“ستيفن كينغ” والأدب الخفيف..

كثيرا ما أقرأ مقالات لصحفيين مشهورين أو لكتاب مكرسين أو “للنخبة الفكرية”، تهاجم ما يسمى الأدب الشعبي. إنهم ينظرون إلى مؤلفي روايات الإثارة والخيال العلمي والفانتازيا وما إلى ذلك على أنهم كُتّاب من الدرجة الثانية، بل لا أكون مبالغا إذا قلت إنهم يعتبرونهم كُتّابًا خردةً! ويعتبرون مطالعة مؤلفاتهم فعلا أقرب إلى جريمة في حق الأدب!

ولكي أرد على هؤلاء بطريقتي الخاصة، سأحدثكم عن “ستيفن كينغ” الذي صُنِّفَت كتاباته في وقت من الأوقات ضمن الأدب الشعبي!

من يدري، ربما في غضون سنوات قليلة سنرى الكثير من كبار كهنة معبد الرواية العربية يخوضون غمار “الأدب الخفيف”. وهذا ما أتمناه بالطبع، لكي تنكشف حقيقتهم – على الأقل – أمام من يحسنون الظن بهم ويقدّسون أحكامهم.

حسنا. سأخبركم لماذا من الجيد قراءة أعمال “ستيفن كينغ”، وسأردّ أيضا على ما قرأته وسمعته من أقوال تطعن في كتاباته، مثل: “أنا لا أقرأ لستيفن كينغ لأن أدبه غير راق، أو لا أقرأ له لأنني أكره روايات الرعب”.

سأبدأ مباشرة بفكرة مسبقة تمنع بعض القرّاء من اكتشاف عالم “ستيفن كينغ”: لا، المؤلف لا يخلق الرعب فحسب، بل على العكس تماما. إن روايته “إت” التي كنت أراها في كل مكتبات لندن – لأسباب وجيهة – لا تعكس على الإطلاق كل عبقريته. كان “ستيفن كينغ” قادرا على أن يُظهر طوال حياته المهنية أنه يستطيع تقديم أكثر من مجرد رعب. كتَب أنواعا مختلفة من الرواية، وكان دائما على القدر نفسه من العبقرية.

لن أقدّم لكم قائمة كاملة بجميع الروايات التي قام بتأليفها في أنواع مختلفة، لكن اعلموا أنه ألّف واحدة من أعظم الملاحم التي تمزج بين الفنتازيا العلمية والرعب والفنتازيا المظلمة والخيال الغربي، إنها “برج الظلام”، وهي سلسلة تتألّف من ثماني روايات. كتب أيضا روايات مؤثرة مثل “الميل الأخضر” التي تنتمي إلى الواقعية السحرية، و”روز مادر”، و”دولوريس كليبورن”، وكتب رواية الواقع المرير في “الهارب” وفي “المسيرة الطويلة”. حتى أنه كتب رواية أطفال، من أجل ابنته، حتى تتمكّن من اكتشاف كتابات والدها. كل هذا لأخبركم بأنه لا ينبغي عليكم تصنيف روايات هذا الكاتب العظيم في فئة الرعب فقط. من هنا، لا يجب أن تخافوا خوض مغامرة القراءة له.

يصور “ستيفن كينغ” ببراعة أمريكا المنسية. بالنسبة لي، هذه إحدى نقاط القوة العظيمة في قصص “ستيفن كينغ”، لأنه لا يغمرنا في أمريكا الحلم، أمريكا الأثرياء والحلم الأمريكي. إنه يُظهر لنا ما لا نراه دائما: أمريكا في أزمة، تعاني من مشاكل مختلفة، ولا يمكنها دائما إخراج رأسها من تحت الماء.

للقيام بذلك، يستخدم الكاتب في كثير من الأحيان ولاية “ماين” ومدينة “كاسل روك” الخيالية كموقع لقصصه. كما أنه يضاعف الإشارات إلى الثقافة الشعبية، حتى نتمكّن من التعرّف على العالم من حولنا. كل هذا يدلّ على أن المؤلف يلاحظ بلده وتجاوزاته وكوابيسه، وبعض الجوانب الجيدة أيضا.

يغوص في أمريكا الطبقة المتوسطة، حتى الفقيرة منها، التي تنساها المؤسسات. يمكنكم العثور على الكثير من الظلم والأنانية والشر البشري في الأعمال المتنوعة لهذا الأديب. في هذا السياق ينشأ الرعب وتكشف الإنسانية عن نفسها. لا يُظهر “ستيفن كينغ” أمريكا في صورة مثالية. إنه ببساطة مخلِصٌ جدا للواقع القاسي.

“ستيفن كينغ” راوي قصص عبقري ولا أعتقد أن أيّ شخص يمكنه أن يجادل في هذا. يتمتع بموهبة أسرنا منذ السطور الأولى، وإدخالنا في قصته، في عالمه.

يستخدم العاميّة وبعض الشتائم ليجعل من السهل علينا الدخول إلى القصة، لأننا نكون قد كوّنّا انطباعا بأننا في الواقع ونتابع قصة أخ أو صديق. أجد أسلوبه هذا، واستخدامه الاستعارة التصويرية يجعل القصة أكثر حيوية، وممتعة. علاوة على ذلك، يولي اهتماما خاصا بتصوير المدينة التي تجري فيها الأحداث. سيستمتع بوصف المدينة بأكملها لنا، بالإضافة إلى عدد لا بأس به من الشخصيات، رغم أنها ثانوية، لكن هنا تكمن قوة السرد. ونتخيّل بعد ذلك، بمجرد إغلاق الرواية، أن السكان ما زالوا على قيد الحياة. هذا ما يحدث معي أنا على الأقل. بالإضافة إلى أن “ستيفن كينغ” من أكثر الكتاب الذين يعلنون عن أنفسهم من خلال شخوص رواياتهم. ومع هذا نجد أن لكل منهم شخصية مختلفة تماما عن البقية.

يصف “ستيفن كينغ” شخصياته لنا جسديا، ويصف حياتهم كذلك، وهذا دليل على اهتمام حقيقي بالواقعية. ومن خلال التوغّل في الذاكرة – أحيانا في منتصف الفقرة – يسمح لنا بفهم تطور الشخصية وحتى أعمق مخاوفها. وعبر هذه الوسيلة أيضا، يبث زخم الخوارق والرعب في الحياة اليومية.

“ستيفن كينغ” يطوّر عدة موضوعات ورسائل في كل رواية من رواياته.. لا يكتفي بنقل حبكته من النقطة أ إلى النقطة ب، دون قصص جانبية أو تطورات مختلفة في الشخصية. ينتهز الفرصة لإثارة العديد من الموضوعات التي تتكرر كثيرا في كتاباته.

الموضوع الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو موضوع الطفولة. أعتبر “ستيفن كينغ” المؤلف الوحيد الذي تمكّن من التحدّث بشكل ممتاز عن الطفولة. إن عالم الطفولة هذا يتعارض مع عالم البالغين السيء عموما. ولذلك فمن الطبيعي أن يستخدم “ستيفن كينغ” طفلا أو أكثر كأبطال قصصه: (“البريق” أو “إت” أو حتى “مشعل النار”). غالبا ما يُنظر إلى الطفولة على أنها وقت مناسب لأحلام اليقظة، فضلا عن الخيال الغامر، ولكننا خلال هذه المرحلة نختبر أيضا المخاوف الأولى، حيث يمكن تدمير البراءة. يتطرّق “ستيفن كينغ” في كثير من الأحيان إلى الطلاق، وإدمان الأب على الكحول، والضرب، والشتائم، وفقدان الشهية، والشره المرضي، والحرمان، وحتى التحرش الجنسي. إن العالم الذي يصوّره هو العالم الحقيقي.

وختاما، إن “ستيفن كينغ” مؤلف ذو قناعات صلبة ورسائل مهمة، خاصة فيما يتعلق بالعنف ضد المرأة، ويتضح هذا بجلاء في روايته “دولوريس كليبورن” على سبيل المثال. كما أنه يهاجم مؤسسات مثل الجيش والمدارس والتقدم التكنولوجي والمتشددين بمختلف أنواعهم. باختصار، رواياته مليئة برسائل وموضوعات مهمة للغاية، وقبل كل شيء، مثيرة للاهتمام للغاية.

بعض رواياته لها صلة حقيقية ببعضها: رواية “لعبة جيرالد” ورواية “دولوريس كليبورن”، أو رواية “اليأس” ورواية “المنظمون”. ولكن في سلسلة “برج الظلام” كانت هذه السمة حاضرة بقوة، حيث ترتبط هذه الملحمة مع جميع رواياته تقريبا من خلال اللعب بالأكوان الموازية.. لذلك أدعوكم إلى أن تكونوا منتبهين جدا وأنتم تطالعون رواياته.

أعتقد أنني فرغت من إيراد النقاط التي تجعل أعمال “ستيفن كينغ” مثيرة للاهتمام كونها تذهب إلى ما هو أبعد من التصنيف المُسمّى الأدب الشعبي، وهكذا هي أعمال عدد غير قليل من الروايات التي يحاول البعض الطعن فيها – وفي أصحابها – من طرف خفي، حين يقولون إنها تنتمي إلى الأدب الخفيف، كما قيل عن روايتي “سقوط”.

وليد الأسطل - كاتب جزائري

وليد الأسطل - كاتب جزائري

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
مصر تُفنّد مزاعم استعدادها لتهجير نصف مليون فلسطيني إلى سيناء شركة "أزان إنيرجي" تصدر أول شحنة من الكوابل الكهربائية نحو الطوغو مؤرخ فرنسي يدعو إلى فتح الأرشيف بخ استخدمت أسلحة كيماوية في الجزائر 7 قتلى في حوادث المرور خلال يوم واحد نسبة جاهزية موزعات البريد الآلية بلغت 96 بالمائة عبر الوطن 10 بالمائة من الأوروبيين فقط يثقون بالولايات المتحدة لضمان أمنهم! سكن.. هذا موعد انطلاق أشغال إنجاز 196 مرفقا عموميا طقس.. هبوب رياح قوية على ولايات عدة أسعار النفط تتجه لتحقيق مكاسب أسبوعية "جريت وول موتورز" تستعد لإطلاق مركز تقني للتصديق والاعتماد في الجزائر ردًا على مجازر غزة.. المقاومة تستهدف عمق الاحتلال برشقات صاروخية وزير النقل يوجه بتوسعة مطار بجاية وتحسين ظروف استقبال المسافرين إطلاق شبكة 5G في الجزائر.. التحضيرات جارية وزارة التربية.. إجراءات صارمة ضد مقاطعة صب العلامات شركة صينية رائدة تعتزم إطلاق مصنع للسيارات وقطع الغيار في الجزائر انقلاب ناعم في الأفق.. هل وقّع زيلينسكي وثيقة النهاية؟ إطلاق تطبيق "تاكسي سايف" لتحسين خدمات سيارات الأجرة المحرقة قادمة.. آلة الحرب الصهيونية تستعد للانقضاض على غزة النيابة توجه تهمًا خطيرة له.. التماس 10 سنوات سجنًا نافذًا وغرامة مالية ضد صنصال هزة جديدة في المدية.. زلزال بقوة 4 درجات دون خسائر