منطقةٌ وسطى.. ما بين الجنة والنار”، أما نحن فنزعم بأنّ “الكلمة” هي الحدّ الفاصل بين الجنّة والنار، سواءٌ قِيلَت أو كُتِبت في موقف جِدٍّ أو هزلٍ، وما أكثر أحاديثنا التي نُطلقها من بنادق الكلام، لا سيما الأحاديث على شبكات التواصل الاجتماعي، دون أن نستحضر معنى الحديث النبوي حول خطورة الكلمة مهما بدت لنا بسيطة وأطلقناها في سياق أحاديث لا قد تقول أشياءً وقد لا تقول شيئًا!
سجّل لنا “أبو الفضل الميداني” (ت 1124م) في كتابه “مجمع الأمثال” مثلًا عربيًّا يقول: “رُبَّ كَلِمَةٍ تَقُولُ لِصَاحِبِهَا: دَعنِي”. وعن قصة المَثَل، قال “الميداني”: “ذكروا أنّ ملكًا من ملوك حِمْيَر خرَج مُتَصَيِّدًا، معه نديمٌ له كان يُقَرِّبه ويُكرمه، فأشرف (الملك) على صخرة مَلساء ووقَف عليها، فقال له النّديم: لو أنّ إنسانا ذُبِحَ على هذه الصخرة، إلى أين يبلغ دمه؟ فقال الملك: اذبحوه عليها ليرى دمه أين يبلغ. فذُبِح عليها، فقال الملك: رُبَّ كلمة تقول لصاحبها: دعني”. وقريبًا من مثَل “الميداني”، يشيع بين الناس مثلٌ شعبي يقول معناه: “الشرّ لا يظلم”، فالإنسان تقوده قدمَاه إلى أبواب الشر فيظلم نفسه وغيره، وكذلك يقوده لسانه الذي يتكلّم أو يده التي تكتب! والتراث العربي يضجُّ بقصص الشعراء والأدباء الذين قتلتهم أشعارهم وكتاباتهم التي أطلقوها من بنادق الكلام دون أن يقصدوا إلى إحداث ضرر بالغير!
وإذا ما أردنا أن نحوّل المثل: “رُبَّ كَلِمَةٍ تَقُولُ لِصَاحِبِهَا: دَعْنِي” إلى مشهديّات، سنتخيّل “الكلمة” وكأنها فاتنة لعوبٌ تَسيح في الدنيا، والناس يطاردونها ويلهثون خلفها، محاولين إغواءها وإغراءها لكي تتشكّل حروفًا تنطق بها شفاهُهم أو تكتبها أناملُهم.. فمنهم من يكتشف بأن تلك الفاتنة إنّما كانت “شيطانًا” جرّهم إلى بؤر العفن ومستنقعات النّدم، ومنهم من يكتشف بأنّها “الخديعة” تشكّلت أمامهم فأمِنوا لها وتبعوها فأودت بهم إلى الهلاك، ومنهم من يكتشف بأّنهم كانوا “يطاردون خيط دخّان” وأنفقوا عمرًا جنوا في نهايته ما تجنيه الريح من القصَب! ونترك للقارئ أن يسرح بخياله ويرسم ما يشاء من مشهديّات وصُوَر، فغايتنا هي أن يُدرك – عزيزنا القارئ – “مسؤوليةَ الكلمة”، ويمتلك “وعي الكلمة”.. حتى لا يكون جانيًّا بالكلمة أو ضحيّةً لها في عصرٍ رفعَ شعار “حرية التعبير” في شبكات التواصل الاجتماعي، وألغى الحدود بين: الحق والباطل، الإيمان والكفر، الحقيقة والزّيف، الصدق والكذب..
في مدار هذه الأفكار، توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من الكتّاب بهذه التساؤلات: ماذا عن شرف الكلمة ومسؤوليتها في عصرنا الراهن، في مجالات الكتابة والإبداع.. وفي مواقع التواصل الاجتماعي؟ وماذا عن شرف الكلمة بين الماضي والحاضر؟ وكيف ترون مستقبل الكلمة في مختلف المجالات ذات الارتباط بالحياة اليومية وبالثقافة والأدب؟ وهل نحن مسؤولون عن الكلمة التي نقولها أو نكتبها؟ وهل نُحاسب عليها أمام الله وضمائرنا وأجيالنا؟ وهل هناك حاجة إلى ما يُمكن تسميته “وعي الكلمة”؟
عزيز القارئ أرجو أن تنتبه إلى أمر بالغ الأهميّة وهو أنّنا في عصر “استعمارٍ” يستعمل الكلمة ليتغلغل إلى أعماقنا الوجدانيّة والفكريّة، ويحاول أن يستفرغنا من محتوانا الأصلي ثم يعيد إشباعنا بموّاده التي تحقّق له استعمارنا من دواخلنا.. فنتنكّر لأصالتنا وهويّتنا وموروثنا وديننا دون أن نعي ذلك! فتأكّد عزيزي القارئ وأنت تُبحر في عوالم شبكات التواصل إن كنت تستحضر الحديث الشريف: “إنَّ العبدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضوانِ اللَّهِ، لا يُلقِي لها بالًا، يَرفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلقِي لها بالًا، يَهوِي بها في جَهَنَّمَ”! هل تعتبر الأمر بسيطًا هيّنًا؟ إذًا، تذكّر المثل: “رُبَّ كَلِمَةٍ تَقُولُ لِصَاحِبِهَا: دَعْنِي”، أما نحن فلن ندعك حتى تقرأ ما قاله كُتّابنا عن “الكلمة”، ونتمنّى أن يكون لك كلمة حول الكلمة.. حتى وإن كان الأمر بينك وبين نفسك!

سُلطانُ الكلمةِ فوقَ كلمةِ السُّلطان
“لا تبخَس كلماتِكَ ما تستأهلُه من قَدْر، فالكلمة قد تفعل”!
عَرَفتُ طريقي إلى عالمِ الكلمة أولَ ما عرفته من خلال القرآن الكريم، وقد قيل لنا في طفولتنا إن أوَّلَ ما أُنزِل منه هي كلمة (اقرأ)، وهي حَمَّالةُ أوجُهٍ كما يقولون، فهِمت فيما بعد أن معناها لا ينصرف بداهةً إلى عبور العين على الكلام المسطور وتحويلِه إلى لفظٍ منطوق، أي أنها ليست مُجرَّد تحويل المرسوم إلى مسموع، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أشهر الأقوال، لم يكن قارئًا، والقرآن لم يتنزل في صُحُفٍ ولا في كتاب. إن من معانيها هنا: تدبَّرْ وتأمَّلْ وتفكّرْ، وهو ما يفسِّره قولُه جلَّ شأنُه “وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ” (سورة الإسراء، الآية: 106)، وقولُه: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ” (سورة ص، الآية: 29)، وقولُه: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” (سورة محمد، الآية: 24).
حفظتُ أكثرَ القرآنَ طفلًا عن ظهر قلب، وضاعت سنواتٌ من عمري دون أن يدلَّني أحدٌ على تأمُّلِه وتَدبُّرِه، أو حتى على معرفة معاني مفرداته، اللهم إلا ما كان مقرَّرًا علينا من آياته في المرحلة الابتدائية، وهي في مجملها لا تتجاوزُ أصابعَ اليدين عَدًّا، وتطويها مجاهلُ النسيان بعد أيام الامتحان، وظللت أيامَها منتشيًا بالنغم لا يشغلني ما تعني الكلمات. وكانت النقلة الكبرى في أول المرحلة الإعدادية، حين وقعت بين يديَّ الأجزاءُ الأخيرة من التفسير الوسيط، كانت تُباع بثمن زهيد، وأحسست بعد قراءتها أنني أقرأ القرآن لأول مرة، وأن آياته ليست مجرَّد نسقٍ من البيان المعجِب المطرِب؛ وإنما هي أوامرُ يجبُ أن تطاع، ونواهٍ يجبُ أن تُجتنَب، وحقائق لا بدَّ أن تُدرَك، وعقيدةٌ يجب أن تستقر في القلب، ويمتلئَ بها الضميرُ، ويُصَدِّقَها العملُ الصالحُ والعبادةُ الخاشعة.
من يومها وأنا أنظر إلى الكلام الذي أقرؤه، والأدب في قمته، نظرةً أخرى؛ فلم أعُد أنبهر كثيرًا بمواضع التفنن في رصف جُمَله أو تنميق عباراته، وإن كانت من لوازمِه وشرائطِه، ولم أعُد أقرأ كتابًا أو أطالع ديوانًا، إلا تأملته وقلبت النظر فيما وراءه، وصار وزني له بمقدار ما يثيرني ويستفزُّني، ويغيِّر نظرتي ويعمِّق إدراكي. وانتبهت مبكِّرًا إلى دور الأدب ورسالة الأديب، فالأدب ليس ثرثرة فارغةً في شكلٍ أنيق، يسلِّي بها الناسُ أنفسَهم ويُزْجُون فراغَهم، والأديب ليس بهلوان ألفاظٍ، يسوِّد بها الصفحاتِ في قالَبٍ فنِّيٍّ ليثير دهشة القراء ويحظَى بإعجابهم.
إن الأدَبَ الحقَّ هوالذي يضع أيديَنا على جوهر الأشياء، ويبصِّرُنا بقيم الحقِّ والخير والجمال، والأدِيب الحقَّ هو الذي يُرَبِّي في نفوسنا معاني الحرية والعزة والكرامة. وأذكر أن الأستاذ “العقاد” كان يرى أن رسالة الأدب هي “الحرية والجمال”، وأن عدوَّ الأدب من يخدم الاستبدادَ، ومن يقيِّدُ طلاقة الفكر، ومن يشوّه محاسن الأشياء، وخائنٌ للأمانة الأدبية مَن يدعو إلى عقيدة غير عقيدة الحرية. ومقاييس الأدب هي مقاييس الأشياء التي لا سلطان عليها للدول مجتمعات ولا متفرقات. فلو اتفقت دول الأرض جميعًا لما استطاعت أن ترتفع بالأديب فوق مَقامه أو تهبط به دون مَقامه، ولا استطاعت أن تغيّر القيمة في سطرٍ واحدٍ مما يكتب، ولا في خاطرةٍ واحدةٍ من الخواطر التي توحي إليه تلك الكتابة.
ولا أزال أذكر الحماسة التي ملأتني حين طالعت كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لـ “عبد الرحمن الكواكبي” (1855/1902)، وقرأت فيه: “لا يَفرَحَنَّ المستبدُّ بعظيم قوته ومَزيد احتياطه، فكم من جبَّارٍ عنيدٍ جَنْدَلَه مظلومٌ صغير”. وأدركتُ منه أن الأمَّة التي لا تشعرُ، كلُّها او أكثرُها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية، وأن الأمَّة التي ضُرِبَت عليها الذِّلَّة والمسكنةُ حتى صارت كالبهائم أو دون البهائم لا تسأل قط عن الحرية. وهي قد تنقم على المستبدِّ، ولكن طلبًا للانتقام من شخصه لا طلبًا للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيدُ شيئًا؛ إنما تستبدلُ مرضًا بمرض، كمَغَصٍ بصداع. وقد تقاوم المستبد بسَوقِ مستبدٍّ آخر، تتوسّم فيه أنه أقوى شوكةً من المستبدِّ الأول، فإذا نجحت لا يغسلُ هذا السائقُ يديه إلا بماء الاستبداد، فلا تستفيد أيضًا شيئًا. وربما تنال الحرية عفوًا، فكذلك لا تستفيد منها شيئًا؛ حيث لا تلبث تلك الحرية أن تنقلب إلى استبدادٍ مشوَّش أشد وطأة، كالمريض إذا انتكس.
ولا أزال أذكر أيضًا ذلك الوعيَ السياسي والإنسانيَّ الذي عمَّقته في نفسي أسئلتُه الثائرة في آخر هذا الكتابِ الملهِم، ومنها:
- ما هي الأمَّة، أي الشعب؟ هل هي رُكامُ مخلوقاتٍ نامية أو جمعية عبيدٍ لمالكٍ متغلِّب؟ أم هي جمعٌ بينهم روابطُ دينٍ أو جنسٍ أو لغة، ووطن وحقوق مشتركة؟
- ما هي الحكومة؟ هل هي فردٌ وأعوانه، يتسلطون على الرقاب والدماء والشرف والمال ويفعلون ما يشاءون؟ أم هي وكالةٌ سياسية تُقام من قِبَل الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العامَّة؟
- هل للحكومة التصرُّفُ في الحقوق العامة، المادية والأدبية، كما تشاء، بذلًا وحرمانًا؟ أم تكون الحقوق محفوظةً للجميع على التساوي والشيوع؟
- هل للحكومة أن تخصِّصَ بنفسها لنفسها ما تشاء من مراتب العظمة ورواتب المال، وتحابي من تريد بما تشاء من حقوق الأمة وأموالها؟ أم يكون التصرفُ في ذلك كله، إعطاءً وتحديدًا ومنعًا، منوطًا بالأمة؟
- هل يُترَك للحكومة صلاحية الضغط على العقول كي لا يَقوَى نفوذُ الأمة عليها؟ أم تُحمَلُ على توسيع المعارف بجعل التعليم الابتدائي عموميًّا، وبجعل الكماليِّ منه سهلًا للمتناوِل، وجعل التعليم والتعلُّم حُرًّا مطلقًا؟
وهذا كلامٌ لا نقرؤه في كُتُب المدارس، ولا مسموحٍ بمثله في برامج التعليم، فمناهجنا، في معظمها، قائمة على الترديد والتلقين، لا على المناقشة والإبداع، ومثلها يخرِّجُ نُسَخًا من المؤمِّنين الجبناء، ولا يَخلُق أجيالًا من المفكرين الشجعان. وهو ما أشار إليه الشاعر والناقد الفرنسي (بول فاليري) حين قال: “إن أساتذتي في المدرسة كانت لهم عن الأدب فكرةٌ تدعو إلى الرثاء؛ يخيَّل إليَّ أن الغباء وفقر الذهن وبلادة الشعور وضعف التصور العام وانعدام الخيال، موادٌّ مقررة رسميًّا في المناهج الدراسية”!
ما أريد أن أقوله هو أن “الكلمة” ليست مجرد حروف تسطَّر؛ ولكنها رسالةٌ تؤدَّى، ولا قيمة لها ما لم تكن معبّرة وموحية، محرِّضةً ومستفزّة، هاديةً وملهِمة، أمَّا الكلمة (المائية) المداهنة المنافقة المتملقة، فهي مخدِّرة الأمم وأفيون الشعوب وصانعة الطغاة، وما أشبه الأولى بالكلمة الطيبة، أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، وما أشبه الثانية بالكلمة الخبيثة، اجتثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار. وهي أمانةٌ ومسؤولية، وقد ورد في الحديث “إن الرَّجُلَ ليَتَكَلَّمُ بالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوانِ اللَّهِ تَعالى مَا كَانَ يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بلَغَتْ يكْتُبُ اللَّه لَهُ بهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يلْقَاهُ، وَإنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِنْ سَخَطِ اللَّه مَا كَانَ يظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بلَغَتْ يكْتُبُ اللَّه لَهُ بهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يلْقَاهُ”. وقد ورد في أمثال العرب: رُبَّ كلمةٍ قالت لصاحبها دَعْنِي.
إننا في حاجة إلى الكلمة الشجاعة المقاتلة المناضلة، تعرّي الفساد وتواجه الطغيان، وتثير فينا روح التمرّد والرفض والمقاومة، ولسنا في حاجة إلى الكلمة الناعمة المخنّثة الطرية، تدغدغ العواطف وتهيج الغرائز، وتبعث فينا روح الخضوع والطاعة والاستسلام؛ ولقد ذهب إلى غير رجعة، أو ينبغي أن يذهب، عصرُ مُضحِكِ الملك ونديم الخليفة، وآن لنا أن نبدع أدبًا مختلفًا تنهض به أمتنا وتستعيد سالف عِزِّها ومَجدِها، وهذا حقُّ الأجيال القادمة علينا؛ فإذا كانت كلمةُ السلطان المستبِدِّ (فرضًا)، فإن كلمة الأديب الحُرِّ يجب أن تكون (رفضًا)، وإذا كانت كلمة الحاكمِ الغاشمِ جُمَلًا خبرية آمِرَة، فإن كلمة الأديب لا بدَّ أن تكون جُمَلًا استفهامية متمرِّدة، وهو ما قصد إلى قريبٍ منه “نزار قباني” حين قال:
الشِّــــــعرُ ليس حَمَــــــاماتٍ نُطَيِّرُها — نحـــــو السماءِ ولا نايًا وريــحَ صَبا
لكـــنه غَضَبٌ طــــالت أظــــــــافرُه — ما أجبنَ الشِّعرَ إن لم يَرْكبِ الغضَبا!
الكلمة.. إما نور وإما قبور!

شرَفُ الكلمة الأدبية ومسؤوليتها في مرآة وثائق “الأزهر الشريف”
كثير من متاهات الأوطان والمجتمعات والأنظمة الحاكمة راجعة إلى حال الكلمة والمُتكلّمين فيها؛ بسبب شياطين الكلمة وأبالسة الفكر من الموتورين المتشنّجين، أو العملاء المأجورين، الذين يبثّون سمومهم القاتلة عن طريق معسول الاصطلاحات والعبارات، وتعمد تغييب ملائكة الكلمة وأنبيائها الصالحين المصلحين أو تضييق مساحة حضورهم.
ومعلوم أن الكلمة إما أن تكون طيبة صادرة من أطياب أو خبيثة صادرة من خبثاء، وأن الكلمة إما نور وإما قبور، وإما ترياق أو سرطان، و إما سلاح أمن وعمران أو معول هدم وخسران، فمن الكلمة الطيبة مفتاح القبول ومعراج الوصول وبريد القلوب وبها تتقارب الأرواح وتتآلف النفوس وتتفتت صخور الكراهية وتذوب ثلوج الجفاء، فتشيع معاني الحب والود والإخاء والسلام الاجتماعي والإنصاف… وغير ذلك من المحاسن والفضائل، وبالكلمة الخبيثة تنشأ العدوات وتنشب نار الأحقاد وتثور الفتن ويختلّ ميزان المجتمع ويفقد أصالته وهويته، وتنتشر أمراض اجتماعية كالكذب والنفاق والخداع والتزوير والإيذاء والتنمر والسخرية والتحرش… وغير ذلك من المقابح والرذائل، وزادت هذه الإشكالية خطورة بفعل تطور التواصل البشري عن طريق التكنولوجيا الرقمية المعاصرة، ومن ثم كان حديث المثقفين والمثقفات في كل زمان ومكان عن شرف الكلمة ومسؤوليتها وضوابطها، وضرورة متابعة ما فيها من وعي وهدي وهادفيّة وخيريّة وتعمير. ولي بحث علمي متعلق بهذه القضية التي تثار في خطابات الأدب والإعلام والسياسة والدعوة والثقافة، بل وفي الخطابات الشعبية اليومية! وهو بعنوان: (حرية الإبداع الأدبي في مرآة وثائق الأزهر الشريف)، فالكلمة الأدبية في المجتمع العربي محطة إذاعة مرئية ومسموعة، وصحيفة يومية واسعة الانتشار والنشر، بل هو وزارة إعلام بقضّها وقضيضها بالمفهوم المعاصر، لا بد منه في كل مكان، وبقدر ما تكون شاعريته في ميزان الشعراء يكون قدر جماعته في ميزان المجتمع. والشاعر الحق هو من يهدف إلى كمال الحياة متبنِّيًا المخطط الأخلاقي، الذي يصل الإنسان بهدى منه إلى الفضيلة والسعادة. وهو الذي يوظف موهبته من أجل غاية توجيهية تربوية تتدسّس دخائل النفس ومسارب الشعور، وهو الذي يصلنا بالكون الكبير والحياة الطليقة، كما يقول عملاقنا “العقاد”.
والأديب الحق العالي هو الثائر الحر، الذي يقول الطريف والمتخطّي والمتجاوز، والذي يخرج من مبدع مغاير، يشعر بما لا يشعر به غيره، مبدع حر في فكره وتعبيره وتصويره وإيقاعه، مبدع يتخذ من الحرية عمادًا؛ ليمتلك القدرة على التأثير والتغيير، ويرفض كل المعوقات والموانع التي من شأنها قمعه وتذليله وتعبيده، إن غايته كلمة نور وحق في وجه سلطة جائرٍ جاثمة غاشمة، في صور خيالية حالمة، عبر نقلات نوعية بين مشكلات عامة وأخرى شخصية، في مدارات متنوعة مجتمعيًّا، ودينيًّا، وسياسيًّا، حيث الإحباطات والانكسارات والانتكاسات الخاصة والعامة التي يعاني منها الشاعر كل وقت وحين فيخرج انفعاله في صراخ علَّ صوته يصل إلى أحدهم، ويظل يعدو ويصرخ مُجابهًا أوهامه، وما أصدق قول الشاعر العباسي “الشريف المرتضي” (ت436هـ):
كلُّ الرجالِ إذا لم يخشعوا طمعًا — ولم تكدرْهمُ الآمالُ أحرارُ
فالشاعر الرجل الحر هو من لم يخشع طمعًا في سلطة، أو رغبة من سلطة!
وهذا الشاعر “ابن معتوق الموسوي” (ت1087هـ) – العثماني الزمن! – ينتقل بنا نقلة جديدة طريفة في مكانة الأديب ووظيفته حين يقول:
عتبى على هذا الزمـان مطـول — يفضي إلى الإطناب شرح بيـانه
هيهـات أن ألقاه وهو مسالـمي — إن الأديب الحر حرب زمـانـه
فتلك صرخة ثائرة، تصف الأديب بصفة واحدة، هي الحرية، وتقرر للأديب وظيفة واحدة، بهذه العبارة البليغة: “حرب زمانه”، إننا أمام نفحة فكرية ورؤية عميقة جديدة لرسالة الشاعر العربي، ودعوة إلى التزامه برسالة في الدفاع عن المبادئ الإنسانية، وأرى هذه العبارة من أعمق وآصل العبارات التراثية في تناول قضية حرية الإبداع الأدبي..
وها هو ذا أمير الشعراء “شوقي” – مَن لُقِّب بشاعر السلطة، وشاعر البلاط، وشاعر القصر! – يصور هذه الثنائية (الحرية والسلطة)، بقوله:
وإذا سبى الفردُ المُسلَّطُ مجلسًا — ألفيتَ أحرارَ الرجالِ عبيدا
ورأيتَ في صدرِ النَّدِيِّ مُنوَّمًا — في عصبةٍ يتحركون رُقودا
ليعلن عن أن حرية الشاعر تكون منقوصة، في ظل أنظمة فردية متسلطة، تسكن المتحركين، وتسكت الناطقين، وتقهر الثائرين، وتفرض الصوت الواحد، والرأي الواحد!
يقول الأستاذ الأديب “محمد حسين هيكل” (ت1956م): “أما أن يحارب البغاة القلم وحرية أربابه فلهم في ذلك كل العذر؛ فحرية القلم هي المظهر الأسمى لحرية الإنسان في أسمى صورها ومظاهرها، وحرية القلم إنما تكون حيث يمسك القلم ربٌّ من أربابه لا عامل من عُماله، ربٌّ تؤتيه الطبيعة من قوة الخلق والإنشاء ما لا سبيل إليه إلا في جو الحرية المطلقة، وتدفعه ليخلق هذه الحرية حوله خلقًا، ولو أُلقي به في غيابات السجون، بل تدفع ذكراه لخلق هذه الحرية إذا هو غُيّب بين صفائح القبور”. وما أجمل تحديده هذه الثنائية أرباب القلم، وعمال القلم!
وهذا ما يفسره داعية العصر الأستاذ العلامة الشيخ “محمد الغزالي” (ت1996م) قائلاً: “وحرية الرأي هي حارسة العدالة في الشعب، والسياج الذي يكفّ الحاكم أن يستبد بأمور الناس، ولا قيام لحكم الطاغية إلا على الأذهان الممسوخة والأفكار الراكدة البلهاء، والحجر على ذوي الرأي أن ينظروا إلى الأمور إلا من الزاوية التي يراها لهم الطاغية، وقد أدرك فرعون مِصْر قديماً تلك الحقيقة فأعلن إلغاء حرية الرأي بقوله: { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].أي أنه اعتزم تعطيل ملَكة الرأي فيهم، فلا يسمح أن يكون لهم رأي من الأمور غير ما يرى هو فيها، وذلك من مسخ المواهب وتغيير خلق الله”.
ولا يظُنَّن ظانٌّ أن تلك الشكايات الباكية من قبل الشعراء المطحونين المنكسرين مسلوبي الحرية خاصة بالأسلاف، كلا إنها ما زالت ديدن الشعراء إلى الآن، فهذا أستاذي الدكتور “محمود علي السمان” -رحمه الله – يبدع بكائية على حال الشعر في عصرنا، بعنوان “أعيدوا مملكة الشعر” فيقول:
أعيدوا لنا بالشعر مملكة الشعر — فنحن على شوق أحرّ من الجمرِ
لقد صوّحت يا قوم للشعر أيكةٌ — بلابلها كانت تغني الهوى العذري
وقد أجدبت يا قوم للشعر جنة — وقد كانت الأنهار من تحتها تجري
وقد أقفرت يا قوم للشعر ساحة — ولم تك يوما ساحة الشعر بالقفر
وقد غربت شمس وغاضت بشاشةٌ — وضاع شباب الشعر في موكب الدهر
فهيّا أقيموا دولة الشعر إنها — تقوم على ذا الحب والحق والخير
حكومتها بالعدل تسعد شعبها — ولو أنها تجري على النهي والأمر
وهكذا نجد أنفسنا أمام زفرة شاكية، مُرَّ الشكوى، على الحال التي آل إليها فن العربية الأول، من شاعر معاصر كبير له باع طويل في دنيا الإبداع، وفي الإحساس بالظروف والمؤثرات التي نمرّ بها في عصرنا؛ فقد طغت فيه الصورة المسموعة والمرئية والمقروءة على الكلمة الشاعرة المحسوسة، التي لا تخرج إلا بعد معاناة عظيمة، لا يعرف شدتها إلا المبدعون!
وعندما نقرأ مجمل الوثائق الأزهرية ونربطها بأحاديث شيخنا الأكبر الدكتور “أحمد الطيب” حفظه الله، نجد أنها تدعو إلى أن الإبداع الأدبي ينبغي أن يكون حرًّا حرية مسؤولة منضبطة، فيتسم بجملةٍ من المبادئ والضّوابط الحاكمة لها في ضوء اللحظة التاريخية الراهنة، تحافظ على جوهر التوافق المجتمعي، وترعى الصالح العام في مرحلة التحول الديموقراطي؛ حتى تنتقل الأمّة إلى بناء مؤسساتها الدّستورية بسلامٍ واعتدال وتوفيقٍ من الله تعالى؛ ففي وثيقة الأزهر للحريات تقرير أن “حرية الرأي هي أم الحريات كلها، ولا يمكن أن تتجلى سوى في التعبير عنه بمختلف وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإنتاج فني وتواصل رقمي، وهي مظهر الحريات الاجتماعية التي تتجاوز الأفراد لتشمل غيرهم في تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، كما تشمل حرية الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والرقمي، وحرية الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي، ومن ثم فهي جوهر الحريات العامة، ولا بد أن تكون مكفولة بالنصوص الدستورية لتسمو على القوانين العادية القابلة للتغيير”. وكنت أتمنى أن ينصّ على الأجناس الشعرية أيضًا بجوار الأجناس النثرية والفنية!
وهذه الحرية جوهرية في البحث العلمي أيضًا، حيث “أصبح العلم مصدر السلاح والرخاء والتقدم، وأصبح البحث العلمي الحر مناط نهضة التعليم وسيادة الفكر العلمي وازدهار مراكز الإنتاج إذ تخصص لها الميزانيات الضخمة، وتتشكل لها فرق العمل وتوضع لها المشروعات الكبرى، مما يتطلب ضمان أعلى سقف لحرية البحث العلمي والإنساني…”.
وقد أشارت الوثيقة إلى أن هذه الحرية في التعبير والإبداع تراعي المقدسات والثوابت؛ فمن الضروري أن ننبّه إلى وجوب احترام المعتقدات والشعائر الدينية وعدم المساس بها بما فيه ذلك من خطورة على النسيج الاجتماعي والأمن القومي. فليس من حق أحد أن يثير الفتن الطائفية أو النعرات المذهبية باسم حرية التعبير، وإن كان حق الاجتهاد بالرأي العلمي المقترن بالدليل، وفي الأوساط المتخصصة، والبعيد عن الإثارة مكفولاً، كما سبق القول في حرية البحث العلمي. كما يعلن المجتمعون أن حرية الرأي والتعبير هي المظهر الحقيقي للديموقراطية، ويدعون إلى تنشئة الأجيال الجديدة وتربيتها على ثقافة الحرية وحق الاختلاف واحترام الآخرين، ويهيبون بالعاملين في مجال الخطاب الديني والإعلامي مراعاة هذا البعد المهم في ممارساتهم، وتوخّي الحكمة في تكوين رأي عام يتسم بالتسامح وسعة الأفق ويحتكم للحوار ونبذ التعصب، وينبغي لتحقيق ذلك استحضار التقاليد الحضارية للفكر الإسلامي الرشيد الذي كان يقـــول فيه المجتهد: “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، ومن ثم فلا سبيل لتحصين حرية الرأي سوى مقارعة الحجة بالحجة طبقًا لآداب الحــــوار، وما اســـتـقرَّت عليه الأعراف الحضارية في المجتمعات الراقيــة؛ فالأديب حر ما لم يضرّ دينًا أو وطنًا أو مجتمعًا، بالدعوة إلى فتنة أو تعصب أو استعلاء أو عنف أو إرهاب أو خروج على عقيدة أو انتقاص لرمز من رموز الأديان السماوية! والأدب المتحرر الذي لا ضابط له أو فيه، ولا مسؤولية داخلية عند مبدعه.. هو الذي يحدث هذه القلاقل بسبب تعرضه للثوابت والمقدسات والشعائر الدينية!
وقرّرت الوثائق الأزهرية وجود الحرية في الأدب بتراثنا العتيق؛ فقد “تميزت اللغة العربية بثرائها الأدبي وبلاغتها المشهودة، حتى جــاء القرآن الكريم في الذروة من البلاغة والإعجاز، فزاد من جمالها وأبرز عبقريتها، وتغذَّت منه فنون الشعر والنثر والحكمة، وانطلقت مواهب الشعراء والكتّاب – من جميع الأجناس التي دانت بالإسلام ونطقت بالعربية – تبدع في جميع الفنون بحرية على مرّ العصور دون حرج، بل إن العلماء القائمين على الثقافة العربية والإسلامية من شيوخ وأئمة كانوا هم رواة الشعر والقصّ بجميع أشكاله”.
وأشارت الوثائق الأزهرية إلى مرجعيات أو قواعد أساسية ثلاث في حرية الإبداع، تحكم وتبيّن حدود هذه الحرية، هي: “قابلية المجتمع من ناحية، وقدرته على استيعاب عناصر التراث والتجديد في الإبداع الأدبي والفني من ناحية أخرى، مع الاحتكام لرأي الخبراء والنقاد والعارفين بهذه الفنون وعدم التعرض لها ما لم تمسّ المشاعر الدينية أو تؤذ القيم المجتمعية”.
وهذا الشرط الثالث (الاحتكام لرأي الخبراء والنقد والعارفين بالفنون) يحمي من كثير المشكلات قبل وقوعها، ويحلّها إن وقعت؛ فما كانت الفتن والقلاقل في مجتمعنا بسبب الخلاف حول عمل أدبي إلا من خلال تدخّل غير المتخصصين في الدرس الأدبي والنقدي وإصدارهم أحكامًا اتهامية عنترية تحريضية على العمل، بسبب قراءته السطحية أو الظاهرية أو الأحادية للعمل، وتعمّدهم التأويل المثير للعمل والمُحدِث للفتن والقلاقل!
كم من عمل أدبي أقيمت حوله ضجة صحفية وإعلامية من قبل متشنّجين وموتورين ومتشددين، ولو قُرئ القراءة النقدية المنهجية لما دار حوله خلاف أو شجار، ولما كان سبب فتنن أو قلاقل!
وتعلن الوثائق الأزهرية عن قيمة الإبداع الأدبي والفني؛ ففي وثيقة الحريات نجد تقرير أن: “الإبداع الأدبي والفني يظل من أهم مظاهر ازدهار منظومة الحريات الأساسية وأشدها فعالية في تحريك وعي المجتمع وإثراء وجدانه، وكلما ارتفع سقف الحرية فيه كان ذلك دليلًا على تحضره؛ فالآداب والفنون مرآة لضمائر المجتمعات وثقافة أهلها وتعبير صادق عن ثوابتهم ومتغيراتهم، وصورة ناضرة لطموحاتهم في مستقبل أفضل”، وهذا يقتضي التسليم بمشروعية التعدّد، ورعاية حق الاختلاف، ووجوب مراعاة المبدع مشاعر الآخرين، عبر سلوك المواطنة والشراكة المساواة في جميع الحقوق والواجبات…
مسؤولية الإبداع الأدبي
مسؤولية الإبداع الأدبي تدل على أنه إبداع حر منضبط، ملتزم، يتحمل نتائج كل فكر وخاطر؛ ففي تصريح لشيخنا “أحمد الطيب” ما يفيد أن الأزهر له تاريخٌ بعيدٌ وقريبٌ في (حماية الإبداع المسئول)، وأن وثيقته حول حرية العقيدة والإبداع والفنون والبحث العلمي شاهد ودليل؛ فعقب ثورة الخامس والعشرين من يناير؛ كان من مظاهر الانقسام الحادِّ، الكثيرةِ في ذلك الوقت، محاولاتٌ أثارت الفزع للانقضاض على حرية الرأي والإبداع والفكر، وهنا كان الدورُ الحاسمُ والتاريخي للأزهر الشريف؛ حيث جمع هذا المعهدُ العريقُ في رحابه المثقفين والمفكرين ورؤساء الأحزاب؛ لعبور هذا الانقسام، ووَضْع الوثائق الضامنة للحريات والمؤسِّسة للمواطنة بوصفها مُرتكَزًا لشكل الدولة.
وخلال تلك المرحلة الحاسمة في تاريخ مِصْر، وفى ظِلِّ وجود بعض التيارات المتشدِّدة والرَّافضة لأى إبداع أدبىٍّ أو فنىٍّ، تحت مزاعم أن الشريعة الإسلامية السَّمْحة تُحرِّم هذا النوع من الإبداع، انتفض الأزهر للدفاع عن حرية الإبداع بمختلف مجالاته العلمية والأدبية والفنية؛ فكانت وثيقتُه الثالثة التي حملت عنوان: “وثيقة النظام الأساسي للدولة”، وتضمَّنت تأصيلاً شرعيًّا وفلسفيًّا ودستوريًّا للحريات الأربع: “حرية العقيدة، وحرية البحث العلمي، وحرية الإبداع والفنون، وكل ما يحمى ذلك من حرية الرأي والتعبير عنه”، كما يقرّر فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر؛ فالأزهر يدعم الفن الهادف، ويرفض ما يفسد الأخلاق.. ويؤيد الأعمال التي تظهر القدوة الصَّالحة والشهداء الذين ضحّوا من أجل الوطن والبلاد والعباد!
وفي (وثيقة الأزهر لنبذ العنف) دعوة إلى المسؤولية في الحوار وقبول الآخر، والالتزام بأدب الاختلاف، حيث قول الحُسنَى للناس جميعًا، والمجادلة بالتي هي أحسن للمُخالِف، وذلك في البند الثامن الذي ينص على “الالتِزامُ بأسلوبِ الحوارِ الجادِّ بين أطرافِ الجماعةِ الوطنيَّةِ، وبخاصَّةٍ في ظُروفِ التَّأزُّمِ والخلافِ، والعملُ على تَرْسيخِ ثقافةِ وأدبِ الاختلافِ، واحترامُ التعدُّديَّةِ، والبحثُ عن التَّوافُقِ من أجلِ مَصلحةِ الوطَنِ؛ فالأوطانُ تتَّسِعُ بالتَّسامُحِ وتضيقُ بالتعصُّبِ والانقِسامِ، وهذا الحوار وهذا الالتزام بأدب الاختلاف يحدد الحرية المُتَغَيَّاة في الإبداع الأدبي ويزيدها تفصيلاً”، ويفرق بينها وبين التحرر من ناحية، والتحرير من ناحية، فـ (الحرية) منضبطة مسؤولة، و(التحرر) منفلت، متمرد، عبثي، عشوائي، لا حد له ولا مرجعية له! ودعاة (التحرير المنضبط) هم المحققون للحرية والدعاة إليها!
رقي الإبداع الأدبي
من مقاييس النقد الأدبي العربي التراثي عند أسلافنا ما يُسمّى (شرف المعنى وصحّته)، ويقصد به، ويُـقصـد به عند “أبي علي المرزوقي” في مقدمة شرحه كتاب “الحماسة”: “أحاسنُ المعاني المُـستفادة من الكلام، يفهمها السامع ُ دون عناء، ومطابقة المعنى لمقتضى الحال، وللأغراض التي يتحدّثُ بها المُـتكلم بصدق، فلكلّ مقام ٍ مقال، ومعيار المعنى الصحيح هو العقل الصحيح والفهم الثاقب”.
ورقيُّ الإبداع الأدبي يعني أن صُنَّاع الأدب والفن والدراما يستثمرون مواهبهم في أعمال جادَّة سامية مبنية على الفن الهادف المؤثر، الذي يُنمِّي الوعي ويعزِّز القيم الاجتماعية، وتتحدَّث عن الأخلاق والسلوك، وتتناول الواقع الاجتماعي وجوانبه الإيجابية…
وقد عرضت الوثائق الأزهرية لأنواع الإبداع، من علمي يتصل بالبحث العلمي، وإبداع أدبي وفني، يتمثل في أجنــاس الأدب المختلفة من شعر غنائي ودرامي، وسرد قصصي وروائي، ومسرح وسير ذاتية وفنون بصرية تشكيلية من رسم ونحت وتصوير، وفنون سينمائية وتليفزيونية وموسيقية، وأشكال أخرى مستحدثة في كل هذه الفروع… ودعت الوثائق إلى “أن تستهدف الآداب والفنون في جملتها تنمية الوعي بالواقع، وتنشيط الخيال، وترقية الإحساس الجمالي وتثقيف الحواس الإنسانية وتوسيع مداركها وتعميق خبرة الإنسان بالحياة والمجتمع، كما تقوم بنقـــد هذا المجتمع أحيانًا والحلم بما هو أرقى وأفضل منه، وكلها وظائف سامية تؤدّي في حقيقة الأمر إلى إثراء اللغة والثقافة وتنشيط الخيال وتنمية الفكر، وتلتقي في جوهرها مع الأهداف العليا للأديان السماوية، وتعدّ من أبرز مظاهر الحضارة الإنسانية وأشدها قابلية للتبادل والتأثير والخلود على مر الزمان”….
وجاء في وثيقة الأخُوَّة الإنسانية: “ونَتَوجَّهُ للمُفكِّرينَ والفَلاسِفةِ ورِجالِ الدِّينِ والفَنَّانِينَ والإعلاميِّين والمُبدِعِينَ في كُلِّ مكانٍ ليُعِيدُوا اكتشافَ قِيَمِ السَّلامِ والعَدْلِ والخَيْرِ والجَمالِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المُشتَرَكِ، وليُؤكِّدوا أهميَّتَها كطَوْقِ نَجاةٍ للجَمِيعِ، وليَسعَوْا في نَشْرِ هذه القِيَمِ بينَ الناسِ في كلِّ مكان”، وجاء في إجابة شيخنا عن السؤال الذى يشغل الأذهان دائمًا: ما الفن الذى يشجعه الأزهر الشريف ويسانده؟ قال فضيلته: “الأزهر يُشجِّع، ويساند، بل ويدعم الفنَّ الهادف، الذى يحمل رسالةً يريد من خلالها الارتقاءَ بالمجتمع، وتغيير الواقع السيئ إلى واقعٍ أفضل، ولا شكَّ أن الفن إذا فَقَدَ رسالته يصبح فنًّا مبتذلاً وضارًّا ومدمِّرًا، وقد قلت من قبل: إن الفن يؤثِّر على سلوك الشباب وأخلاقهم بطريقة سلبية بنسبة كبيرة جدًّا، وذكرت حينذاك أن السبب في هذا التأثير السلبىِّ هو أن الأعمال الفنية في السنوات الأخيرة تجعل الشباب غير جادٍّ في التعامل مع الحقائق، وتدعوه إلى فَهْمِها كما يتسنَّى له، أو اللجوء إلى لا أقول تقدير الموقف تقديرًا حقيقيًّا، كما يتطلَّبه على الواقع، وإنَّما يخلع عليه من تصوُّراته ومن ذاته الكثير؛ بحيث يستطيع أن يهرب أو يعتدي أو يُهوِّل من شأنه، وتبقى المشكلة موجودة”.
فشيخنا “الطيب” – حفظه الله – في أحاديثه يدعو إلى فن يحمل رسالة قوية، تعرض للأجيال القادمة جزءًا من تاريخهم الطيب، وحاضرهم الإيجابي، وتُقدِّم لهم نماذج القدوة الصالحة من أبطال هذا الوطن وشهدائه الذين ضحوا من أجله؛ فالفن إذا فقد رسالته يصبح فنًّا مبتذلاً وضارًّا ومدمِّراً.. والدليل الأعمال الفنية التي تحتفى بالنماذج الفاسدة من الأشقياء والبلطجية واللصوص وأصحاب تجارب الثراء المحرَّم والمتحرِّشين ومنتهكي الأعراض في إطار من العنف اللفظي والبدني المقيت…
نريد أعمالاً قيِّمة تجمع بين الإبداع والرسالة، وليست سلبية… هل يُعْقل أن يُدمَّر جيلٌ كاملٌ تحت ذريعة الحفاظ على اللَّمْسة الإبداعية؟ هل هذه وطنية؟ أو هل هذه مسؤولية؟ وأيُّ نوعٍ من أنواع الالتزام الخُلُقيِ أو الدينيِّ أو الوطنيِّ هذا؟ نطالب بضرورة التوقُّف أمام هذا النوع من الفن الضارِّ الذي يُفْرَضُ على المجتمع، وبالحدِّ منه. ولذلك حين نطالب بأن يعود الفنُّ لرسالته الهادفة فهذا يَنْبُعُ من إدراكنا أهميَّة هذه الرِّسالة، ومدى تأثيرها في المجتمع… إننا ونحن نؤكِّد رفضنا هذه الأعمال التي تُفْسِدُ الأخلاق نؤكِّد دَعْمَ كلِّ عملٍ فنىٍّ هادفٍ، وصاحبِ رسالة، ويُسْهِم في رفع وَعْى الشباب بقضايا وطنهم ومجتمعاتهم، وندعو كل صُنَّاع الدراما إلى أن يحذوا هذا الحَذْو، وأن يستثمروا نجاح الأعمال الجادَّة التي أثبتت أن الجمهور يُقْبِل على الفن الهادف ويتأثَّر به حال توافره.
فما أحوجنا الآن إلى اعتماد هذه الرؤى العميقة والمتحضرة لقيمة الكلمة وصوابها! ونشر هذه الرؤى نشرًا علميا وإعلاميا في خطاباتنا المختلفة: دعوية وسياسية واجتماعية وفلسفية وقانونية وتربوية!

للكلمة مسؤولية تاريخية في كشف أكاذيب الصهيونية..
قراءة في تاريخ “الكلمة” عبر العصور
في البدء كانت الكلمة، فلقد خلق الله السموات والأرض بكلمة، وخلق آدم عليه السلام بكلمة، وخلق عيسى عليه السلام بكلمة، وأوحى الله إلى أنبيائه بالكلمة، وفضل الله الإنسان على سائر مخلوقاته بالكلمة، يقول تعالى: ” الرَّحْمَٰنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ” (سورة الرحمان، الآية: 1 إلى 4)، وجعل الله على لسان رسوله شطر البر الذي هو جماع الخير، الكلام اللين، فقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : “البر شيء هين: وجه طليق وكلام لين”، ومن هنا فقد اكتسبَت الكلمة أهميتها ونالت شرفها، وإذا تخلّت الكلمة عن شرفها تسقط الأخلاق في بؤر التفسّخ، ويسود الكذب والنفاق والظلم.. ويختل ميزان المجتمع فيفقد أصالته وهويّته.
فالكلمة ذات أهمية عظمى في الأديان وبخاصة في خاتم الأديان والمهيمن عليها وهو الإسلام، الذي نفى رسوله الكريم عن المؤمن أن يقول متعمّدا كلاما مخالفا للحقيقة ومجانفا للصواب، وهو يعلم، فحين سئل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: هل يكون المؤمن كذابا؟ قال: لا. وأجاز أن يكون جبانا أو بخيلا وهي صفات غير مستحبّة ولكنها قد تغلب على المسلم فيوصف بها ولا ينتفي إيمانه.
والكلمة تفرّق بين الكفر والإيمان، فقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش أن يقولوا كلمة ينالون بها خيرَي الدنيا والآخرة وهي كلمة التوحيد ويملكون بها العرب والعجم، فأبوا واستكبروا، كما طلب من عمه “أبي طالب” وهو على فراش الموت أن يقول الكلمة نفسها ليجادل بها الله عنه يوم القيامة، ولكنه أبى كذلك حتى لا يعيره قومه.
والكلمة مسؤولية، ولها تبعاتها، ولو تأمّلنا في صلح الحديبية لوجدنا “سهيل بن عمرو” مفاوض قريش يرفض أن يبرم الصلح بين قريش ومحمد رسول الله، ويصر على أن يكتب بدلا من رسول الله: محمد بن عبد الله، وهي “كلمة”، ولكن “سهيل بن عمرو” يعرف قيمتها، قال: لو كنا نعرف أنك رسول الله ما قاتلناك. فالكلمة إذا تحمل من المعاني ما يجعل لها قيمة كبيرة، ولهذا وصفها الله بـ “الطيبة”، كما وصفها بـ “الخبيثة”، وضرب لكل منهما المثل في القرآن الكريم.
والكلمة قبل العمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم. فالكلمة هي قاعدة البناء الصلبة التي تقوم عليها استقامة الإنسان، ولذلك فهي مسؤولية كبرى، وإذا تجرّدت الكلمة من المسؤولية تصبح سلاحا هدّاما للإنسان والأوطان.. ولا بد من مطابقة القول للعمل حتى يصح إيمان المرء، فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولهذا ذم الله المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
وقديما قالت العرب في أمثالها: “رُبَّ كلمة قالت لصاحبها: دعني”، فالكلمة الخبيثة قد تقيم حربا وتفني خلقا وتخرب عامرا، والكلمة الطيبة قد تسلّ من الصدر سخيمة وتزيل الشحناء والبغضاء من النفوس، ولهذا قال الله تعالى لسيدنا موسى وسيدنا هارون حين أرسلهما إلى فرعون الطاغية المتكبر الذي ادّعى الألوهية، فقال: ” فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ” (سورة طه، الآية: 44).
وقد كادت الحرب تشتعل بين قبيلتي الأوس والخزج بسبب أبيات من الشعر ألقاها يهودي بينهم لتذكرهم بما كان بينهم في الجاهلية من أيام وحروب وثارات، فقالت الأوس: “وا أوساه”، وقالت الخزرج: “وا خزرجاه”، ورفعوا سيوفهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال: أَبِدعوى الجاهلية تدعون وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة.
وظلت للكلمة منزلتها في الأدب العالمي عموما والأدب العربي خصوصا، والحديث عن شرف الكلمة ومسؤوليتها في عصرنا الراهن، في مجالات الكتابة والإبداع.. وفي مواقع التواصل الاجتماعي حديث ذو شجون!!!
وشرف الكلمة هو هو لم يتغيّر بين الماضي والحاضر ولن يتغير في المستقبل، وستظل للكلمة أهميتها في مختلف المجالات ذات الارتباط بالحياة اليومية وبالثقافة والأدب.
ونحن مسؤولون عن الكلمة التي نقولها أو نكتبها وسنُحاسب عليها أمام الله وضمائرنا وأجيالنا، ولهذا فنحن في حاجة إلى ما يُمكن تسميته “وعي الكلمة”.
شرف الكلمة ومكانتها في القرآن الكريم
الكلمة هي مفتاح التعبير عن الأفكار والمشاعر، وهي أداة التواصل بين البشر، ولها تأثير كبير على الأفراد والمجتمعات. وقد منح الإسلام الكلمة شرفًا عظيمًا ومكانة رفيعة، وركّز القرآن الكريم على أهمية الكلمة وتأثيرها في الحياة الدينية والاجتماعية والأخلاقية.
مكانة الكلمة في القرآن الكريم
القرآن الكريم هو كتاب الله الذي نزل بالكلمة، وبه جاءت الرسالة الإلهية لتوجيه البشرية. وقد وصف الله تعالى القرآن بـ “الكلمة الطيبة”، قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ” (إبراهيم: 24). هذه الآية تعبر عن جمال الكلمة الطيبة وأثرها الطيب في النفس والمجتمع.
شرف الكلمة الطيبة
الكلمة الطيبة هي وسيلة الدعوة إلى الله، وسبيل إصلاح النفوس وهداية القلوب، وقد أمر الله نبيه الكريم بأن يستخدم الكلمة الحسنة في دعوته، فقال: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ” (النحل: 125). كما حثَّ الإسلام على اختيار الكلمات التي تسهم في نشر المحبة والسلام، فقال الله تعالى: “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا” (البقرة: 83).
خطر الكلمة السيئة
وعلى النقيض، حذّر القرآن من الكلمة السيئة، لما لها من آثار مدمِّرة على الفرد والمجتمع، فالكلمة الخبيثة تُشبّه بالشجرة الخبيثة التي تقتلع من فوق الأرض، كما قال تعالى: “وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ” (إبراهيم: 26).
الكلمة وأثرها في المسؤولية
جعل الإسلام الإنسان مسؤولًا عن كلماته، فالكلمة ليست مجرد حروف تُقال، بل هي أمانة. يقول الله تعالى: “مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” (ق: 18).
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم خطورة الكلمة، فقال: “إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم” (رواه البخاري).
فالكلمة في الإسلام ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي مسؤولية عظيمة وأمانة تُسأل عنها يوم القيامة. فالكلمة الطيبة تبني وتصلح، والكلمة السيئة تهدم وتفسد. لذا، ينبغي على كل مسلم أن يحسن اختيار كلماته، وأن يسعى دائمًا لأن تكون كلماته مصدر خير ونفع للناس، مستنيرًا بهدي القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
مكانة الكلمة في التراث العربي
للكلمة مكانة عظيمة في التراث العربي، حيث تُعدّ أساسًا للبلاغة والفصاحة التي ميّزت العرب منذ القدم، وقد عكست الثقافة العربية اهتمامًا بالغًا بالكلمة، سواء في الشعر أو النثر أو الخطابة، إذ شكلت الكلمة أداة للتعبير عن القيم والمشاعر والمبادئ.
أهمية الكلمة في الأدب العربي
برزت الكلمة في الأدب العربي كرمز للإبداع والجمال، فقد تفنّن العرب في نظم الشعر الذي كان يُعدّ ديوانهم ومصدر فخرهم. وتفنّنوا في الخطابة التي كانت وسيلة للإقناع والتأثير، ولم يكن الإبداع الأدبي مجرد ترف، بل كان وسيلة لتسجيل التاريخ، ونقل القيم، وتعزيز الانتماء.
قال “الجاحظ” في كتابه “البيان والتبيين”: “المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك”، وهذا يظهر مدى الاهتمام بالكلمة كمظهر من مظاهر الجمال اللغوي.
الكلمة في الحكمة والمثل
كانت الكلمة العربية مرآةً للحكمة الشعبية والخبرات المتراكمة، فتجلّت في الأمثال التي اختزلت القيم والمعاني في عبارات موجزة بليغة، مثل الحكمة السابقة: “رُبَّ كلمة قالت لصاحبها دعني”، والمثل الشعبي قريب الصياغة من الفصحى: “لسانك حصانك إنْ صُنته صانك وإن هنته هانك.” هذه الأمثال تعكس دور الكلمة في بناء العلاقات أو هدمها، كما تعبّر عن مسؤولية الإنسان تجاه ما ينطق به.
مكانة الكلمة في الدين والفكر
اهتم الفلاسفة والمفكرون العرب بالكلمة باعتبارها وسيلة لتوضيح الفكر ونقل المعرفة. وظهر ذلك في مؤلَّفات الكندي والفارابي وابن رشد وغيرهم، حيث عَدّوا اللغة وسيلة لفهم العالم وترجمته، فاكتسبت الكلمة في التراث الإسلامي مكانةً خاصة، إذ ورد في الحديث الشريف: “الكلمة الطيبة صدقة”، وهذا يعكس تقدير الإسلام للكلمة وتأثيرها الإيجابي في النفوس والمجتمعات.
الكلمة والكرامة الشخصية
في التراث العربي، كانت الكلمة تعبيرًا عن الكرامة والشرف، فقد كانت العرب تقول: “الرجال مخابر لا مناظر”، وكان الالتزام بالوعد والوفاء بالكلمة دليلًا على المروءة والشهامة.
فالكلمة في التراث العربي ليست مجرّد أصوات تُنطق، بل هي روح الثقافة ومفتاح الإبداع ومرآة الشخصية، لقد حملت معاني الهوية والانتماء، وكانت وسيلة لحفظ الموروث الثقافي، وفي ظل عصرنا الحالي، ينبغي أن نتأمّل هذا التراث ونستلهم منه كيفية استخدام الكلمة بوعي ومسؤولية لتعزيز القيم النبيلة وبناء المستقبل.
الكلمة وأهميتها في الشعر العربي عبر العصور
الشعر هو ديوان العرب وسِجِّل حضارتهم وثقافتهم، والكلمة هي أساس الشعر وأداته الرئيسية. وعبر العصور كانت الكلمة محركًا للإبداع الشعري، ومصدرًا للتعبير عن القيم والمشاعر والتجارب. وتطوَّرت مكانة الكلمة في الشعر العربي من الجاهلية إلى العصر الحديث، متأثِّرة بالظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية التي مرت بها الأمة العربية.
الكلمة في الشعر الجاهلي
كانت الكلمة في الشعر الجاهلي تُعدّ رمزًا للفخر والشرف، وقد تميّزت بفصاحتها ودقّتها في التعبير عن مشاعر الفروسية والقبيلة، واستخدم الشعراء الجاهليون الكلمات لتجسيد البيئة المحيطة بهم، مثل الصحراء والخيول والغزو، في صور شعرية رائعة.
وعلى سبيل المثال، يقول “امرؤ القيس”:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ — بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
الكلمات هنا تحمل دلالات عميقة للحب والفقد، وتعكس ارتباط الشاعر ببيئته وعاطفته.
الكلمة في الشعر الإسلامي
مع ظهور الإسلام، تغيَّرت طبيعة الكلمة في الشعر، وأصبحت وسيلة لنشر القيم الدينية والأخلاقية، حيث بدأ الشعراء يركزون على معاني التوحيد والحكمة، وظهرت أشعار تدافع عن الإسلام وتنقل رسالة الدعوة. على سبيل المثال، يقول “حسان بن ثابت” مادحا النبي صلى الله عليه وسلم:
وأحسن منك لم ترَ قطُّ عيني — وأجمل منك لم تلد النساءُ
خلقت مُبرّأ من كل عيب — كأنك قد خلقت كما تشاء
وهنا تكتسب الكلمة طابعًا روحيًا يعكس عظمة الرسالة الإسلامية وشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
الكلمة في الشعر العباسي
شهد العصر العباسي ازدهارًا ثقافيًا انعكس على الشعر، حيث أصبحت الكلمة أكثر تأنّقًا ودقة، وبرع الشعراء في اختيار ألفاظهم، وظهرت معانٍ فلسفية وعاطفية عميقة. مثال ذلك قول “المتنبي”:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ — فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ
فطعم الموت في أمر حقير — كطعم الموت في أمر عظيم
فالكلمة هنا تحمل معاني الطموح والعزيمة، وتعكس عمق الفكر العباسي وتأثير الثقافة في الشعر.
الكلمة في الشعر الأندلسي
تميّز الشعر الأندلسي برقة الكلمة وارتباطها بالطبيعة والجمال، وانعكس تأثير البيئة الأندلسية الخصبة في استخدام ألفاظ ناعمة ومعبرة عن الحب والسلام. يقول “ابن زيدون” في وصف الحب:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا — وناب عن طيب لُقْيانا تجافينا
فالكلمة هنا رقيقة وحنونة، تعكس شوق المحب ولوعة الفراق.
الكلمة في الشعر الحديث
مع دخول العصر الحديث، أصبحت الكلمة في الشعر أكثر تحرّرًا وارتباطًا بالقضايا الاجتماعية والسياسية، واستخدم الشعراء الكلمات للتعبير عن أحلام الشعوب ومعاناتهم، ومثال ذلك قول “محمود درويش”: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، هنا تُوظَّف الكلمة في الشعر كأداة للنضال والأمل، مما يعكس تطور دور الشعر من التعبير الفردي إلى التعبير الجماعي.
فالكلمة في الشعر العربي ليست مجرد أداة بلاغية، بل هي جوهر التعبير الشعري ووسيلة لنقل المشاعر والأفكار، فمن الجاهلية إلى العصر الحديث، احتفظت الكلمة بأهميتها، لكنها تطورت في معانيها وأساليب استخدامها، ويبقى الشعر العربي شاهدًا على قدرة الكلمة على تجاوز الزمن، وعلى ارتباطها الوثيق بهوية العرب وثقافتهم.
الكلمة ودورها في الدفاع عن المدن والممالك الأندلسية الزائلة ضد العدو النصراني
لعبت الكلمة دورًا حاسمًا في تاريخ الأندلس، ليس فقط كأداة للتعبير عن الهوية الثقافية والحضارية، بل كوسيلة للدفاع عن المدن والممالك الأندلسية في وجه العدو النصراني. وفي فترة سقوط الأندلس، كانت الكلمة وسيلة لاستنهاض الهمم، وحشد الصفوف، وبثّ روح المقاومة بين الناس. لقد أصبح الشعر والخطابة والأدب أدوات لنقل معاناة الأندلسيين، والدعوة إلى الوحدة، والتحذير من خطر العدو الذي سعى لإبادة حضارة استمرت لقرون.
الكلمة كوسيلة لاستنهاض المقاومة
مع بدء سقوط المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى، برزت الكلمة كوسيلة لتحفيز الناس على المقاومة، واستخدم الأدباء والشعراء كلماتهم لنقل المشاعر الجياشة وتعزيز الروح القتالية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما قاله الشاعر الأندلسي “أبو البقاء الرندي” في رثاء الأندلس:
لكل شيء إذا ما تم نقصانُ — فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدتها دول — من سره زمن ساءته أزمان
هذه الكلمات كانت بمثابة صرخة في وجه الغزو النصراني، وتحذير من التخاذل والتفرق الذي أدى إلى سقوط المدن والممالك.
دور الخطابة في توحيد الصفوف
كان للخطباء في المساجد دور كبير في نشر الوعي وتحفيز الناس على مواجهة العدو النصراني، فاستخدموا خطبهم لتذكير الناس بأمجاد الأندلس، وحثّهم على الصمود في وجه الأعداء. ولم تكن الخطابة مجرد كلمات عابرة، بل كانت نداءً للوحدة، خاصةً في مواجهة الانقسامات السياسية بين ملوك الطوائف التي أضعفت الأندلس وجعلتها فريسة سهلة للأعداء.
الكلمة في الشعر الأندلسي المقاوم
تميّز الشعر الأندلسي في تلك الفترة بروح المقاومة، حيث استخدم الشعراء كلماتهم لتوثيق المآسي التي حلت بالمدن الأندلسية، والدعوة إلى القتال. وشعر الاستنجاد والاستصراخ ضرب من الشعر عرف في الأندلس دون غيرها من البيئات الإسلامية فلم يحدث أن دخل المسلمون بلدا وطردوا منه في غير الأندلس وصقلية، ولهذا شاع رثاء المدن والممالك الزائلة وكتبت في رسائل علمية.
الكلمة كتوثيق للمعاناة
إلى جانب دور الكلمة في التحريض والمقاومة، كانت أداة لتوثيق معاناة الأندلسيين، فالأدب الأندلسي في فترة السقوط وثّق المآسي التي حلت بالمسلمين، من تهجير وقتل واضطهاد، وهذا التوثيق كان بمثابة شهادة على الفظائع التي ارتكبتها القوى النصرانية، وأسهم في حفظ ذاكرة الأندلس للأجيال القادمة.
دور الكلمة في حفظ الهوية
بعد سقوط الأندلس بالكامل، لعبت الكلمة دورًا حاسمًا في الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية للمسلمين الذين بقوا تحت الحكم النصراني. كانت الكلمات تُتداول سرًّا في أشعار وأناشيد وأدعية، تحمل معاني التمسك بالدين واللغة والتاريخ، على الرغم من محاولات التنصير القسري والقمع الثقافي، حتى إنه بعد مائة عام من سقوط الأندلس قامت ثورة إسلامية في جبال “البشرات” خارج غرناطة على ظلم النصارى للمسلمين واضطهادهم وعدم تنفيذ شيء من بنود اتفاقية تسليم غرناطة التي عقدها أو “عبد الله الصغير” مع الملكين الكاثوليكيين: فرناندو وإيزابيلا.
في تاريخ الأندلس، كانت الكلمة جنديًّا لا يقلّ أهمية عن السيف، فهي التي حفّزت الناس على المقاومة، وحفظت الهوية، ووثقت المأساة. وبرغم سقوط الممالك الأندلسية، إلا أنَّ الكلمة بقيت حية تحمل صوت الأندلس المندثر، وتذكرنا بقيمة الوحدة والتماسك في مواجهة الأعداء.
إن دور الكلمة في الدفاع عن الأندلس يظل درسًا خالدًا في أهمية الأدب والفكر في مواجهة التحديات الكبرى.
أهمية الكلمة في جهاد الأعداء ودورها في طرد الاحتلال من البلاد العربية
للكلمة تأثيرٌ عظيمٌ في جهاد الأعداء ومقاومة الاحتلال، فهي السلاح الذي يحمل الفكر، ويشعل الحماسة، ويزرع الأمل في النفوس.
وفي العصر الحديث، لعبت الكلمة دورًا محوريًا في تحفيز الشعوب العربية على مواجهة الاحتلال ومقاومته حتى نيل الاستقلال، عبر المقالات والخطب والشعر والأدب، وأصبحت الكلمة أداةً لتوعية الجماهير، وتوحيد الصفوف، وتعزيز روح الكفاح ضد الظلم والاستعمار.
الكلمة كسلاح معنوي في مواجهة الاحتلال
أدركت الشعوب العربية أن الكلمة يمكن أن تكون سلاحًا فعّالًا في مواجهة قوة السلاح المادي، فالكتّاب والشعراء والقادة استخدموا الكلمات لتحفيز الشعوب على النضال، وكشف جرائم الاحتلال، وبث الوعي بالقضية الوطنية.
ومن أمثلة ذلك، شعر الأمير عبد القادر الجزائري، وشعر حافظ وشوقي ومن قبلهما البارودي وعبد الله النديم، ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وغيرهم.
وكذلك الشعراء في سائر الدول العربية كالعراق وسوريا واليمن وفلسطين، وعندنا الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، والشاعر محمود درويش الذي استخدم كلماته لنقل معاناة الشعب الفلسطيني، فقال: “سجِّل! أنا عربي”.
هذه الكلمات البسيطة كانت صرخةً في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت رمزًا للثبات والتمسك بالهوية الوطنية.
الكلمة ودورها في توحيد الصفوف
لعبت الكلمة دورًا كبيرًا في توحيد الصفوف لمواجهة الاحتلال، فاستخدم القادة والمفكرون الخطب والمقالات والمنشورات لإذكاء روح الوحدة بين الشعوب المختلفة، ففي الجزائر، كان دور الصحافة والشعراء بارزًا في ثورة التحرير، مثل كلمات مفدي زكريا في النشيد الوطني الجزائري:
نحن ثرنا فحياة أو ممات — وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
هذه الكلمات لم تكن مجرد شعارات، بل كانت وقودًا ألهم المجاهدين للاستمرار في المقاومة.
الكلمة كوسيلة لفضح الاحتلال
في العصر الحديث، استخدمت الكلمة أيضًا لفضح ممارسات الاحتلال أمام العالم، فالصحافة والإعلام لعبا دورًا كبيرًا في نقل صورة المعاناة وكشف الانتهاكات، مما أسهم في حشد الدعم الدولي للقضايا العربية.
وعلى سبيل المثال، نجحت الكلمة في جذب أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية من خلال المقالات والكتب التي تحدثت عن معاناة الشعب الفلسطيني، مثل كتابات “إدوارد سعيد”.
الكلمة والتحفيز على الصمود والمقاومة
في مواجهة الاحتلال، لم تكن الكلمة مجرد وسيلة للتعبير، بل كانت دعوةً للصمود والمقاومة، ومن أبرز الأمثلة، كلمات “أحمد شوقي” في دعوته للنضال ضد الاستعمار الفرنسي في سوريا:
وللحرية الحمراء بابٌ — بكل يدٍ مضرجة يُدقُّ
هذه الكلمات كانت نداءً واضحًا للتضحية من أجل نيل الحرية.
الكلمة في العصر الرقمي
مع ظهور وسائل الإعلام الرقمي ومنصّات التواصل الاجتماعي، أصبحت الكلمة أكثر تأثيرًا وسرعة في الوصول إلى الجماهير، فاليوم، تُستخدم الكلمة لنقل الأحداث، وحشد الدعم الشعبي، وفضح جرائم الاحتلال بشكلٍ لم يكن ممكنًا في الماضي.
الكلمة سلاح معنوي قوي في مواجهة الأعداء، فهي تبني العزيمة، وتوحد الصفوف، وتفضح الظلم.
وفي العصر الحديث، لم تفقد الكلمة قيمتها، بل زادت قوّتها بفضل وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة، ويبقى دور الكلمة في جهاد الأعداء عاملًا رئيسيًّا في تحرير الأوطان وتعزيز روح المقاومة والصمود.
شرف الكلمة وأهميتها في كشف أكاذيب الصهيونية..
الكلمة هي السلاح الذي يملك قوة الحقيقة، وأداة الدفاع عن الحق، ووسيلة مواجهة الظلم والأكاذيب، وفي قضية فلسطين، تلعب الكلمة دورًا محوريًّا في فضح أكاذيب الصهيونية العالمية، وكشف زيف الادعاءات التاريخية التي يروّج لها الكيان الصهيوني لتبرير احتلاله للأرض الفلسطينية.
إنَّ استخدام الكلمة بشرف وصدق، مدعومًا بالحقائق التاريخية والأدلة العلمية، هو واجب أخلاقي وإنساني لإبراز الحقيقة ودحض الادعاءات الباطلة.
أكذوبة الحق التاريخي لليهود في فلسطين
يروّج الكيان الصهيوني لفكرة أن لهم حقًا تاريخيًا في فلسطين استنادًا إلى روايات دينية وتاريخية مزيفة، ويدعون أن فلسطين هي “أرض الميعاد” التي وعد بها الله اليهودَ، متجاهلين الحقائق التاريخية والجغرافية التي تؤكد أن فلسطين كانت وما زالت موطنًا لشعوب متنوعة عبر التاريخ، وأن الوجود اليهودي فيها كان عابرًا وغير مستمر.
والحقيقة التاريخية تؤكد أن الكنعانيين، العرب الأوائل، سكنوا فلسطين قبل آلاف السنين، وأنَّ الوجود اليهودي لم يستمر سوى لفترة قصيرة، ولم يشكل أغلبية سكانية في أيّ فترة تاريخية.
والكلمة هنا تلعب دورًا في استعادة الرواية الصحيحة، ودحض الرواية الصهيونية التي تهدف إلى شرعنة الاحتلال.
شرف الكلمة في مواجهة الأكاذيب الصهيونية
الكلمة الشريفة تعتمد على الحقائق والموضوعية، وهي الأداة الأكثر فعالية في مواجهة الأكاذيب التي تعتمد على التلاعب بالمعلومات. والكُتّاب والمفكرون والصحفيون العرب والمسلمون، إلى جانب الأحرار في العالم، عليهم واجب التصدّي للمزاعم الصهيونية باستخدام الوثائق التاريخية، والشهادات الموثقة، والأبحاث العلمية التي تثبت حقوق الفلسطينيين.
دور الأدب والصحافة في كشف الأكاذيب
لعبت الكلمة المكتوبة والمرئية دورًا كبيرًا في فضح زيف الادعاءات الصهيونية، فالأدب الفلسطيني، مثل أعمال محمود درويش وغسان كنفاني، كان سلاحًا قويًّا في إيصال معاناة الفلسطينيين وكشف جرائم الاحتلال. كتب “غسان كنفاني” في روايته “عائد إلى حيفا”: “ليس المهم أن يموت أحدنا، المهم أن تستمروا.”
هذه الكلمات تحمل رسالة صمود، وتكشف الوجه الحقيقي للاحتلال القائم على القتل والتهجير، كما أنَّ الصحافة العربية والعالمية كانت منصّة لفضح جرائم الاحتلال، مثل المجازر والاعتداءات المستمرة على الشعب الفلسطيني، مما أسهم في تعزيز التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية.
الكلمة في مواجهة الرواية الصهيونية دوليًا
على الصعيد الدولي، أصبحت الكلمة وسيلة فعّالة في مواجهة الرواية الصهيونية التي تسعى لتبرير الاحتلال عبر استخدام وسائل الإعلام العالمية، والمحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة، والمنظمات الحقوقية، هي منصّات يجب استغلالها لنقل الرواية الفلسطينية الحقيقية وكشف زيف الادعاءات الصهيونية.
في هذا السياق، برز دور المفكرين والأكاديميين مثل “إدوارد سعيد”، الذي استخدم الكلمة لكشف تناقضات المشروع الصهيوني، وفضح التحيّز الإعلامي العالمي لصالح الاحتلال.
وكذلك المفكر المصري “جمال حمدان” فيما كتبه عن اليهود أنثروبولوجيًّا، وكُتبه الأخرى المساندة للحق الداحضة للأكاذيب الصهيونية.
والمفكر الإسلامي الدكتور “محمد عمارة” الذي أثخن في جسد الفكرة الصهيونية ودحض فرية الحق التاريخي بما لا يدع مجالا للشك في كتابه عن تاريخ القدس: “القدس الشريف في الدين والتاريخ والأساطير”، الذي طبعه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وقدم هدية على مجلة الأزهر، وكتابه: “إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين”، وفي مقالاته وبرامجه ومناظراته.
ويأتي المفكر المصري الدكتور “عبد الوهاب المسيري” فيدقّ المسمار الأخير في نعش الأكاذيب الصهيونية بموسوعته القيّمة: “اليهود واليهودية والصهيونية” التي تقع في ثمانية مجلدات، والتي استغرقت شطرا كبيرا من حياته واستنفدت ما لديه من مال، فجزاه الله خير الجزاء وجعلها في موازين حسناته، فهي وأمثالها من ضروب الجهاد بالكلمة العلمية الموثقة لا تقلّ خطرا عن الجهاد بالنفس.
أهمية الكلمة في العصر الرقمي
في عصر الإعلام الرقمي، أصبحت الكلمة أكثر تأثيرًا وانتشارًا، فمنصّات التواصل الاجتماعي أضحت أدوات لنقل الحقيقة، وفضح الأكاذيب الصهيونية، وتسليط الضوء على الانتهاكات اليومية التي يمارسها الاحتلال ضد الفلسطينيين.
من خلال الكلمة الرقمية، تمكن الفلسطينيون من كسر الحصار الإعلامي، وإيصال صوتهم للعالم، ممّا ساعد على كسب تعاطف الملايين مع قضيتهم العادلة.
شرف الكلمة يكمن في الصدق والدفاع عن الحق. وفي قضية فلسطين، تتحمل الكلمة مسؤولية تاريخية لكشف أكاذيب الصهيونية، ودحض الادعاءات الباطلة التي تستخدم لتبرير الاحتلال.
إنّ النضال بالكلمة لا يقل أهمية عن النضال بالسلاح، فهو وسيلة لفضح الظلم، وإحياء الوعي بالقضية، وتأكيد أنَّ فلسطين كانت وستبقى أرضًا عربية، مهما حاول المحتل طمس الحقيقة.

الكلمة في ضوء القيم.. أصالة وصدق وأثرٌ دائم
إن الكلمة ليست مجرد أداة للتواصل أو وسيلة للتعبير، بل هي مسؤولية أخلاقية واجتماعية تعكس عمق الإنسانية فينا. على مر العصور، شكلت الكلمة نبضًا أساسيًا في الحياة، وعنوانًا لقيم الشعوب وثقافاتها. من خلالها، تُبنى الحضارات، ويُصنع التغيير، وتُخطّ ملامح المستقبل. لكن في خضمّ التطورات المتسارعة في عالمنا الحديث، كيف يمكن للكلمة أن تظل أصيلة، صادقة، وذات أثرٍ دائم؟
مسؤولية الكلمة في مجالات الكتابة والإبداع
تتبدّى هذه المسؤولية من خلال الأصالة، أي ألّا تسرق أعمال الآخرين وتنسبها إليك، بالإضافة إلى الصدق، أي ألّا تكتب لترضي زعيمًا أو مسؤولًا أو حاكمًا، أو تتزلّف لشخصٍ أو آخر. أن تكون أصيلًا وصادقًا فيما تكتب.
مسؤولية الكلمة في وسائل التواصل الاجتماعي
تتبدّى هذه المسؤولية من خلال الكلمة الناقدة الإصلاحية، أي ألّا تتملّق لصديقٍ أو غيره، بل تقول ما يمليه عليك الضمير والعقل والمنطق، وألّا تخدع أحدًا بلسانك المعسول. قل ما يجب قوله كما ينبغي قوله، دون تملّقٍ أو محاباة، ومن غير عداوةٍ أو مداهنةٍ، بل بإصلاحٍ وقولٍ معروف.
مسؤولية الكلمة في الماضي
في الماضي، حملت مسؤولية الكلمة دلالات أخلاقية، روحية، ودينية. حيث ارتبطت الكلمة بقيمٍ ساميةٍ وغاياتٍ نبيلة. كما كانت الكلمة تُعتبر وسيلة لنقل الحقيقة، ووسيطاً لتحقيق العدل، وأداةً لبناء العلاقات الاجتماعية على أسس متينة. وقد أكّدت النصوص الدينية على أهمية الكلمة ووقعها في حياة الناس، كما جاء في قول الله تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” (سورة إبراهيم، الآية: 24، 25). وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم: “اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة”.
مسؤولية الكلمة في الحاضر
تتبدّى هذه المسؤولية من خلال القول المفيد. ففي عصرنا الحاضر، أي عصر الإنتاج والاستهلاك، أصبحت كثرة الكلام موضة. نحن نتحدث في أيّ شيء، وفي أيّ وقت، وفي أي مكان. لذا، مسؤوليتنا أن ندرك ما نقول وماذا نقول في الزمان والمكان المناسبين.
مسؤولية الكلمة في المستقبل
مع غزو أدوات الذكاء الاصطناعي لعالمنا، ستكون المسؤولية هي تبنّي موقفٍ واضح تجاه القضايا، لأنّ الذكاء الاصطناعي محايد وجامد إلى حدٍّ كبير؛ فهو ذكاء بلا روحٍ أو مشاعر. لذا، المسؤولية في المستقبل هي معرفة الحقّ، وقول كلمة الحقّ، وإظهارها، ومناصرتها، والدفاع عنها، وتوضيحها بهدف التأثير والإقناع.
المحاسبة على الكلمة من خلال نتائجها
نحن نُحاسب على كلماتنا بقدر ما تُحدثه من تأثيرٍ سلبي على الذات، والآخر، والمجتمع. لكن الحساب هنا أخلاقي وليس قانونيًّا؛ بمعنى آخر، لا يوجد قانون يُجرّم الكلمة المجرّدة. وحده القانون الأخلاقي هو الذي يدفعنا إلى مراجعة أنفسنا، والتفكير مليًا في كلماتنا وأساليبنا.
أن نعي الكلمة
لا بدّ للإنسان أن يُكوّن وعيًا بالكلمة. وهذا الوعي يتألف من عناصر عدّة، هي:
1 – نقاط القوة: أي ما ميّزات كلماتي؟
2 – نقاط الضعف: أي ما عيوب كلماتي؟
3 – الفرص: كيف تُبرزني كلماتي بشكلٍ أفضل؟
4 – التحديات: كيف تُبرزني كلماتي بشكلٍ سيّئ؟
5 – الدافع: من أيّ رغبة تنبع كلماتي؟
6 – الغاية: إلى أين أصل بكلمتي؟
اسأل نفسك عن هذه العناصر قبل الكلام؛ هكذا ستعي الكلمة ومسؤوليتها.
إنّ الكلمة شرف وأمانة، وعلينا أن ندرك قوتها وتأثيرها. في عالم مليء بالتحديات، تبقى الكلمة الصادقة والأصيلة عنوانًا للنزاهة ووسيلة للتغيير الإيجابي. نحن بحاجة إلى أن نراجع كلماتنا، أن نفكر مليًّا قبل أن ننطق بها، وأن نضع في اعتبارنا أثرها على أنفسنا وعلى الآخرين. مسؤوليتنا أن نكون صوت الحق، وأن نستخدم كلماتنا لبناء عالم أفضل، مليء بالقيم والمبادئ الإنسانية النبيلة.

تبني وتهدم.. الكلمةُ حياةٌ!
أعزّائي القرّاء، نتحدث اليوم عن أهمية الكلمة في حياتنا، وشرف الكلمة، ومسؤوليتها سواء في القول أو الكتابة، ومدى مسؤولية الكلمة وخطورتها سواء على قائلها وكاتبها أم على المتلقي.. ومن هنا لا بد وأن نلقي الضوء على أهم المسؤوليات المترتبة على الإنسان في بيئته الاجتماعية وأمام الله عز وجل وما تحصده من نتائج إيجابية حين تكون كلماتك كلها خير،
فيقول الله عز وجلّ: “إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ” (سورة فاطر، الآية: 10)، وما يُستدلّ منها هي إن الكلمة الليّنة هي كلمة طيبة وهي التي تداعب قلوب الآخرين، ويبشّرنا الله بأنها تصعد إليه ويستقبلها منك حيث يكتب لك من خلالها الأجر والثواب، وهو كرم الله ورحمة لنا في حياتنا، وفي الآخرة تُسجّل في ميزان الحسنات..
بينما الكلمة الجارحة أو السيّئة التي تقولها أو تكتبها يكون عليك وزرها لأنها لا تحمل الخير ولا تنقل السعادة إلى الآخر، بل وربما تدمّر بها حياته أو توقعه في أتون المشكلة أو تفرّقه عن أسرته أو تحرمه عمله أو تجرح مشاعره.. إذًا، حجم الحالة بحجم نوعها، قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ” (سورة إبراهيم، الآية: 24)، وهي تأكيد من الله حيث شبّه لنا الكلمة الطيبة كالشجرة المثمرة التي ترتفع أغصانها من الأرض إلى السماء.. ما أعظم هذا التشبيه الأنيق، وأخبرنا أن ثباتها في الدنيا التي نعيشها، وفي الآخرة أجرها، فإن الكلمة إن كانت خيرا فخيرها لك وللغير، وإن كانت شرًّا فشرٌّ وتبقى معلّقة بين الأرض والسماء لا تزعزها أعاصير الباطل ولا تحطمها معاول الهدم وطاغوت الملوك مهما علوا في الأرض.. فكلمة الله هي العليا، وكلمة الطغيان هي السفلى، لذا أعطانا الله الهداية لتعبيد طريق الحياة ولأهمية الكلمة وأثرها، وبيّن لنا جزاء الكلمة الطيبة ونتائج الكلمة السيّئة وخطورتها، على حياتنا وعلاقاتنا وشرفنا في بيئتنا الاجتماعية.
وهنا لا بد من تبيان النتائج الصحية للكلمة وتأثيرها على العقل ونستعرض من كتاب الدكتور “أندرو نيو بيرغ” كيف تؤثر الكلمات التي نستخدمها على أنظمتنا العصبية والعقلية إذ إنّ الكلمات ليست مجرد أصوات تُطلق في الهواء، بل هي إشارات تُرسل إلى الدماغ وتُحدِث تغييرات في الكيمياء العصبية وعندما تستخدم كلمات إيجابية يتمّ تحفيز المناطق المسؤولة عن المكافأة في الدماغ مثل النظام اللمبي الذي يفرز هرمونات مثل الدوبالين والسيروتَنين مما يجعلنا نشعر بالسعادة والطمأنينة..
ومن ناحية أخرى، تعمل الكلمات السلبية على تفعيل آلية التهديد في الدماغ وهذا يعني إن المناطق المرتبطة بالخوف والتوتر مثل اللوزة الدماغية تنشط بشكل أكبر مما يؤدي إلى زيادة مستويات التوتر والقلق، وهذا التأثير طويل المدى حيث يمكن أن يؤثر على الصحة الجسدية أيضًا من خلال زيادة هرمونات التوتر مثل الكورتيزول، وهنا لا بد من إعطاء مثلٍ لتحصين الفكرة..
إذا كنت تبدأ يومك بترديد عبارات إيجابية مثل: سأنجح اليوم، أو أنا قادر على تحقيق أهدافي، أو سأحقق بعض أحلامي وأربح بعض المال، فإن ذلك يساعد في خلق مناخ نفسي إيجابي ويزيد من فرص تحقيق نجاحات فعلية، وعلى العكس إذا استهللت يومك بعبارات مثل: أنا فاشل، أو لا أستطيع، أو تعد نفسك على عدم القدرة على تحقيق هدف ويسيطر عليك الإحباط فإن دماغك يدخل في حالة دفاعية تقلل من قدرتك على التفكير بوضوح أو التصرف بثقة وتشتت الأفكار..
أيها السادة، لا بد من الإضاءة على الكلمات وأثرها على العلاقات الاجتماعية وتفاعلاتها مع الآخرين والتي نستخدمها مع الأصدقاء أو الزملاء وفي العمل وحتى مع الغرباء.. تحدد جودة علاقاتنا وقدرتنا على بناء الثقة والانسجام بالتواصل الإيجابي الذي يعتمد على كلمات مشجعة ومحترمة يحصّنها الشرف والصدق والوفاء ويمكن أن يعزز العلاقات ويقرّب بين الأشخاص، أما الكلمات السلبية والنقد اللاذع فيؤدي إلى تقويض الثقة وبناء حواجز بين الناس، عندما نتحدث مع الآخرين بطريقة سلبية أو متهكمة حتى لو كان ذلك بشكل غير مباشر فإن الدماغ يتفاعل كما لو كان تحت هجوم وهذا يؤثر ليس فقط على مستقبل العلاقات بل، يؤدي إلى خلق بيئة غير صحية من التوتر والخلافات..
عزيزي القارئ، إن الكلمات لا تؤثر فقط على عواطفنا أو علاقاتنا فقط، بل تؤثر أيضا على صحتنا الجسدية لا سيما وإن استخدام الكلمات السلبية بشكل متكرر يمكن أن يزيد من إفراز هرمونات التوتر في الجسم مثل الكورتيزول مما يؤثر على صحة الجهاز المناعي ويؤدي إلى أمراض مزمنة كارتفاع ضغط الدم والسكري، بالمقابل إن الكلمات الإيجابية حتى مع النفس يخفف من مستويات التوتر ويحسّن الصحة العامة وتجعلنا نشعر بالسلام الداخلي وتساهم في تحسين جودة النوم وتقلل من القلق، ولا بد من طرح مفاهيم ثابتة لتأليف القلوب سواء كنت مسلما أو علمانيا، وهنا نجد إن هناك صراع بين الإسلامي والعلماني، وهو غالبا ما يكون صراعا نتيجة اختلاف في المفاهيم السطحية وليس القيم الجوهرية، فالإسلامي قد يعتبر العلماني تهديدا للقيم الدينية، بينما العلماني قد يرى الإسلامي تهديدا للحريات الفردية، ولكن في الحقيقة يمكن للإسلامي والعلماني أن يجتمعا إذا تم التركيز على القيم الإنسانية المشتركة بينهما وهي القاسم المشترك الذي يضمنها شرف الكلمة لا سيما وإن شرف الكلمة يكمن في الالتزام بالمواثيق والقيم الإنسانية والحصانة الأساسية التي تضمن تطبيق كافة الاتفاقات وكافة العلاقات.. وحتى ما قبل الإسلام، دأب العرب في علاقاتهم على شرف الكلمة ويلتزم بها القبائل والمجتمعات، وتعززت من خلال الاسلام بالطريقة الروحانية بوضوح. ونؤكد بأن الإنسانية المشتركة يجب الاعتراف بها لأننا قبل أيّ التزام ديني أو غير ديني فأنت إنسان أولا مما يجعلنا نركز على القيم المشتركة من خلال الاعتصام بحبل الله، وهذا يعني الالتزام بقيم العدالة والرحمة والمساواة التي يمكن أن يتفق عليها الجميع سواء كانوا إسلاميين أو علمانيين..
عزيزي القارئ، قد تحييك كلمة وقد تقتلك كلمة؟ فكلمة كذب تهز مملكة الثقة، وكلمة حنان تخترق قلبك دون استئذان، وكلمة حق تنحني لها احتراما، وكلمة غضب كماء يغلي ويحرق كيانك، وكلمة فراق تصيبك بجرح يظل نزفه السّنون، وكلمة حب تجعلك تملك الأرض ومن فيها..
أعزائي الكرام، كلنا بحاجة إلى الكلمة الطيبة فبعض الكلمات لها أيادي حنونة وعلينا جميعا أن ننثر بأقلامنا ونطلق بألسنتنا كلمات تلامس أرواحنا والتي تمنحنا الحب والطمأنينة والسلام فالحياة رغم بعض الألم جميلة ولكن لنعطيها حقها من التفاؤل كي تعطينا حقنا من السعادة والاستقرار، لأن الكلمة التي تخرج منك تصبح ملك الآخرين ولهم حرية الاختيار وحرية تفسيرها كما يعتقد كل فرد منهم أو يفهمها أو يتمناها..
ولذلك، أيها الإنسان أنت من تحدّد قيمتك من منظور الآخرين، فمنهم من يراك ملاكا على هيئة بشر، ومنهم من يراك شرّيرًا وهذا ما تحدده كلماتك وليس لك حتى الاعتراض على ما صنعت بنفسك إن كان تكريما أو تشهيرا! ولذلك حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، قال تعالى: “يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ” (سورة النحل، الآية: 111).
ومن هنا لا بد من التذكير بالرباط الأسري بين الزوجة والزوج الذي يقرّره شرف الكلمة حيث تقول الزوجة: زوّجتك نفسي، ويجيب عليها الزوج بكلمة: قبلت.. وهنا كمن أهمية العلاقات الروحية والإنسانية التي تحييها كلمة وتقتلها كلمة، فلنحافظ على قدر الكلمة وهي شرف لكل إنسان فمن يبتغي رضى الله والبشر ينتقي الكلمة الطيبة وهي التي ترفع من قدرك في المجتمع ومقامك أمام الله عز وجل، واعترف لنفسك في عقلك الباطني إنك لا تستطيع تغيير العقول ولكن تستطع تغيير سلوكك.. فمن الناس مَن يعتبر نفسه عالمًا ويريد تغيير الطبيعة مما يوقعه في مطبات الأسف واللوم خاصة.. لنأخذ قدوتنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبره الله في كتابه العظيم: “وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” (سورة آل عمران، الآية: 159)، والجاف وغليظ القلب والقاسي دون رحمة أو رأفة ينفضّ الناس من حوله، ولذلك كان على خُلقٍ عظيم، ولهذا قاد الأمة.. فكن أنت على صورة الرسول الكريم، وتأكد أنك ستكون من الناجحين والسعداء بإذن الله..
وأخيرا.. الكلمة حياة وتحمل معاني عميقة ترتبط بأهمية الكلمة وتأثيرها في حياتنا. إن الكلمة ليست أصواتا أو حروفا بل هي وسيلة للتعبير والتواصل ونقل المشاعر والأفكار ويمكن أن تبني أو تهدم، وتلهم أو تحبط، وتحيي الأمل أو تطفئه.. وهي أداة قوة ومسؤولية لأن كل كلمة تقولها قد تترك أثرًا دائمًا في نفوس الآخرين، فالحياة بالكلمة.. انصح نفسي والآخرين بأن نترك دائمًا أثرًا طيّب يذكرنا حين الرحيل.

بالكلمة.. تزرع وردة أو ترمي قنبلة!
لكلّ وجه في الدنيا وجهان.. وتنطبق هذه الحقيقة على كل ما هو مصيري. للحقيقة وجهان، للأيام وجهان، للآخرة وجهان. لوجهنا ذاته وجه شباب ووجه الهرم. لعلّ اللسان أخطر من حمَل الوجوه.. فهو قد يكون دواءً وقد يتحوّل فجأة إلى سيف قاتل. ومن هنا، تجاوزت الكلمة وظيفة “السفير” الناقل للرسالة، متحولةً لتصبح مرآةً لقلب المتحدث. وما أصعبها من مسؤولية! أن يمتلك المتكلم منّا صلاحية الارتقاء بروح الآخر لنعيم التقدير بكلمة، وأن يدفعه لهاوية بكلمة، خصوصًا إن سنحت الفرصة للتحرر من مسؤولية الكلمة، بل وإقناع أهلها أنهم يتنعّمون برفاهية الكلام “الكثير”.. ليتخطّوا الحرية إلى التضليل والعشوائية.
كانت الكلمة في الماضي تحمل وزنًا عظيمًا. لقد اخترع أسلافنا في الماضي وسائل من كل شيء وبكل شيء، ليحتفظوا بالكلمة! ولأن الأدباء والمفكرين كانوا يدركون أنها أمانة، وسلاح ذو حدّين، يمكن أن تبني مجدًا أو تهدم حضارة، كانوا يُراعون شرف الكلمة في المجالس والأدب، فأصبحت كلماتهم إرثًا خالدًا. ونستحضر “المتنبي”، الذي كان يدرك أن الكلمة قد تكون سببًا في موته، كما حدث حين دفع حياته ثمنًا لكلماته التي أغضبت خصومه.
الكتابة ليست مجرد حروفٍ تُسطّر، بل مسؤولية جسيمة. الأدباء والشعراء الحقيقيون يلتزمون بقضايا مجتمعاتهم، مثل “غسان كنفاني”، الذي كانت كلماته مرآةً لمعاناة الفلسطينيين. كتاباته مثل “رجال في الشمس” و”عائد إلى حيفا” كانت صرخة مدوّية ضد الاحتلال، ما جعله هدفًا للاغتيال. وهنا يتجلّى مفهوم شرف الكلمة، الذي يحوّلها إلى فعل مقاومة.
ولا نبالغ إن تطرّقنا لمفهوم الكلمة التي تقود أمة. يقول الله تعالى في (سورة النساء، الآية: 63): “وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا”.. وبحسب التفسيرات، “قولًا بليغًا” تعني: حذّرهم وبلغ ما في قلبك من زجر بلسانك. وهنا، لا بد أن نفكر: إنها مجرد كلمات.. كيف تهتز لها النفوس القاسية والمنافقة؟ فتجيبنا الكلمة.. ونتعلم أنها سلاح القائد، فبها تقوم الحجة، ويرتد الباطل. وترتقي لمفهوم أوسع وأكثر تأثيرًا.. فيقول سبحانه وتعالى: ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ” (سورة آل عمران، الآية: 159).. لقد أنعم سبحانه وتعالى على رسول الله بالكلمة اللينة، واللين ذكاء، والذكاء قوة التأثير ووسيلته.
لطالما كانت الكلمة أمانة توازي قيمة الروح. ولقد افتدى “ياسر” وزوجته “سمية” رضي الله عنهما بروحيهما لأنهما صمدا على كلمة الشهادة. إنه مفهوم جهاد الكلمة، الذي يتحكم بعلاقاتنا. ينشأ خلاف بسبب كلمة قاسية، نسيء الظن بسبب كلمة خاطئة، ونساعد روحًا بالشفاء بسبب كلمة طيبة.. ويلجأ المضطرب لطبيب نفسي لأنه يتأمّل بالكلمة أن تكون علاجه.
جهاد الكلمة هو أرقى أشكال المقاومة، لأنه يعتمد على العقل والحق. الكلمة الحرة الصادقة كانت دائمًا أداة لمواجهة الظلم ونقله. وأهل غزة اليوم هم خير دليل، حيث ينقلون بكلماتهم ما لا تُصوّره الكاميرات.. وكلنا نتناقل كلماتهم التي تحمل الحرب بأكملها في طيّاتها: “روح الروح” سكنت روحنا، “يوسف شعره كيرلي” جعلتنا نستحضر صورة يوسف في عيون أطفالنا.
لكن جهاد الكلمة لا يقتصر على التّناقل فقط، بل يرتبط أيضًا بوعي الكلمة. فالجهاد الحقيقي لا يكتمل إلا بإدراك أثر الكلمة وما تحمله من مسؤولية. وعي الكلمة يعني إدراك أن كل حرف نقوله أو نكتبه قد يكون له أثر لا ينمحي. في عصرنا هذا، حيث الكلمة تنتشر في ثوانٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يصبح وعي الكلمة ضرورة أخلاقية، وإلا تحوّلت الكلمة إلى أداة تدمير بدلًا من البناء.
مثال ذلك حملات الكراهية الإلكترونية التي تُشنّ على داعمي فلسطين.. ومنها حملة “أوقفوا معاداة السامية” التي تحرّض على الأشخاص المؤيدين لفلسطين في الغرب، والتي قد تودي بهم إلى خسارة وظائفهم، أو تعرّضهم للتهديد والخطر.
صفوة القول، لقد خُلقنا زارعين! نزرع بالكلمة أملًا أو نزرع لغمًا. فلنغرف من صفوة مشاعرنا بسخاء.. لعل الكلمة تنقذ روحًا. ففي سيل الحروف، لن تفوز إلا الكلمة الصادقة، إلا البوح الذي يفرش سندسه للقلوب في زمن تتهافت فيه الهموم كبركان لا يرحم ولا يهدأ.

“توم” و”جيري”.. وُعود شرف منتهية الصّلاحية!
“جيري” الفأر الذكيّ المشاغب، و”توم” القطّ المُتذاكي المغلوب على أمره، من منّا لم يتابع هذه السّلسلة الكرتونيّة؟ ولم يضحك على المواقف السّاخرة بين هذين الكائنين؟ رغم أنّ الواقع يقول أنّ القطّ يصطاد الفأر، ولكن دائماً ما فشل “توم” في تحقيق غريزة الواقع، فكان “جيري” سبّاقًا بالتّفوّق على القطّ المسكين، والتّحرّر من مصائده، وكلّما اشتدّ النّزاع بينهما، ووعدا بعضهما وعد شرف بعدم تعرّض أحدهما إلى الآخر والحفاظ على السّلام والمصداقيّة بينهما، وما إن عمّ الهدوء وبدأت الثّقة بربط خيوطها بين المتنافسَين، حتى يُضرب هذا الوعد بعرض الحائط، لتعود المناكفات بينهما أشدّ من ذي قبل.
مواقف ومشهديّات طريفة عشناها مع “توم” و”جيري”، ولكن ما ضحكنا عليه سابقًا بدأنا نكتشف أبعاده لاحقًا. فكلمة الشّرف بينهما، والتي دائمًا ما كانت تبوء بالفشل لها أسبابها وفق المواقف التي يتعرّض لها الطّرفان، فهل ينطبق ذلك علينا كبشر في أرض الواقع؟
إنّ المسلسلات العربيّة التي تُعرض على الشّاشة الصّغيرة تعكس صورة كبيرة عن المجتمع في العالم العربيّ، ومن منّا لم يتابع “باب الحارة”، المسلسل السّوري الذي يحاكي حقبة تاريخيّة سياسيّة، ليست ببعيدة، في بلاد الشّام، مشهد تحوّل إلى “ترند” غير مسبوق على لسان المشاهدين وفي السّوشيل ميديا:
- “سعاد: فَشَرت
- أبو عصام: عم تقوليلي فشرت؟
- أبو عصام: أنتِ طالق”.
تحدّت سعاد، الملقّبة بأم عصام، التّقاليد التي تجعل من المرأة خاضعة تمامًا لسلطة الرّجل، ووقفت بوجه زوجها للمرّة الأولى، دفاعًا عن نفسها بعدما اتّهمها بسوء التّعامل مع جيرانها، الذّين افتروا عليها، في الأصل، ودون قصد احتدّت من أجل كرامتها، وكلّها ثقة أنّ أبا عصام سيكون السّند الذي يأخذ لها حقّها، ولكن الصّدمة أنّه رمى عليها يمين الطّلاق من أجل كلمة، كلمة واحدة رمتها بوجهه للمرّة الأولى بعد سنوات طوال من المعاملة بالمعروف بينهما. وما الزّواج سوى كلمة شرف قطعها على نفسه وعليها، بأن يحافظ عليها ويحترمها، ويودّها، كلمة شرف مزّق حروفها بسبب خطأ لفظيّ واحد. ظلّ وعد الشّرف قائمًا طالما أنّها خاضعة، وحين تغيّر الموقف وارتكبت الخطأ، انتهت صلاحية الوعد، وكم من أبي عصام نكس كلمة الشّرف مع رفيقة الدّرب، القرار الأسهل، بدلًا من التّمسك بالعهد والدّفاع عنه.
فأيّ المواقف تحتمل الحفاظ على كلمة الشّرف؟
“خلص عندي، ولو على قطع رقبتي”، “وحياتك ما بخذلك، وعد شرف”، هكذا يجزم الواحد منّا موقفه في أيّ أمر يكون طرفًا فيه، يسوّق الثّقة لنفسه حتى يقع الآخرون في مصيدة المواقف، وتُقطع الرّقبة، ويسيل الشّرف على أعتاب الخيبة والخيانة.
وكم من الاتّفاقات والمصالح بدأت مع وعد شرف وانتهت بوعد الشّخص لنفسه بأنّه لن يمنح ثقته لأحد، حتى ذاته تصبح موضع شكّ بالنّسبة له.
فمتى تبدأ معنا قضّية الشّرف؟
أتذكرون حين كنّا أطفالًا؟ كم شاغبنا مع أخٍ أو صديق لنا واتّفقنا أن نُبقي الأمر سرًّا؟
- “بتشكيني شي؟”
- “أبدًا، أبدًا، وعد شرف”
وعند أوّل تهديد من وليّ الأمر، أقرَّ وأعترفَ: “والله مش أنا، هيدا هو، أنا ما عملت شي”، وانكسر الوعد، وبين المزح والجدّ تضيع صداقات وتنهدم علاقات.
فمتى يكون وعد الشّرف حقًّا يحافظ على حدود الشّرف؟
كما سبق وعرضنا أنّ الوعود هي وليدة المواقف، طالما أنّ الطريق واحدة بالوعد ساري المفعول، إلى أن تتقاطع الطّرق وكلٌّ يمشي في اتّجاه مختلف. فالإنسان مزيج بين الملائكة والشّياطين، وكما الحاسّة السّادسة هي إضافة إلى الحواس الخمس، يمكن اعتبار كلمة الشّرف إضافة إلى العواطف الإنسانيّة، أحببناك فحفظنا العهد، كرهناك فنسفنا الأوّل والآخر، ولكلّ قاعدة استثناء.

فلسطين “كلمة الحقّ” التي لم نعيها بعد!
الإنسان كلمة، الحياة كلمة، والموت كلمة. جئنا إلى هذا الكون بكلمةٍ من الخالق، وسنرحل منها بكلمةٍ منه، بدأت البشريّة بكلمة وحتمًا ستنتهي بكلمة، هذا ليس كلامًا فلسفيًّا، وليس خطبةً وعظيّةً، إنّما هي الحقيقة، فلنفتّش في دواخلنا عمّا خبّأناه من كلمات، ولكن ليكن لدينا الوعي الكامل لما نقرأ ونعرف، فالكلمة دون وعيٍ هي جعجعةٌ لا تُنتج طحينًا.
مجرّد كلمة فقط، تُسقط ملكًا عن عرشه وتقود جيوشًا وتهدّ إمبراطوريات وتُفني دوَل.
في الأمس نادت امرأةٌ “وا معتصماه”، قالت كلمتها هذه ثمّ سكتَت، ولم يسكت الصّدى، إذ حشد “المعتصم بالله”، ثامن خلفاء بني العبّاس جيشًا ودكّ فيه مملكة الرّوم في واقعة “عموريّة” التي كتب عنها الشاعر “أبي تمّام” قصيدةً مُزلزلة، عبّر فيها عن فخره بـ “المعتصم” الذي لبّى نداء امرأةٍ استغاثت به إثر وقوعها أسيرةً عند ملك الرّوم آنذاك.
قامت الدّنيا ولم تقعد لأجل كلمةٍ نطقت بها امرأة، ولكن أين نحن اليوم من كلمات الأمس وأثرها؟ هل ما زال لدينا الوعي الكافي بالكلمات؟ وهل صُمّت آذانُنا عن الكلمات فكأنها فارغةٌ لا صدى لها، أم أنّ آذاننا أُصيبت في مقتلٍ للحسّ والشّعور؟
لست بصدد التّغنّي بالأمجاد، والتّصفيق للتّاريخ الغابر، فإنّني والله أستحي أن أقول: لقد كنّا وكنّا وكنّا، وحين أفتح باب كلماتي على مصراعيه لأنتصر لعروبتي، يحذف “مارك زوكربيرغ” بطريقةٍ آليّة ما أفكّر به حتّى، إنّه لأمرٌ مضحك جدًّا أن أتغنّى بأمجادٍ قد صارت معلّقةً على حبال التّاريخ، فواجبي ألّا أقول أصلي وفصلي أبدًا، إنّما أصل الفتى ما قد حصل، هذا البيت الوحيد الذي حفظته من لاميّة “ابن الورديّ”، كيف أتغنّى بتاريخنا وأنا الآن أنتظر إذنًا من الفايسبوك كي لا يحظر كلماتي عن فلسطين؟!
في قفزةٍ تاريخيّة، وصولًا إلى “وعد بلفور”، هذا الوعد الأحمق المشؤوم الذي منح أهل الشّتات أرضًا راحوا يعيثون الفساد فيها حتّى طردوا أهلها، قتلوهم ونكّلوا بهم.
ضُمِّنَ هذا الوعد ضمن رسالة بتاريخ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917 مُوَجَّهَةٌ من وزير خارجيّة المملكة المتحدة “آرثر بلفور” إلى اللورد “ليونيل دي روتشيلد” أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى وإيرلندا. نُشر نص الوعد (أو الإعلان) في الصحافة في 9 نوفمبر/ تشرين الثانيّ عام 1917.
ونص هذا الوعد هو التالي:
“تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليّاً أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنيّة والدّينيّة التي تتمتّع بها الطّوائف غير اليهوديّة المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”.
أعطت بريطانيا ما لا تملك لمن لا يستحقّ، ومن الجدير ذكره أنّ كلمة “وطن قوميّ” لليهود هي الكلمة التي سنتوقّف عندها، فلنلاحظ معًا ماذا فعلت هذه الكلمة حتى الآن، تخيّلوا ماذا يمكن لكلمة أن تفعل في ظلّ تخاذلٍ عربيٍّ وعالميّ لأرض فلسطين المقدّسة.
بدايةً، لم يكن لمصطلح “وطن قومي” – وَرد في نص الإعلان باللغة الإنجليزيّة (national home) –
أيّ سابقة في القانون الدولي، وقد أُورد المصطلح غامضاً عمداً دون الإشارة إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين. كما لم يتمّ تحديد حدود فلسطين المعنيّة، وقد أكَّدت الحكومة البريطانيّة أن عبارة “في فلسطين” تشير إلى أنّ الوطني القومي اليهودي المُشار إليه لم يُقصد أن يُغطي كلَّ فلسطين، ومنذ ذلك الإعلان، يقوم الشيطان الصهيوني الذي أسّسه “هرتزل” بقضم أرض فلسطين شبرًا فشبرا، إلى أن صار أهل الأرض غرباء عن أرضهم وصار الغرباء هم أهل الأرض، يا لسخرية الأقدار، لقد صدق “نزار قبّاني”، الشّاعر السّوريّ، حين قال:
ما دخل اليهود من حدودنا
وإنّما..
تسرّبوا كالنمل.. من عيوبنا
وفي موضعٍ آخر يقول:
كان بوسع نفطنا الدّافق بالصّحاري
أن يستحيل خنجراً..
من لهبٍ ونارِ..
لكنّه..
وا خجلة الأشراف من قريشٍ
وخجلة الأحرار من أوسٍ ومن نزارِ
يُراق تحت أرجل الجواري…
كم من الصّراخات التي تعلو وما من سامعٍ للصّوت، كم من الأعراض قد هُتِكَت منذ بدء الصّهيونيّة؟ كم من فتاةٍ اغتُصبت ولم تجد “معتصمًا” يدافع عن شرفها؟ كم من الكلمات التي ذُبِحت أمامنا ولم نكترث؟
فلسطين ملّت من حديث النّزيف الذي نحكيه هنا وهناك، ملّت من أشعارنا ومن قصائدنا، هل تُطعم الكلمات طفلَ غزّة؟ هل تعيد قصائد البرغوتي ودرويش والقاسم وكلّ شعراء العرب بكارة العروبة التي فُضّت بنجاسة بني صهيون؟
ألا تعسًا لكلماتٍ لم تتحرّك لأجلها الشعوب، وبؤسًا لكلماتٍ لم تحرّك الضمائر وتهزّ العروش. يخرج علينا أحدهم فيقول: “نحن نعترف بإسرائيل ولكن نريد من إسرائيل أن تعترف بنا”!
تخيّلوا معي ماذا فعلت كلمة في حضاراتنا وأراضينا وشعوبنا، صاحب البيت يجلس عند العتبة، يرجو من المحتلّ أن يمدّه بكسرة خبز وقصعة ماء، والخيل والليل والبيداء تشتمنا والسّيف يلعننا والرمح يصفعُنا والقرطاس يبصق على وجوهنا كلّنا، نحن الأمّة التي خدّرتها الكلمات فصارت تبحث فيها عن نصرٍ مزيّف، لقد خدعنا تُجّار المنابر بأفيون الشعوب، جميعهم كاذبون، الكلمات التي ندعو بها الله لن تصل إليه، الله ليس حدّادًا يصنع السّيوف من كلماتنا، ولن نُؤتى النّصر ونحن لا نفقه من الكلام شيئا، لن ننتصر بخطاباتٍ رنّانة تخدّر الأدمغة، نحن بحاجةٍ لوعي الكلمة، ولنصرتها، فلسطين كلمة الحقّ التي ضيّعناها فضاعت معها كلّ الكلمات التي نفتخر بها.

الكلمة.. بصمةٌ للوعي والنوايا
“الحكي ببلاش”…”الكلام ما عليه جُمرُك”، جمل نسمعها تقال بيننا ولنا في اللهجة العامية للقول أنه لا مآخذ على الكلمة ولنقل ما نقل فلا نُقود سَتُدفَع مقابل الكلمة التي تُقال أو تُكتَب ولا ضابطة جمركية ستعاين قولنا وكلمتنا، مما جعل الكل يطلق العنان لنفسه ليتحدث ما يشاء ومتى يشاء وأينما يشاء وكيفما يشاء، بل أصبح كُثُر مَن يغازلون أنفسهم وغيرهم سياسيا بحيث بات الكل قائدا، كاتبا، محلِّلًا سياسيا، عالما، ثائرا، مناضلا، مفكرا، إعلاميا، صحفيا، سياسيا، مقاوما، وغيرها من التوصيفات التي تبتز وعي الإنسان بحيث مجرد أن يصف أحدهم أحد ما بالصفات آنفة الذكر أو أن يحمل أحدهم كاميرا ويرتدي بزة الصحافة أصبح كلامه والموصفون بالصفات السابقة “مقدسا إلهيا يمنع الانتقاد أو التصحيح”.
وآخرون يلقون كلمات توصيفية غزلية لعابر على الوطن ظنته الشعوب بفعل الكلام العابث بوعي الشعوب أنه مخلّصًا للأوطان من الاحتلال وبراثنه، في حين أن ما دُعي بمخلّصٍ هو معاون للمحتل. وإضافة لذلك، بحجة ما يُسمّى بحرية التعبير عن الرأي تحوّلت بعض الآراء إلى “تحليل ارتكاب جريمة” أو “شريكة في الجريمة” أو “الرأي بحد ذاته جريمة”. لكن هؤلاء نسوا الحديث الوارد: “أنه يؤتى للإنسان بقارورة فيها دم، فيقال له: هذا نصيبك من دم فلان، فيقول: يا رب، أنا لم أقتل ولم أجرح، فيقال له: ولكن خرجت منك كلمة، من دون أيّ تدبُّر للنتائج والعواقب، فأدَّت إلى فتنة، وأدت الى قتل، فأنت شريك في هذا الدم”.
فكم من كلمة قيلت وكُتِبَت جعلت من القواد قائد فقاد وطنه وشعبه وتنظيمه نحو الدمار لا العمار! كم من مجرم ارتدى رداء الدين والعقيدة والمقاومة والنضال فتناول دماء شعبه كماء يشربه عند عطشه! كم من عابر لا يفقه بما يتحدث عنه جعل من نفسه عالما وهو ليس إلّا عالة وفاشلا فأصاب العلم في مقتل! كم من كاتب كتب ليخرج عن المألوف فجعل التحليل السياسي هو أيّ تحليل غريب لم يكتبه أحد بعد.. وبالتالي من الممكن أن يقول إن “دونالد ترامب” هو تفاحة لكن هناك مؤامرة جعلت من هذه التفاحة إنسانا عبر الذكاء الاصطناعي!
كم من إنسان عليه أن يتعلّم أصول القراءة وكيفية السؤال للبحث عن إجابة هذا السؤال كي يتمكن من أن يفكر ومع ذلك وُصِفَ بالمفكر وهذه الكلمة تبتز وعي البسيط من الشعب فيذهب وراء “هذا المفكر” نحو التهلكة! كم من شخص للتوّ قد تعلم الأحرف الأبجدية لكنه كتَب شيئا على هواهم فأصبح كاتبا نحن مُطالَبين باحترامه لا احتقاره! كم من شخص قام بفعل نضالي لمرّة واحدة فتوّجوه بلقبِ مقاوم كحصانة له حتى وإن ارتكب خيانة أو جريمة! كم من قناة ناطقة باللغة العربية لكن إدارتها صهيوأميركية جعلت من الباطل حقا ومن الحقيقة كذبة حتى باتت هذه القنوات “قرآنا” إعلاميا، وهذه القنوات ليست إلا “دعارة إعلامية”! عندما تسقط المسؤولية عند كتابة الكلمة أو نطقها ويصبح الشائع هو الباطل والمألوف لدى الشعوب الكذب لا الصدق، فإننا في عصر الدعارة المكتوبة المنطوقة يا سادة!
لكن، ماذا يقول العلم عن الكلمة تأكيدا على أنها مسؤولية لا أمرا عابرا ولا مسؤولية من وراءه، بل وليس كما قيل لكم “الحكي ببلاش”…”الكلام ما عليه جُمرُك”؟
الكلمة التي تخرج من فمنا هي عبارة عن أمواج صوتية يتمّ التعبير عن هذه الأمواج بقياس الاهتزازات والتردّدات، ولكل موجة صوتية طاقة معينة تزداد بقصر طول الموجة، ومعنى ذلك الكلام أن العلم يقول لكم أن كلامكم على المستوى العلمي ليس عابرًا بل له طاقته وقيمته (وزنه). أما إن أردتم أن تمارسوا اللامسؤولية كتابيًّا، فيؤسفني أن أخبركم أن كلمتكم المكتوبة أيضا لها قيمة معينة، فاللغة البرمجية الوحيدة التي يفهمها الحاسوب هي الأرقام الثنائية (0، 1) ولكي يفهم الحاسوب وكل الأجهزة الأخرى (والتي لديها حاسوب داخلي يحوي برمجة الجهاز) اللغة البرمجية التي نستخدمها فإن هناك مترجما لدى هذا الجهاز يعمل كوسيط لكي يوصل بين لغة البرمجة لدينا واللغة الثنائية لدى الحاسوب الذي يحوّل كل كلمة مكتوبة الى قيمة ثانية معينة تختلف من كل كلمة الى أخرى.
ومثالٌ على ذلك/ كلمة “لغة” والتي هي بالترميز الثنائي تكتب هكذا 11001000100 11000111010 11000101001 100000 أما كلمة “قائد” فتكتب هكذا 11011001 10000010 11011000 10100111 11011000 10100110 11011000 10101111 100000، في حين أن كلمة “مقاول” تكتب هكذا 11011001 10000101 11011001 10001111 11011001 10000010 11011000 10100111 11011001 10001000 11011001 10000100 100000، بينما كلمة “مقاوم” يراها الحاسوب هكذا 11011001 10000101 11011001 10001111 11011001 10000010 11011000 10100111 11011001 10001000 11011001 10010000 11011001 10000101 وأما كلمة “دماء” فإنها كغيرها من الكلمات لديها ترميز آخر كالتالي 11011000 10101111 11011001 10000101 11011000 10100111 11011000 10100001 100000، وأما كلمة “جريمة” فالحاسوب يحوّلها إلى الترميز التالي 11011000 10101100 11011000 10110001 11011001 10001010 11011001 10000101 11011000 10101001 100000 بينما كلمة “مناضل” فهي 11011001 10000101 11011001 10000110 11011000 10100111 11011000 10110110 11011001 10000100 100000.
هكذا أصبح واضحا لديكم كيف أن لكل كلمة ترميز وقيمة مختلفة حسبما يثبت العلم لدينا من خلال لغة الحاسوب الثنائية. وإن أردتم الكتابة ورقيًّا لا رقميا فهناك علم آخر يؤكد أن كلمتكم المكتوبة ورقيا لها وزن أيضا وهنا أتحدث عن علم “حساب الجُمَّل” الذي يجعل من كلمة “مقاول” تختلف وزنا عن كلمة “مقاوم” مثلا، فكلمة “مقاول” وزنها 177، وكلمة “مقاوم” 187 أي فقط اختلف الكلمة بحرف واحد من لام الى ميم ولكن كان لهذا الاختلاف احترامه لدى العلم فلم يكن عابرا بل تغيّرت الكلمة وزنا من 177 إلى 187! كلمة “مجرم” تأخذ وزن 283 حسب حساب الجُمَّل لكن كلمة “مناضل” فإنها تزن 921 ورغم أن وزن كلمة “مجرم” أقل بكثير من كلمة “مناضل” إلا أن هنالك الكثير من المجرمين تم تصويرهم إعلاميا أنهم مناضلين مما جعل دماء الشعوب مستباحة بغطاء ديني أو عقائدي أو ربما عرقي، مما يؤكد أننا في عصر الدعارة المكتوبة المنطوقة حيث لا اعتبار للمسؤولية التي تقع على عاتق الكاتب والناطق! وهنا بات واضحا كيف أن العلم يقيم وزنا للكلمة المنطوقة عبر الأمواج وتردّداتها التي لكل تردّد منها قيمة حسب الفيزياء.. الكلمة المكتوبة رقميا فإن لها قيمة تختلف عن الكلمة الأخرى حسب برمجة الحاسوب ولغته الوحيدة الثنائية، وأما الكلمة مكتوبة ورقيًّا فإن حساب الجُمّل يقيم وزنا مختلفا لكل كلمة.
الجدير بالذكر أن هذا العلم (حساب الجمّل) والتحويل إلى الترميز الثنائي وغيرهما من الطرق الحسابية، يُستخدمان في حالة حساب قيمة ووزن الكتابة رقميا أو ورقيا في آن معًا إن أردنا، لكن بداية جعلت من الترميز الثنائي وكأنه مُخصّص للكتابة الرقمية وحساب الجمّل للكتابة الورقية كون أن الكتابة ورقيا سبقت الكتابة رقميا وأيضا حساب الجمّل سبق بظهوره النظام الثنائي فكان الأجدر بداية تخصيص الرقمي للترميز الثنائي وذلك لأنّ الحاسوب لا يعمل إلا بعد تحويل أيّ كلمة ولغة برمجة إلى النظام الثنائي، فالترميز الثنائي كان لتأكيد أنه إضافة الى حساب الجمّل الذي سبق الترميز الثنائي في الظهور، فإنه يؤكد أن كل كلمة تختلف عن الأخرى مما يتطلب المسؤولية عند الكتابة أو النطق، فحتى الحاسوب يقيم وزنا لكل كلمة على عكس البشر، ففي حالة الرّقمي الترميز الثنائي دليل قوي وواضح على أن لكل كلمة قيمة عددية إن قمنا بتحويل الترميز الثنائي إلى النظام العشري فيعطي الكلمة قيمة عددية تختلف عن الكلمة الأخرى إضافة إلى حساب الجمل الذي يحسب قيمة كل كلمة تباعا لقيمة كل حرف في الكلمة.
وهكذا قال العلم كلمته أمام عصر الدعارة المكتوبة المنطوقة مؤكدا أن الكلمة مسؤولية. لكن ورغم ذلك فإن البشر قد انتهجوا العشوائية في قولهم وكتابتهم فلم يدركوا يوما أن كلمتهم هذه لها قيمتها ووزنها وطاقتها الخاصة وإن لم توضع في مكانها الصحيح لوجدنا خللا في مصفوفة العدل للوعي، وهذا الخلل نحن نعيش في وسطه!
ونتيجة لذلك كانت الكتابة حربا كما وصفتها في مقال سابق بعنوان “الكتابة حرب أخرى.. لمخاطبة الوعي والفكر”، وهنا أقتبس الفقرة الأولى من المقال “ما لا يدركه إنسان عادي هو أن الكتابة بحد ذاتها هي الحرب الخفية بين قلم وعي الكاتب والوعي الجمعي للشعوب، فالرصاص والحجر وقع رسالتهما على القلب وهو المكان الأسهل للحديث والتأثير والتغيير، لكن الكتابة فإنها حرب مخاطبة الوعي والفكر، وهذا إن تم تحريكه يتطلب شجاعة من المتلقّي أن يسمح بأن يطرأ تغيير على سلوكه وإدراكه، وهذا ما يتطلب حربا من قلم الكاتب، فالإنسان يميل الى الجبن والكسل كما أوضح عالم الاجتماع “ابن خلدون” في مقدمته الجزء الأول صفحة 491، وهذا ما أكده المؤرخ العراقي “خزعل الماجدي” والذي عبّر عن حقيقة الإنسان بأنه يميل إلى الجهل. فإذا الطرق على جدران وعي الإنسان الذي في طبعه يحارب المعرفة يتطلب حربا أخرى من الكاتب، ولهذا قلم الناطق بالعروبة أمام خيارات أسهلها مخاطبة العدو صانع الحرب متحدثا بالتاريخ والوثائق، وأصعبها وأخطرها أن يذهب إلى الإنسان الناطق بالعربي محاورا وعيه فقد تراه يحدّثه عن تراجع القراءة والثقافة العربية فيظن الإنسان البسيط أن هذا الكاتب منسلخ عن الواقع يداعب الدب الروسي في روسيا متناولا الفودكا جعلته يتراقص وكأن لا حرب هناك، لكن الغاية هي دفع الإنسان نحو القراءة “غذاء الوعي، والوعي السلاح الأول والأكثر صلابة” للانتصار على الباطل الذي أصبح “حقا”، كي يدرك الإنسان وحده متى تلك الأرض محررة أو محتلة، ومن هو المناضل بحق لا قوّاد يمارس الرذيلة السياسية باسم “هذا الواقع وهذه الظروف الإقليمية” فيتضح لنا أنه ليس إلا مصاص أرواح أشد بشاعة من المحتل والحرب!”
ما المقصود بالفقرة السابقة المقتبسة من المقال؟ إن كنتَ قد قرأت المقال “الكتابة حرب أخرى.. لمخاطبة الوعي والفكر” سابقا، فإن تفسيرك للنص ورؤيته كانت بالتأكيد مختلفة عن تفسير قارئ آخر ومختلفة أيضا عمّا وراء مقصدي من لغتي، وهنا آخذكم إلى الهرمنيوطيقا وهي فن تأويل وتفسير وترجمة النصوص، بتبيان بنيتها الداخلية والوصفية ووظيفتها المعرفية، والبحث عن حقائق مُضمَرَة في النصوص والمطموسة ربما لاعتبارات تاريخية أو ايديولوجية. وهذا يعني أن فهم المتلقّي للكلمة المكتوبة أو المنطوقة تختلف من شخص الى آخر تبعا لوعيه وفكره، كما أنه من المؤكد أنه ليس الكل قادرا بالمستوى ذاته على معرفة ما يبطنه الكاتب بين السطور، ومن هنا جاءت الهرمنيوطيقا التي أكدت أن هناك حاجة لتفسير النصوص وتفكيكها كي يتم على سبيل المثال لا الحصر حماية وطن من قنبلة موقوتة بين الكلمات، لذا فإن الكتابة تحتاج الهرمنيوطيقا للبحث فيما بين ووراء وما بعد الكلمة، وهذا ما يعيدني إلى قول أن الكتابة هي “حرب” بل وأشد الحروب قساوة وصعوبة لأنها تخاطب أخطر سلاح وهو “الوعي” محاولة الكشف عن زيف كلمة قتلَت شعبا بأكمله وكتابة حقيقة تنقذ الشعب بأكمله في زمن سقطت المسؤولية عند قول أو كتابة الكلمة مما تتطلب حربا أخرى لمواجهة اللامسؤولية اتجاه الكلمة.
فالمقصد من الفقرة التي اقتبستها من مقال لي سابق هو توضيح وإقرار بحقيقة وعي الإنسان والتي يتم تلخيصها بأن الإنسان يميل إلى الجبن والكسل وبالتالي الجهل حسبما أوضح المؤرخون والباحثون في الإنسان كعالم الاجتماع “ابن خلدون” في مقدمته (الجزء الأول)، مما جعل الإنسان يستسهل تصديق كل ما يسمع ويرى على أن يفكر بحقيقة ما سمعه ورآه فأصبح متكاسلا مفضلا الجهل على العلم، ومن هذه الحقيقة حول طبيعة الإنسان أصبحَت الكتابة حربا يخوضها الكاتب محاربا وعي الإنسان ووعي الشعوب الجمعي، فالكاتب العربي أو الناطق بالعربية هو لا يحارب المحتل وحده بل وطبيعة الإنسان الميّالة الى الجهل أيضا، مما جعل حرب الوعي هذه في صراع مع الماء الملوّث الذي تنهل منه خلايا دماغ الإنسان التي صدّقَت أن ذلك الفدائي هو خائن وفي الوقت ذاته الشيطان هو مُخلِّص! ولأن كل حرب هي جزء من التاريخ، فإنّ صراع وعي كلمة الكاتب والناطق مع وعي الشعوب الجمعي هو صراع يجعل من الكلمة شاهدة على بصمة الوعي والنوايا لدى الكاتب والناطق لمحاربة عصر الدعارة المكتوبة المنطوقة، وهذه البصمة أكدتها الكاتبة التشيلية العالمية “إيزابيل الليندي” في إهداء إحدى رواياتها قائلة: خذي اكتبي هذا كي لا تمحوه الريح.
وختاما، المقصد من هذه الجملة التي كتبتها الكاتبة “الليندي” أن الكلمة كالبصمة للإنسان تميّز فكر وإدراك ووعي الانسان عند زمان ومكان كتابة أو نطق تلك الكلمة، وهذه البصمة لا يمحوها شيء لا زمن ولا ريح بل تبقى شاهدة على وعي الإنسان عند لحظة كتابة ونطق الكلمة، مما يعني ضمنيًّا أن الكلمة مسؤولية، ولذا فإن الكاتب يخوض حربًا وهو مسؤول عن كلمته ومواجهًا طبيعة الإنسان الميّالة إلى الكسل، مُقِرًّا بوعيه الذي لا تمحوه الرياح. وأما أن الكلمة بصمة للنوايا إضافة للوعي، فأقصد هنا أنه قد يقول أو يكتب أحدهم كلمةً، المعنى الظاهري فيها شيء والمعنى المبطن شيء آخر، ممّا يستدعي الحاجة الى استخدام علم الهرمنيوطيقا التي تبحث حقيقة في نوايا الكاتب والناطق، فكان عنوان المقال ” الكلمة بصمة للوعي والنوايا”. والسؤال الجريء هو: من الكاتب والناطق المسؤول الباصم بنواياه المُقرّ بوعيه أمام الشعوب وإلى الأبد؟

بصمة حبّ..
كيف أعبر سبيلَ الحياة محمَّلةً بأرقى الكلمات؟
يستوقفني قلمي ليفصلني عن الواقع للحظات، أسترق الوقت لأدوّن ما يمليه عليّ قلبي… يهمس في أذني عن موقف رأيتُه أو مررتُ به ولكنّه ليس شرطًا لأكتب، الشّرط الوحيد لأكتب بحبّ هو أن أعيش ما أكتب، وأن أكون إنسانًا يتقمّص أوجاع الآخرين.
سيقف قلمي شاهدًا عليّ بعد مماتي! لذلك عليّ أن أعبر سبيل الحياة محمّلة بأرقى الكلمات. ومع هذا التّخبّط الذي نعيشه، قد تقف الكلمة كترسٍ يحاول ردع الجراثيم الموجّهة نحو ضرب القيم، لكن هل تنجح في ذلك؟ وإلى أيّ مدى تؤثّر هذه الكلمة في نفوس من يتلقّاها؟ لعلّها تصيب قلبًا واحدًا، أو لا تصيب، لكن يكفي أن توجّه قلمك نحو هدف معيّن قد يفيد المجتمع الغارق في بحر التّفاهات، لا أن يكون راضخًا لتفاهاته.
وسائل التّواصل الاجتماعيّ عالم كبير لا حدود له، مليء بمغامرات الكلمات، ولكن أيّ كلمات؟ معظمها يحرّض على الآخر، ويحثّ على التّفرقة، ويطعن القلب، ويجسّد مبدأ اللّاحوار، وإلغاء الآخر! معظمها كلمات تتّفق على مبدأ “أنا أو لا أحد!” أيُعقل أن نكون جميعًا متشابهين في الأفكار؟ وأيّ جمود سيصيبنا لو قامت الدّنيا على التّشابه؟ وهل سيكون لهذا التّشابه دور في تطوّر الوجود؟ أم أنّكم تحاربون فطرة الله في الوجود؟ متى نعي أنّ الاختلاف ليس خلافًا؟ وأنّ حدائق الكلمات لا يحلو عبيرها إلّا بتعدّد أفكارها؟
إنّه عالم غريب رفع قيمة التّفاهة مقابل قيمة الكلمة الحقيقيّة التي وُجدت لتمثّل رسالة سامية، وُجدت من أجل بناء مجتمع، من أجل بناء وطن… أمّا بعد، فكلمات لا معنى لها، تنتشر كالبرق لماديّتها! أيعقل أنّ الكلمة أيضًا أصبحت مقرونة بالماديّة؟ أيُعقل أن يكون كلّ ما هو خارج إطار المألوف أدب؟ أين دور النّقد في غربلة الكلمات، وفي فصل النّص عن صاحبه ليعامل على أساس موضوعيّ من دون مجاملات؟ أم أنّك تُعِدّ النّقد انتقادًا؟ الفرق شاسع بينهما فالنّقد يقوم على أساس منهجيّ هدفه بنّاء، يعمل على التّطوير، ولا يكون بأسلوب همجيّ يهاجَم من خلاله الكاتب، كما ويقوم على إبراز الجيّد والرّديء في العمل، وهو ليس مجرّد كلمات تُلقى على عاتق الكاتب ليكون مفادها “شوفوني” كما يكون الانتقاد السّلبيّ أحيانًا كثيرة.
ما أحوجنا في وقتنا هذا إلى الكلمة الحقّ! تلك الكلمة التي أصبحت تشكّل خطرًا على صاحبها فتجعله غريبًا يتخبّط بين أمواج الحياة على أنّ الحقّ باطلًا، والباطل حقًّا، ويُنعَت صاحبها بـ “المتخلّف” أو “السّاذج”، وهل التّطوّر هو فيما نراه اليوم من أذى معنويّ يخدش إنسانيّتنا؟ ولا أعني في قول كلمة الحقّ هنا النّاس الّذين يختبئون تحت رداء الوقاحة بحجّة الصّراحة، أو الذين يرمون كلامهم من دون تفكير، فكلمة واحدة كفيلة بصناعة الأمل، وكلمة واحدة كفيلة بتصدّعه واندثاره، ما أحوجنا لحوار نصغي فيه ونتأمّل لعلّنا نصل من خلاله إلى رقيّ الحياة بدلًا من أن نُصدر أحكامًا مسبقة على غيرنا قبل أن تَعبُر كلماتهم مسامعنا.
إنّه صوت الحقّ الذي لا بدّ له وأن يبصر النّور يومًا ما، وإنّ التّواصل مع الآخر لا بدّ وأن يكون على أسس ومبادئ الاحترام، فقد أستطيع إقناعك كمتلقٍّ، وقد لا أستطيع، وهذه حرّيّتك، وهذه حرّيتي، على أن تقف الحرّيّة عند الشّعور أنّها ستؤذي الآخر.
ما أحوجنا اليوم إلى الكلمة الطّيبة، إلى حوار يمزّق جذور الطّائفيّة، ويعلن الانتماء للإنسانيّة، ما أحوجنا إلى أن ندرك أنفسنا، وسبب وجودنا، أن نفكّ أسر قلوبنا من تلك الرّؤية المتقوقعة لنبصر الحياة بعين الجمال والتّعدّد… ما أحوجنا إلى تلك الكلمة التي تجعلنا نخلع قشور التّعصّب والأنانيّة، ونرتدي ثوب الحبّ، ذلك الحبّ الرّوحي الذي سيرافقنا بين ذرّات التّراب، ذلك الحبّ الذي يعترف بالآخر، ويعترف أنّ الحياة لا تكتمل إلّا بوجوده، وبسعادته، على أنّ إسعاد الآخرين صدقة، وأنّ الكلمة الطيّبة صدقة، وكلها تعود إلى صاحبها فرحًا بالعطاء، فالعطاء ليس فقط ماديًّا، إنّ الكثير بُخَلاء حتّى بالكلمة الطيّبة، فكيف بمن جاء بخبيثها؟ أولئك الذين يزرعون الحقد بكلماتهم، ويزيحون الحقّ عن مساره، ويحرّفون كلمة الحقّ، ويجعلون من كلّ تافهٍ قدوةً لأجيال صاعدة، بماذا عساهم يشعرون؟
ما أحوجنا إلى إعلام إيجابيّ، واعٍ يدرك حقيقة مهمّته من خلال الاستفادة من شدّة تأثيره في النّفوس، وتشعّبه وانتشاره بين النّاس خصوصًا مع وجود العالم الافتراضيّ اليوم، فهل يقوم إعلام اليوم بدوره في نشر الكلمة المثلى؟ أو يعمل على بثّ الخبيث منها؟ وهل البرامج المعروضة تسهم في نشر الأدب والثّقافة؟ وهل هي مجهّزة لبناء جيل قويّ يفهم معنى الكلمة المسؤولة؟
لستُ مثاليّة، ولا أدّعي ذلك، ولا يهمّني أن أكون كذلك، فنحن بشر وما خُلقنا للكمال، لكن علينا أن نضع أمام أعيننا هدفًا في الكتابة، ونسأل أنفسنا: لماذا نكتب؟ إن كانت الإجابة “للشّهرة فقط” فهنا نكون قد خرقنا حدود الأدب، لأنّ هدف الشّهرة قد يوجّه الذّات والقلم نحو فعل أيّ شيء مقابل الشّهرة، ومنها الانجرار خلف التّفاهات المنتشرة اليوم التي تُظهرُ لك شخصيّات بطريقة مشوّهة لأصحابها الذين قد يظهرون في العالم الافتراضيّ بطريقة منافية لكلّ القيم، في سبيل ماذا؟…
أمّا إن كانت الإجابة “تقديم رسالة قيميّة” يكون الهدف منها بناء المجتمع، وهنا تكون أنت الموجّه لقلمك كي يَعبُر اللّامكان واللّازمان، وتخرج أنتَ من داركَ بأمان، والشّهرة تأتيك متقنة تدريجيًّا مع الوقت، وتكون مرآة لمبادئك، وهكذا فإمّا أن تختار شهرة مادّيّة سرعان ما تنتهي مع الوقت، أو تختار شهرة معنويّة أبديّة تشهد لكَ بعد مماتك.
ختامًا، فإنّ للحياة طعمًا طيّبا أفسدته التّفاهات، وأفسده انتشار الشّر، لعلّنا يومًا ما نعيد مراجعة حساباتنا، ونعمل على مبدأ “أنا أفكّر إذًا أنا موجود” لأنّنا بالفعل اليوم اخترقنا هذه المقولة لنقول: “أنا لا أفكّر إذًا أنا موجود” لأنّ ما نحن مرغمون على مشاهدته (كل ما هو “ترند” يظهر لنا من دون أن نبحث عنه) ليس سوى تفاهات فرضت وجودها بالقوّة لتنهش في أيّامنا، وتزرع المحدوديّة في تفكرينا، والماديّة في تصرّفاتنا!
لعلّني أكون مخطئة بكلماتي هذه، وحبّذا أن أكون مخطئة في ذلك، وأقول قولي هذا وكلّني أمل بأصحاب العقول المبصرة، والقلوب المؤمنة في تحويل عقارب الكلمات وما تحمله من بذور نحو اتّجاهها السّليم الذي وُلدت لأجله في الحياة!