خلق الله الشرق شرقًا والغرب غربًا، وفرّق بينهما في الطبيعة والمناخ والخصوصية النفسية والفكرية للإنسان والشعوب.. وكان الشرق أسمى وأرقى من الغرب عبر مئات القرون، فهو مهد الديانات السماوية والحضارات الإنسانية، فلماذا يسعى الشرقيُّ إلى أن يكون غربيًّا في كثير من مظاهر الحياة، رغم أن الغرب كان مصدر الشرور التي عرفها العالم منذ ما يُسمّى عصر النهضة الأوروبية، فهو منبت القوى الاستعمارية، والأفكار الهدّامة للأديان السماوية وللقيم الإنسانية؟
الجواب الأولي نجده عند العلاّمة “ابن خلدون” في الفصل الثالث والعشرين من مقدّمته، حيث يقول: “المغلوب مولعٌ أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”. ولا أحسب “المغلوب” الذي عناه “ابن خلدون” هم عموم الناس من البسطاء الذين لا يمتلكون حق الاختيار في كثير من شؤون الحياة، ولا حظّ لهم في تغيير الزيّ متى أرادوا، فهُم يلبسون ما توفّر لهم من زيّ حتى ولو كان ذلك من أسواق “الشيفون” كما يحدث في بلدان عربية كثيرة في عصرنا الراهن!
واعتقادي أن المعني بـ “المغلوب” هم فئة المثقفين الذين لهم دراية ومعرفة بـ “الغالب”، ويمتلكون الحد الأدنى من القدرة على تغيير الزيّ، ولهم صداقة مع “الموضة” التي تعني التقليد والاقتداء.. وإذا سلّمنا بأنّنا نحن المغلوبين، والغرب هو الغالب، ولا غالب إلاّ الله، فأين هو المثقّف من أزمة هذه “المغلوبيّة” التي طال أمدها في أمّة بسطَت سلطانها على الدّنيا خلال قرون عِزّها ومجدها؟ أليس دور المثقّف هو أن يُبقي الشرق شرقًا والغرب غربًا، ويحافظ على الحدود الفاصلة بينهما؟ أليس المثقف هو حارس القيم والأخلاق والموروث التاريخي والثقافي في المجتمع؟
من المؤسف القول بأنّ المثقف بمفهومه التقليدي يكاد أن ينقرض، فلم نعد نسمع له صوتًا في فوضى الأصوات التي نحيا فيها، فالكل يريد أن يتكلّم، وقليلون مَن يستمعون أو يمتلكون القابلية للاستماع! ويجب الاعتراف بأننا في عصر مثقّفٍ من نوعٍ آخر صنّعته الوسائل التكنولوجية “الغربية” وشبكات التواصل الاجتماعي! مثقف لم ينجح في أن يكون “قوميًّا” يُعنَى بشؤون قومه ووطنه وواقعه المحلّي، فوجد نفسه بـ “ضربة بنان” على شاشة ضوئية مثقفا “كونيًّا” يشغل فكره وذهنه بشؤون العالم أجمع، وربما بين المثقفين “الضوئيين” من يجهل بعض الزوايا في بيته وما يعصف في أذهان أفراد عائلته!
إنّ الغرب لا يقدّم شيئًا بالمجّان ولا يؤمن بفكرة “عمل الخير من أجل سعادة الإنسانية”، فهو متوحّش بطبيعته ولم يتخلّ عن روحه الاستعمارية، وما زال يُدرّس لأبنائه في الكتب التعليمية بأن الشرق مجرد جغرافية ينتشر عليها “متوحّشون” غير قابلين للتحضّر ويجوز التضحية بهم وسحقهم من أجل رفاهية المجتمعات الغربية، وهذه رؤية المفكر الجزائري “مالك بن نبي”، وقد عبّر عنها الفيلسوف “نيتشه” بطريقته في مشروع “الإنسان الأعلى” – السوبرمان – الذي سعى إلى تجسيده!
فهل شبكات التواصل الاجتماعي – مثلا – من الخدمات “المجّانية” التي قدّمها ويقدّمها الغرب لكل العالم، والشرق على الخصوص، وهو لا يرجو أن يجني منها الفوائد التي تتوافق مع روحه الاستعمارية؟ نزعم أن هذه الشبكات وما يرتبط بها من وسائل تكنولوجية هي أدوات للهيمنة الغربية على العقول وحتى العواطف، ورغم فوائدها الفكرية والعلمية والإنسانية فقد تبدّت أهدافها “الاستعمارية” الهدّامة في مواقف وأحداث كثيرة شهدتها خارطة الشرق.. والمثقفون “الضوئيون” من نتائجها، فهم يقومون بأدوار بالغة الخطورة وصلت إلى درجة العبث بالدين الإسلامي، فمثلا هناك ناشطون على اليوتوب يزعمون بأن القرآن العظيم يحتوي على أخطاء لغوية ونحوية! إنهم المثقفون المزيّفون الذين استهوتهم لعبة الضوء مثل الفراش فانجذوا إليها يرجون تحقيق مكاسب مثل الشهرة والمال، غير واعين بأنّ الغرب الذي عجز عن اختراق الحصانة الروحية للأمة بالاستعمار المباشر وغير المباشر قد استغلّهم لينفذ إلى أعماق المجتمعات العربية وينشر فيها الأفكار الهدّامة، أو يروّج لشعارات وأزياء وعادات تتصادم مع عناصر الأصالة الإسلامية والعربية..
في سياق هذه الرؤية، توجّهنا إلى نخبة من الكُتّاب بهذه الرسالة: لن نخوض في مفهوم الثقافة والمثقف في عصرنا الراهن، ولنتفق بأن المثقف هو كل من يمتلك قدرًا من المعرفة ومقدرة على التأثير في مجموعة من الناس باستعمال وسائل التواصل التكنولوجية المعاصرة لا سيما النشر الرقمي بوسائل السمعي البصري (الفيديو).. فيُطلق الآن على المثقفين الآن مصطلح: المؤثّرين!
يُفترض في المثقف أن يكون إيجابيًّا وحاملا لعناصر المنظومة الأخلاقية والقيم الروحية، وله رسالة في الرقيّ بمجتمعه المحلي أو الوطني أو أمّته عمومًا.. غير أننا نرى بروز مُؤثّرين “مثقفين” مُزيّفين ينشرون المُغالطات في مجالات: التاريخ، الدين، الأخبار.. ويعملون على ترسيخ تقاليد في ترويج الأكاذيب والأفكار الهدّامة لمجتمعاتهم ولأمتهم، بوعي منهم أو بدون وعي..
ما هي رؤيتكم لرسالة المثقف عموما؟ وكيف كان دوره في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي مثلا؟ وهل يُمكن استشراف خطر هذا النوع من المثقفين باعتباره “أسهل” مدخلٍ إلى عمق المجتمع والأمة، وقد يكون معول هدمٍ وربما عنصرا للتدمير الذاتي؟ وهل يحتاج الأمر إلى “مُدوّنة أخلاقيّة” لتحصين المجتمع روحيًّا وفكريًّا من هؤلاء المؤثّرون؟
عزيزي القارئ، هل أنت معنيٌّ بهذه القضية وتستشعر الأخطار المستقبلية القادمة من بوابّة المثقفين المزّيفين أو المؤثّرين الجُدد؟ يُقال إن قشّةً قصمَت ظهر البعير، وقطرةً أفاضت الكأس.. وأدعوك تماما كما أدعو نفسي وكل القرّاء ألّا نكون هذه القشّة أو تلك القطرة، فلنكن بنّائين في مواجهة الهدّامين الذين ينتمون إلى زمرة المثقفين المزيفين، مع خالص الإجلال والتقدير لكل المثقفين الحقيقيين والمؤثّرين البنّائين.. وحفظنا الله وإياكم من أن نكون من زمرة المثقفين الذين اعتنقوا مذهب “النّعامة”!

المؤثِّرون الجُدد وثقافة التزييف.. كيف نبقى بشرًا ولا نضيع إنسانيّتنا؟
مخيفٌ هذا العالم، إنّ البشريّة تمضي نحو حتفها بشكلٍ لا يمكن تصوّره، صار نقل الخبر أهم من الخبر، الكاميرات خلعت روحها، نرى صورة طفلٍ يُحتضر من الجوع أمام أعين الكون المُتخم من وجبة “المشاهدات”، فنركض لننشرها على حساباتنا الإلكترونيّة كي تبقى حيّة، تموت كلّ الحسابات الإنسانيّة من أجل “ترند”. ربّاه ما هذه الفوضى التي أصابت أرواحنا حتى بتنا هكذا؟!
ما هي هذه الثقافة التي تسلّلت من ثقوب العالم الأزرق إلينا؟ هل نعي تمامًا هذه القنبلة الموقوتة التي وُضِعَت بيننا المسمّاة “المؤثّرون الجُدد”؟
في الأمس، كنّا نسيّر الآلات، نرتّب إعداد لوحة البحث، نخيط بأيدينا شبكاتنا العنكبوتيّة، واليوم تسيّرنا الآلات، ترتّبنا وِفقًا للعصر السّريع الذي لا يمكن اللحاق به إن لم نترك مشاعرنا جانبًا، أفكارنا جانبًا، ردّات فعلنا جانبًا، ونصعد في القطار لنسابق أنفسنا نحو الهلاك، من يهلك أوّلًا؟ وضعنا إنسانيّتنا رهن ذكاءٍ اصطناعيّ، وعِوَض أن نستخدمه استخدَمنا.
أرى أن كلّ الأحكام، والحِكَم، التي نمضي بها والتي قرأناها، والتي سمعنا بها من قبل، قد قيّدتنا، قد صنعت حواجز حول ما نريد أن نقول، قَولَبت مشاعرنا وأحاسيسنا، وجعلتنا نردّد ما هتف به أصحاب التجارب السّابقة، أصبحنا أسرى الشّاشات التي تعرض المشاهد بسرعة، والأحداث بسرعة، والمشاعر المتناقضة بسرعة، أصبحنا أسرى الـ “ريلز” والـ “بلوغرز” والمنشورات، والمؤثّرين الجدد.
المؤثّرون الجُدد، هذا المصطلح الجديد الذي رُوّج له هو مسحوق غسيل جديد تفوّق على جميع المساحيق التي عرفناها، إذ إنّه مختصّ بغسل الأدمغة، أدمغة الجيل الجديد، جيل الألفية الثالثة، هذا الجيل الذي نشأ مع تكنولوجيا جديدة تمارس سياسة الأرض المحروقة على كلّ ما كنّا نعرفه، فقد صارت القضايا “ترند” وتحوّلت الآراء إلى “Like”، وصرنا نردّد ما يطلبه منّا “الترند”، تخيّلوا أنّ من يتحكّم بجميع وسائل الاتصال: ( لفايسبوك، إكس، إنستغرام، يوتيوب، تيليغرام، تيكتوك…) هم بغالبيّتهم ممّن يناصرون الدّول المغتصِبة، فكيف نستطيع نحن الأمّة المستورِدة أن نميّز بين حقيقة ما يُنشر؟ كيف يمكننا أن نسمّي ما نأخذه هو الثقافة؟ هل تكون الثقافة التي يتمّ التحكّم بها عبر إظهار المحتوى المناسب لأصحاب هذه المواقع وإخفاء المحتوى الأصيل، ثقافةً تُبنى عليها أجيال الغد؟ إنّ الخطر كبير وعظيم، فالمؤثّرون الجدد هم بغالبيتهم أدوات تنفّذ سياسة صنّاع القرار، عن قصد أو من دون قصد، وكما يقول المثل: إن كنت تعلم فتلك مصيبةٌ وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظمُ.
عَودٌ على بدء، لست ناكرًا لما غيّرته التكنولوجيا وحسّنته في مجالات الحياة، ولست من دعاة هجرها، فهذه موجةٌ كبرى لن تترك في طريقها معاندًا، ونحن مجبَرون على التماشي معها بل والغوص بها واستخدامها بالشكل الصحيح، يسأل أحدهم: وما هو الشكل الصحيح؟ أُجيب بأنّه يكفي ألّا نتّخذ أي كلامٍ يُنقل كحقيقةٍ مُثبتة، فنشر التضليل ليس حديث العهد، لكنّ التكنولوجيا الجديدة حرّرته عبر دعمه في الانتشار بشكل سريع، فواجبنا كأمّةٍ لها تاريخها وأُمِرَت بالتفكّر والتشكيك والتأمّل بغية الوصول إلى الحقيقة، أمرنا الله أن نفكّر في الدين الذي يبني كلٌّ منّا حياته عليه، كي لا يكون إرثًا نتناقله، بل نقتنع فيه بالعقل والقلب، فما بالكم بقضايا أقلّ أهمية؟ كتاريخ وجغرافيا وسياسات دول وحروب وغيرها؟ فمن المجدي أن نقف لنفتّش عمّا نسمعه من حقائق يدّعي أصحابها الثقافة والمصداقيّة، فنكتشف بأنفسنا الحقيقة، ولا نكون كالقطيع الذي يسوقه راعٍ أعمى وكلب أرعن.
ثمّ أخبروني بالله عليكم، من الذي قال أنّ تجربة فلان مهما علا شأنه، ومهما ذاع صيته، ستنطبق حكماً عليّ؟ وأنّ الاقتباس الذي قرأناه من روايةٍ ما هو شعورٌ يجب أن يلبسَني أو ألبسه؟! وأنّ واحدًا من المؤثّرين يحكي عن حالةٍ نفسيّة وطريقة علاجها فنبصم له بالأصابع العشرة.
فلنعش تجاربنا، ولنحيا كما نريد وبما نشعر، إن تَأَلّمنا نقول: تألّمنا، لا داعي أن نتظاهر بالقوّة، التظاهر بالقوّة ليس قوّة، إنّه يأكل من أجسادنا، من قال أنّ البُعد عن مواجهة المشكلات، سيخلق لنا حلًّا ربّانيًّا على مقاس ما نسعى إليه؟ علينا أن نكتشف ذواتنا، أن نعرف ما نريد أن نكون، وما نريد أن نقول، هذه حياتنا، تجربتنا تنطلق مِمّا نشعر نحن به، ومِمّا نريده، ومما نكتشفه بالتشكيك والبحث والتفتيش، وليس ممّا كتبه أو قاله الآخرون، لسنا دُمى تحرّكنا كلمات من سبقنا، ولا من يعتلي منصّة يوتيوب أو تيكتوك، كلٌّ له تجربته، كلّ ما يهمّ أن نبقى بشرًا وألّا نبيع إنسانيّتنا، لأنّ وجودنا كبشرٍ مهدّد، فإن عدنا إلى إنسانيّتنا وبحثنا عن الحقائق التي يُروّج لها المؤثّرون نجَونا، وإلّا فإنّ الهلاك المخيف يترصّدنا.

ثقافة من غبار أزرق.. كُن تافهًا تكن موجودًا!
بين الأمس واليوم خيوط عنكبوتية أوقعتنا بشباكها، وثقافة الأمس دُفنت تحت ركام العالم الأزرق، وبين الأمس واليوم صوت مخنوق تبعثه الثقافة التي انحرفت نحو هاوية المجهول.. ممّا لا شكّ فيه أنّ وسائل التّواصل الاجتماعي هي الأكثر تأثيرًا اليوم، خصوصًا أنّ الهواتف الذّكية احتلت كيان الإنسان إلى أن أصبحت جزءًا لا يتجزّأ منه، فأصبحت الرّفيق الدائم في كلّ الأوقات، وفي كلّ مكان، لكن مع هذه العاصفة التّكنولوجية، وهذا الانقلاب الكبير في الثّقافة، من هم مؤثِّرو اليوم؟ وإلى أي مدى أثّروا على الثقافة؟
صراع قائم خلقه إعصار التّكنولوجيا ووسائل التّواصل الاجتماعيّ بين الرّوح والمادّة، ومع هذا الانتقال السّريع داخل هذه القرية الكونيّة التي يحكمها الضّوء، رجحت اليوم كفّة المادّة، كيف؟ ولماذا؟
لم تكن المجتمعات مثاليّة منذ الأزل، فالشّرّ موجود في كلّ زمان وفي كلّ مكان، لكن ما يحصل اليوم هو سرعة انتشار الفساد علنًا، على مرأى كلّ فئات المجتمع، بكلّ شرائحه، صغارًا وكبارًا، تتنقّل صورة الفساد بكلّ حرّيّة، ومن دون أيّ ضوابط لتترك بصماتها في العقول والقلوب، بدايةً يستقبل الإنسان الصّورة بشكل غريب ومرفوض، لكن ما الذي يحصل؟ يتدرّب تدريجيًّا حتّى يصبح الغريب الفاسد مقبولًا، ويتقبّله العقل، وشيئًا فشيئًا يصبح عادة متواترة بين النّاس، متجذّرة في عقول الجيل الجديد، يتلقّاها على أنّها قيم أساسيّة يحقّ له أن يتماشى معها، ومن يلام هنا؟ ومن المسؤول؟ يرمون ضعف الكبار وإهمالهم على الصّغار! وفي ظلّ هذا العالم الغريب، كيف ستكون تلك الأقلّيّة المعارضة، صاحبة القيم؟ منبوذة، متخلّفة، معرّضة للسّخرية، تنهشها أنياب الحياة! لتصبح ثقافة التّبعيّة والتّقليد الأعمى منهجًا يطبّقه الأفراد، يغوصون في العالم الأزرق، يستقبلون تلك الأضواء وينبهرون بها، ويمشون خلفها حيثما تشاء، يظنّون أنّها الحرّية، ولا يعلمون أنّها التّبعيّة التي تقيّد العقول، وتغطّيها تحت هذا الشّعار، وهل الحرّيّة تفاهة وغناء ورقص وفجور وعريّ…؟
حرّيتي تكمن في استخدامي لعقلي، في الحفاظ على كرامتي، ومبادئي، وفي الحفاظ على إنسانيّتي، ورقيّي! وإلّا ما الذي يميّزني عن الكائنات الأخرى؟! وأن تكون مختلفًا لا يعني أنّك على خطأ إذ يشعر البعض برغبتهم في الانضمام إلى قافلة التّفاهة فقط حتّى يتماشوا مع الواقع من دون وعي بأنّ في هذه التّبعيّة غياب للعقل الذي يُعدّ خاصّيّة الإنسان التي ميّزه بها اللّه عن سائر الكائنات، فماذا تبقّى من الإنسان اليوم؟
ضوء ساحر، لا بدّ لنا من استخدامه، ولكن بالعقل، نحوّل سحره إلى إشعاعات معنويّة ترتقي بنا إلى عالم الرّوح، إنّ العيب ليس في التّكنولوجيا إنّما فينا، نحن البشر، حيث أنّنا في رحلتنا الافتراضية نقابل أشخاصًا يتقمّصون شخصيّات أخرى، يخلعون عنهم رداء الحياء، ويرمون خلف شاشاتهم مبادئ الدّين، والأخلاق، والقيم، كأنّه عالم يبيح كلّ شيء محظور في العالم الواقعيّ، تراهم يفعلون أيّ شيء في سبيل ماذا؟ في سبيل تلك المادّة التي حوّلت النّاس إلى روبوتات يحرّكها الضّوء كما يشاء… حتّى أصبح التّأثير مرتبطًا بكمّيّة استقطاب الضّوء واللّايكات، وكلّه رهن التّفاهة، إضافة إلى تكريمات ومهرجانات… وكلّها ماذا تزرع في عقول الجيل الجديد؟ تفاهة مقابل الشّهرة، وانتشار لمبدأ: كُن تافهًا تكن موجودًا! فعلًا هم أوّل وأكبر المؤثّرين، كيف لا، وجيوش التّبعيّة خلفهم؟ كيف لا، وحتّى بعض الوسائل الإعلاميّة، إن لم يكن معظمها تروّج لهذه التّفاهات، فأيّ مواضيع تتناول؟ كيف لا وحتّى بعض الأقلام استفادت من هذه الثّورة وجمعت بين القلم والمادّة… إنّها حرب ناعمة تمارس سلطتها على المجالات كافّة لإلغاء الهويّة، وتفكيك الأسَر، وضرب المجتمعات والقيم، وصولًا إلى موت حقيقيّ قد تمارسه هذه السّلطة بشكل غير مباشر كما يحصل اليوم مع تقليد الأولاد لبعض الفيديوهات التي تحتوي على تحدّيات قد تكون نهايتها مأساويّة من دون الوعي لهذه المخاطر.
واليوم في ظل هذا العصف الكبير، أتستطيع وحدك حماية ولدك من هذا الانحراف الكبير؟ إنها ليست مسؤولية فردٍ وحده، بل مسؤولية تكاتف، ووعي جماعيّ في أن يكون كلّ إنسان راعيًّا للأمانة بين يديه، لأنّ البيت له تأثير، وكذلك المجتمع المحيط، والمجتمع الافتراضيّ الذي لا حدود له.
كم نحن بحاجة كبيرة اليوم لاستعادة قيمنا، لحلّ جذريّ لما هو منتشر، فلو أنّهم يرون أنفسهم وتصرّفاتهم بعين ناقدة، لربّما خجلوا من هذه المتاهة، لكنّ الاعتياد أصبح خير ملاذ لتفجير المكبوت إلى أن وصلنا إلى هذا الانسلاخ الكبير بين العالمَين: الواقعيّ والافتراضيّ!
ويبقى السّؤال الغامض الذي يراودنا: إلى أين بعد، ولماذا هذا الارتباط الكبير بالمادّة، وهل يصحّ لهذه الثّقافة أن تكون أسلوب حياة سليم برأيكم؟ على أمل أن نتفكّر، ونراجع حساباتنا حتى نصحّح من إخفاقاتنا قبل فوات الأوان!

المجتمع في مواجهة فوضى الأفكار الهدّامة..
المثقفون المزيّفون.. خطرٌ يشوّه الحقائق ويعبث بالعقول والضمائر!
لن نخوض في مفهوم الثقافة والمثقف في عصرنا الراهن، ولنتفق على أنَّ المثقف هو كل مَن يمتلك قدرًا من المعرفة ومقدرة على التأثير في مجموعة من الناس باستعمال وسائل التواصل التكنولوجية المعاصرة، فيُطلق على المثقفين الآن مصطلح: المؤثّرين!
ويُفترض في المثقف أن يكون إيجابيًّا وحاملا لعناصر المنظومة الأخلاقية والقيم الروحية، وله رسالة في الرقيّ بمجتمعه المحلي أو الوطني أو أمّته عمومًا.. غير أننا نرى بروز مُؤثّرين “مثقفين” مُزيّفين ينشرون المُغالطات في مجالات: التاريخ، والدين، والأخبار.. ويعملون على ترسيخ تقاليد في ترويج الأكاذيب والأفكار الهدّامة لمجتمعاتهم ولأمتهم، بوعي منهم أو بدون وعي..
في عصر يزخر بالمعلومات المتدفقة والانفتاح على جميع أنواع الثقافات والمعارف، يبرز المثقف كحامل مشعل التنوير والتوجيه الفكري. غير أنَّ هذا الدور العظيم يتعرض لتهديد مباشر من قبل فئة تُسمّي نفسها “المثقفين”، لكنها في الحقيقة تمثل خطرًا كبيرًا على المجتمعات، وهؤلاء هم المثقفون المزيّفون الذين يسعون إلى تشويه الحقائق ونشر الأفكار الهدامة التي تزرع الفوضى والانقسام في النسيج الاجتماعي.
مَن هم المثقفون المزيفون؟
المثقف المزيف هو شخص يتبنّى خطابًا يدّعي من خلاله امتلاك المعرفة والحكمة، لكنه في الواقع يفتقر إلى العمق الفكري والمصداقية العلمية، ويتميز هؤلاء باستخدام المصطلحات الرنانة، والتلاعب بالعواطف، واستغلال وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لنشر أفكارهم دون تقديم أدلة قوية أو استناد إلى أسس معرفية راسخة.
تشويه الحقائق وأثره على المجتمع
ولعل تشويه الحقائق هو أحد أخطر الأسلحة التي يستخدمها المثقفون المزيفون، حيث يقومون بتحوير الوقائع وتقديم المعلومات المضلّلة التي تخدم أجنداتهم الشخصية أو الأيديولوجية، وهذا التشويه يؤدي إلى فقدان الثقة في المصادر الموثوقة، ويخلق حالة من الشك والبلبلة بين أفراد المجتمع، مما يسهل استغلالهم وتوجيههم نحو أهداف تخريبية.
وعلى سبيل المثال، قد يروّج المثقف المزيف لنظريات المؤامرة التي تزرع الخوف والانقسام، أو يدعم أفكارًا تبرّر العنف أو الكراهية تحت ستار الحرية أو العدالة، وهذه الأفكار لا تؤدي فقط إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي، بل تضعف أيضًا مناعة المجتمع أمام التحديات الحقيقية التي تواجهه.
فوضى الأفكار الهدّامة
إحدى السمات البارزة للمثقفين المزيفين هي نشر الأفكار الهدامة التي تهدف إلى تدمير القيم المجتمعية الأصيلة، حيث يستخدمون خطابًا يدعو إلى التحلل من الأخلاق أو النيل من الرموز الثقافية والدينية، متذرّعين بالحداثة أو التحرر الفكري. وهذا النوع من الخطاب يهدد القيم الأساسية التي تربط أفراد المجتمع ببعضهم البعض، مما يؤدي إلى تآكل الهوية الثقافية وإضعاف الانتماء الوطني.
أسباب انتشار المثقفين المزيفين
هناك عدة عوامل تسهم في انتشار هذه الظاهرة، منها:
-1 وسائل التواصل الاجتماعي: وفّرت منصات التواصل الاجتماعي بيئة مثالية لهؤلاء لنشر أفكارهم دون رقابة أو مساءلة.
-2 غياب الوعي النقدي: يفتقر كثير من الناس إلى القدرة على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، مما يجعلهم عرضة للتأثر بخطاب المثقفين المزيفين.
-3 البحث عن الشهرة السريعة: يلجأ بعض الأشخاص إلى ادّعاء الثقافة والمعرفة لتحقيق شهرة زائفة وجني مكاسب شخصية.
كيف نحمي المجتمع من خطر المثقفين المزيفين؟
ولمواجهة خطر المثقفين المزيفين، يجب اتخاذ خطوات جادة على المستويين الفردي والجماعي:
-1 تعزيز الوعي النقدي: يجب تعليم الأفراد كيفية التحقق من صحة المعلومات وتمييز المصادر الموثوقة.
-2 تشجيع الحوار البناء: دعم النقاشات التي تستند إلى الأدلة والمنطق وتشجيع الأصوات الحقيقية ذات المعرفة العميقة.
-3 دور المؤسسات التعليمية والإعلامية: يجب أن تتحمّل هذه المؤسسات مسؤوليتها في تقديم المعرفة الصحيحة وتوعية المجتمع بخطر المثقفين المزيفين.
-4 محاربة التّضليل: تطوير أدوات وتقنيات لرصد ومواجهة المعلومات المضللة على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
فالمثقفون المزيفون ليسوا مجرد ظاهرة عابرة، بل هم تحدٍّ حقيقي يهدد استقرار المجتمعات وسلامتها الفكرية، وإن التصدي لهم يتطلب وعيًا جماعيًّا وإرادة حقيقية للحفاظ على الحقيقة والقيم المجتمعية، فالتثقيف الحقيقي هو السلاح الأهم الذي يمكن من خلاله بناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة الأفكار الهدّامة التي تحاول زعزعة بنيانه.
وقد سبق أن كتبت عن الثقافة بعد أزمة “كورونا” فقلت إن لكل أمة ثقافتها التي تمثل هويتها وخصوصيتها ودرعها الواقية وحصنها الحصين ضد الغزو الثقافي والفكري وذوبان الهوية وتمييعها في عصر العولمة الذي تحاول فيه الدول المتقدمة فرض هيمنتها الثقافية على الشعوب وصبغها بصبغتها، ومن هنا وجبت المحافظة على ثقافة الأمة وتنميتها والعمل على ازدهارها في كل عصر بما يلائم مستجدات هذا العصر ومتطلبات الحياة في عالم متنوع ومتطور دون إحساس بالعزلة أو الدونية، وتنمية روح الانتماء والاعتزاز عن طريق الثقافة والفكر والأدب، وكل ذلك يُعرف بالقوة الناعمة.
ولقد كان لجائحة “كورونا” آثارها البالغة على مختلف شعوب العالم، حيث فرضت العزلة بين الدول من جهة، كما فرضت التباعد الاجتماعي بين أبناء البلد الواحد، بل وصل الأمر للتباعد بين أفراد الأسرة الواحدة، وفرض أنماطا من العيش لم نتعوّد عليها من قبل.
وقد تأثّرت عناصر الثقافة بهذا الوباء كغيرها من أنماط الحياة فأُلغِيت المؤتمرات والمهرجانات الثقافية والفنية والأدبية، كما أُلغيت حفلات الأفراح والأنشطة الاجتماعية في الأندية الرياضية والنوادي الأدبية واتحادات الكتاب بفروعها المختلفة، ولكن التقدم التقني في وسائل التواصل الاجتماعي مكّن الإنسان من استغلاله في تجسير الهوة وتضييق الفجوة وتقليل الخسائر الناجمة عن العزلة والتباعد، فبدأ الأفراد والمؤسسات الثقافية والاجتماعية الأهلية في ابتكار لقاءات وندوات وأمسيات ومحاضرات ثقافية وعلمية عن طريق هذه الوسائط، ومن ذلك في مصر مؤسسة الكرمة للتنمية الثقافية والاجتماعية وملتقى قناديل الفكر والأدب وملتقى السرد العربي وصالون الشباب ولقاء الأجيال وغيرها، ثم تبعتها المؤسسات الثقافية الرسمية مثل المجلس الأعلى للثقافة واتحاد كتاب مصر والأندية الأدبية التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة.
ولما كان التعليم من أهم روافد الثقافة في المجتمعات، فقد اهتمت به الدول وخططت لاستمراره بكافة السبل والوسائل مستخدمة ما تيسّر لها من وسائل التواصل الاجتماعي.
ورُبّ ضارة نافعة كما يقول المثل، فلعل هذه الوسائل تتيح مزيدا من التواصل الثقافي بعد عودة الحياة إلى طبيعتها، وتقلل من الزّحام في وسائل المواصلات وتغيّر من نمط الاحتفالات والمهرجانات وتيسّر سُبل الحياة مع الاحتفاظ لكل مجتمع بثقافته التي تميّزه عن غيره من المجتمعات وتحفظ له هويته الثقافية والاجتماعية.
ولما كانت الحاجة ماسة لتصحيح مسار الثقافة والمثقفين للسَّير على طريق الثقافة الجادة التي يسهم أصحابها في بناء المجتمع والنهوض به بالتأثير في أفراده بحسبان المثقفين الحقيقيين ذوي أثر كبير وهم القوة الناعمة في المجتمع، فقد أصدرت النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر برئاسة الشاعر والناقد الدكتور “علاء عبد الهادي”، رئيس مجلس إدارة النقابة والأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب العرب، والتي أشرفُ بعضوية مجلس إدارتها ورئاسة لجنة العلاقات العربية بها، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الثقافة المصرية المعاصرة، “ميثاق الشرف الثقافي والأدبي”، مكوّنًا من ثلاثة محاور بعد ديباجته التي اعتمدت مواد الدستور الثقافية.
وجاء في ميثاق الشرف: بالإشارة إلى المواد أرقام 47، 48، 49، 50، من الدستور التي تشكل المقومات الثقافية لجمهورية مصر العربية، بدايةً بالـتزام الدولة بالمحافظة على الهوية الثقافية بروافدها الحضارية المتعددة، وحق فئات الشعب كافة في الثقافة دون تميـيز، وانتهاءً بالمحافظة على تراث مصر الحضاري والثقافي بجميع تنوّعاته: المصرية القديمة والقبطية والإسلامية، بوصفه ثروةً قومية وإنسانية، فضلًا عن الاهتمام بالحفاظ على مكوّنات التعددية الثقافية في مصر.
وانطلاقًا من المادة رقم 67 من الدستور المصري، التي تنصّ على أنَّ حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة، وتلـتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين، وحماية إبداعاتهم، وتوفيـر وسائل التشجيع اللازمة لذلك، وتنصّ على أنه لا يجوز رفع الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية، كما لا يجوز رفعها ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة.
وإيمانًا بما جاء في المادة رقم 65 التي تنصّ على أنَّ حرية الفكر والرأي مكفولة، وأنَّ لكل إنسان حق التعبـير عن رأيه بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، أو غيـر ذلك من وسائل التعبـير والنشر. وهذا ما يحتم الحاجة الملحة لتوافر ميثاق شرف ثقافي، وذلك استنادًا إلى المادة رقم 77 من الدستور التي أقرّت مواثيق الشرف الأخلاقية والمهنية بوصفها أداة لتنظيم العمل الثقافي، وانطلاقًا من الإيمان المطلق بأنَّ الكاتب يمثل عقل الأمة الواعي وضميرها الحي، وأنَّ حرية التعبيـر يجب أن تكون مقرونة بمسؤولية الكلمة، وإدراكًا للمخاطر التي تعرضَت لها مهنة الكتابة على مدى عدة عقود نالت من مهنيّتها وموضوعيّتها، وإسهامًا في ضبط لغة الحوار الأدبي بيـن المنتمين إلى أسرة الكتابة وبينهم وبيـن بقية فئات المجتمع، ونظرًا إلى غياب قوانيـن جامعة تنظم ممارسات هذه المهنة السامية.
أصبحت الحاجة ملحّة إلى وجود ميثاق شرف أدبي يُلزم المنتسبين إلى مهنة الكتابة أخلاقيًّا بما جاء فيه، ويستند إلى أحكام الدستور المصري، وقانون النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر رقم 65 لسنة 1975 المعدل بالقانون رقم 19 لسنة 1978، ولوائح النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر والنقابات المناظرة، فضلاً عن الأعراف النقابية العامة، ومن ثمّ تنادى أعضاء النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر إلى وضع أول ميثاق شرف أدبي في مصر متضمنًا ما يلي:
أولاً: المبادئ العامة
الكتابة مهنة إبداعية ورسالة جمالية، والكاتب هو كل مَن يمارس مهنة الكتابة من خلال النشر المتواتر.
يشمل هذا الميثاق المنتمين إلى مهنة الكتابة كافةً.
-1 حرية الكاتب مُكوّن أصيل من حرية الوطن.
-2 رفض أيّ شكل من أشكال ممارسة التطبيع الثقافي أو الإعلامي، أو الدعوة إليه.
-3 ضرورة بثّ روح الانتماء للوطن وتأكيد قيم المواطنة.
-4 تأكيد الهوية اللغوية والتاريخية والحضارية والقومية.
-5 احتـرام الآخر وفتح طرائق للحوار الإيجابي المثمر معه.
-6 التصدي للانغلاق الفكري ومجابهة كل أشكال العنف والإرهاب الفكري أو الجسدي أو الاجتماعي.
-7 صون الآداب العامة من أشكال الابتذال الخارج عن مقتضيات الضرورة الفنية للعمل.
-8 صون حقوق المرأة والأسرة، وذوي الاحتياجات الخاصة.
-9 حقوق الملكية الفكرية مصونة، ولا يجوز انتهاكها، وتُعدّ النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر الخبـير الأول فى هذا الميدان، وتهيب النقابة العامة لاتحاد الكتاب بالجهات القضائية باعتبار النقابة، بمَن تمثلهم من آلاف المفكرين والنقاد والمبدعـين والشعراء والروائيين وكتاب أدب الطفل والخيال العلمي والدراما والسيناريو، الخبير الأول في قضايا التعبـير بالكلمة.
-10 النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر هي الإطار الشرعي الذي يتّحد فيه الكُتّاب دفاعًا عن المهنة وقيمها وحقوقها، وهي المكان المشروع لتسوية أية خلافات بين أعضائها.
-11 الالتزام بما قرّره الدستور المصري من كون الثقافة حقًّا أصيلاً لكل مواطن بغضّ النظر عن مكانته أو سنه أو جنسه أو عقيدته، وبقية القيم التي يضمنها الدستور.
-12 يضاف الإقرار بما ورد فى هذا الميثاق إلى القَسَم النقابي لمَن انضم من نقابات أو هيئات إلى هذا الميثاق للالـتزام بما جاء فيه.
ثانيًا: واجبات الكاتب والتزاماته:
-1 الالتزام فيما يُكتب من آراء بمقتضيات ميثاق الشرف والأمانة والصدق بما يحفظ للمجتمع قيمه، ولا ينتهك حقًا من حقوق المواطنـين ولا يمسّ حرياتهم.
-2 الامتناع عن أيِّ شكل من أشكال الدعوة إلى العنصرية أو التعصّب أو ازدراء الأديان أو التمـييز بين فئات المجتمع أو تحقـير أيِّ من طوائفه.
-3 الامتناع عن انتهاك قيم المجتمع أو ثوابت الضمير الثقافي العربي.
-4 الامتناع عن استغلال الحياة الخاصة للغيّر في التشهير بهم أو الإساءة إلى سمعتهم أو اتهامهم بغـير سند.
-5 إدانة أيّ انتهاك لقوانـين الملكية الفكرية سواء على مستوى النصوص أو الأفكار.
-6 الكُتّاب والأدباء مسؤولون مسؤولية فردية وجماعية عن الحفاظ على كرامة مهنة الكتابة ومصداقيتها.
-7 الامتناع عن جميع أشكال التجريح الشخصي أو الإساءة المعنوية أو الأدبية أو المادية للكتّاب، أو أية ممارسة يكون من شأنها إهدار الحقوق الثابتة لهم بأسمائهم أو بصفاتهم، فضلاً عن كل ما يخالف الضمير المهني.
ثالثًا: حقوق الكاتب
مع مراعاة كل ما ورد فى هذا الميثاق من واجبات الكاتب والتزاماته، تُضاف حقوق الكاتب على النحو التالي:
-1 لا يجوز أن يُمَسَّ أمْنُ الكاتب بسبب رأيٍ أبداه، أو معتقدٍ اعتنقه.
-2 لا يجوز تهديد الكاتب أو ابتزازه أو إجباره على كتابة ما يخالف ضميره المهني.
-3 لا يجوز التسامح في جريمة إهانة الكاتب أو الاعتداء عليه بسبب مهنته.
-4 ضمان أمن الكاتب من الجهات المعنية عنصر لرقي الثقافة، وضمان لحرية الكلمة.
-5 صون الحقوق الدستورية التي كفلها الدستور لكل كاتب.
-6 يعاقب كل كاتب خالف ما جاء في القوانين أو اللوائح أو الأعراف أو في ميثاق الشرف هذا بالعقوبات المنصوص عليها قانونًا أو لائحيًّا أو عُرفًا.
كما دعت النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر جميع النقابات والجمعيات والمؤسسات الثقافية والقانونية إلى تبنّي هذا الميثاق، وتُعدّ كل جهة مُوقّعة عليه مسؤولة عن تنفيذ ما جاء به وفق لوائحها الخاصة.
وقد عقد فرع نقابة اتحاد كتاب مصر بالمنوفية مؤتمره السنوي الثاني بعنوان “المثقفون والكُتّاب ومواجهة الإرهاب والفساد ودعم التنمية”، وذلك برئاسة اللواء د. توفيق منصور رئيس الفرع، وكنتُ بفضل الله أمين عام المؤتمر وقد حرصت على استضافة كلية التربية جامعة المنوفية لهذا المؤتمر لكي يستفيد منه الأساتذة والطلاب، حيث كنت نائب رئيس الفرع وذلك يوم 21 من أفريل عام 2018م، نظرا لأهمية الموضوع فقد تم تعميمه ليكون موضوعا لفروع نقابة اتحاد كتاب مصر، وكان عددها أحد عشر فرعا.
كما عقد فرع نقابة الكتاب بالمنوفية في 12 من نوفمبر عام 2018م مؤتمره الثالث تحت عنوان “الثقافة وترسيخ الهوية الوطنية في مصر”، وكنت منسّق المؤتمر وقد حرصت على عقده بكلية الآداب جامعة المنوفية التي أنتمي إلى قسم اللغة العربية بها، حرصا مني كذلك على مد جسور التواصل بين الكُتّاب والمثقفين وأساتذة الجامعة وأبنائنا طلاب كلية الآداب بأقسامها المختلفة.
كما أن نقابة اتحاد كتاب مصر تُعِدُّ منذ عامين لمؤتمر كبير عن الثقافة في مصر لمحاولة الخروج من الأزمة الثقافية التي تعيشها أمتنا العربية لتتمكّن من النهوض من كبوتها الثقافية لتنهض في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إذ الثقافة هي حجر الزاوية في نهضة الأمم وقاطرة تقدّمها، وقد استكتبت النقابة عددا من المثقفين في هذا الموضوع.
ومما يؤكد وجود مثقفين مزيّفين ما جاء في كتاب “من يدفع أجرة الزمار” (who paid the piper) للكاتبة الإنجليزية فرنسيس “ستونر سوندرز” (Frances Stonor Saunders)، وعنوان الكتاب جزء من مثل إنكليزي يقول: “من يدفع أجرَ الزَّمَّار يختر اللحن”، ولقد أكدَّت هذه الدراسة أنَّ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تقوم بدفع أجر العازف بسخاء، وتمويل المؤتمرات الفخمة والمجلات الأدبية.. والسياسية والجمعيات والمنظمات التي تبدو غير سياسية، حتى لا تكاد تكون هناك جمعية دولية إلا وقد اخترقتها وكالة المخابرات الأمريكية.
ولعل من هذه التجمّعات المشبوهة ما قام به بعض مثقفي مصر المزيفين من تأسيس مركز تكوين، الذي ظهرت عورته وانكشفت سوأته حين اختلف مؤسسوه على توزيع الغنائم والدعم المشبوه فاستقال وفضح المركز.
ومن المثقفين المزيفين مَن يسعى إلى التهوين من شأن المقاومة الإسلامية ضد العدو الصهيوني، ويتهكم عليها وعلى أبطالها من المجاهدين النبلاء الذين يدافعون عن عرض أمتنا الإسلامية وأرضها ومقدساتها الإسلامية، بل إن منهم من بلغ به التدليس مبلغا حيث يدّعي أن المسجد الأقصى المذكور في القرآن الكريم في مطلع سورة “الإسراء” ليس هو الموجود في فلسطين بل هو في “الطائف”! ألا قبّح الله هؤلاء المثقفين المزيفين!

الثقافة والمثقَّفُون.. بين مِطرَقةِ السُّلطة وسِندانِ الجماهير!
“يُزعِجُني ويُخيفُني أن كثيرين ممن يمتلكون الثرواتِ الضخـمةَ والكلمةَ المسموعة والأوامـرَ المُطاعةَ في وطننا العربيِّ الكبير، قـــــد انتـقلوا من البداوة إلى الحضارة، دون المرور بالثقافة!” (الكاتب).
الفيلسوفُ الفرنسيُّ “فولتير” هو الذي قال: “إذا أردت أن تتحدثَ معي فَحَدِّد مصطلحاتِكَ أولًا”، والقاعدةُ المنطقية تؤكِّدُ لنا أن الحُكمَ على الشيءِ فرعٌ عن تَصَوُّرِه. والحديث عن “الثقافة والمثقفين”، حتى بعد أن صارت هاتان الكلمتان من أكثر الكلمات دورانًا على ألسنة الكتَّاب والقرّاء، يفرض علينا أن نتوقف، ولو قليلًا، عند معناهما اللغوي والاصطلاحي، وما صارتا تُوحيان به أو تَدلَّان عليه. إنهما من أكثر الكلمات انتشارًا في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، بَيْدَ أنهما، في الوقت نفسِه، من أقلِّها دقةً وأشدِّها غُمُوضًا.
لقد كانت الثقافةُ تعني قديمًا ما تعنيه كلمةُ الأدبِ من الأخذ من كُلِّ شيءٍ بطرَف، وهو ما لا أتصوّره عقلًا حتى الآن، لأنه يستحيل واقعًا، وكانت كلمةُ المثقَّف في الريف العربيِّ حتى وقتٍ قريبٍ تُطلق على “المتعلّم” أو حتى “الذي يفكّ الخط”، وفي قريتنا كانوا يُسمّون كلَّ مَن يحفظ القرآن فقيهًا، أي عالمًا ومثقَّفًا، وسُمِّيَ فيها شارعٌ باسم “درب الفقهاء”، لكثرة من يحفظون القرآن فيه. وفي المدن العربية الحديثة كان المثقف “هو الذي يقرأ كثيرًا”، ثم أصبح التحديد القاطعُ في بعض الأوقات أن المثقف هو الكاتبُ والأديبُ والمفكرُ وأستاذُ الجامعة.
ما هي الثقافة؟ ومن هو المثقف؟
في لسان العرب: ثَقِفَ الشيْءَ: حذَقَه وفهِمه ووجده وتعلَّمَه بسرعة، واللقِنُ الثَّقِفُ هو ذو الفطنةِ والذكاء، والمرادُ أنه ثابتُ المعرفة بما يُحتاجُ إليه، وفي حديث السيدة عائشة تصف أباها، رضي الله عنهما: “وأقام أوَدَه بثِقافِه”، والثِّقافُ هو ما تقوَّمُ به الرماح، تريد أنه سَوَّى عَوَج المسلمين. وتشير كلمة الثقافة (Culture) في اللغات الأوربية إلى فلاحة الأرض وزراعتها (agriculture) وهو ما يعني تسويتَها وتمهيدَها بعد أن لم تكن كذلك.
وفي “موسوعة الهلال الاشتراكية”، وقد صدرت منذ أربع وخمسين سنة، أن الثقافة هي نظرةٌ عامةٌ إلى الوجود والحياة والإنسان، وهي كذلك موقفٌ من هؤلاء جميعًا، وقد يتجسّد هذا الموقف في عقيدة، أو تعبير فني أو مذهب فكري أو مبادئ تشريعية، أو في مسلك أخلاقي عملي. والثقافة بهذا المعنى العام الشامل هي البناء العُلوي للمجتمع الذي يتألف من الدين والفلسفة والفن والأدب والتشريع والقيم العامة السائدة في المجتمع.
ويعرِّفها عالمُ الأنثروبولوجيا البريطاني الشهير سير “إدوارد بيرنت تايلور” (E.B.Tylor) بأنها “ذلك الكلُّ المركَّبُ الذي يشملُ المعرفةَ والمعتقداتِ، والفنَّ والأخلاقَ، والقانونَ والعُرفَ، وكلَّ المقدَّرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسانُ من حيث هو عضوٌ في مجتمع”.
ويمكننا القولُ بأن الثقافةَ، في معناها العام، هي ما يتّصف به الرجلُ الحاذقُ المتعلِّمُ من ذوقٍ، وحسٍّ انتقاديٍّ، وحُكمٍ صحيح، أو هي التربيةُ التي أدَّت إلى إكسابِهِ هذه الصفات. والعلمُ شرطٌ ضروريٌّ في الثقافة، كما يقول “روستان” (Roustan)، ولكنه ليس شرطًا كافيًا فيما يبدو؛ إنما يُطلَق لفظُ الثقافة على المزايا العقلية التي أكسَبَنا إيَّاها العلمُ، حتى جعل أحكامَنا صادقةً وعواطفَنا مهذَّبة. ومن هنا فإن الثقافة هي كلُّ ما فيه استنارةٌ للذهن وتهذيبٌ للذوق، وهي في النهاية حصيلةُ ما يتجمَّع في العقل من معارف، وما يكمن في الوجدان من انطباعات، وما يستقرّ في الضمير من عقائدَ، وما يرسب في النفس من عاداتٍ وتقاليد، وكما قال “ألبرت أينشتين”، فإن الثقافة هي ما يبقى لديك بعد أن تنسى كلَّ ما تعلمتَه في المدرسة!
ولعلَّ هذا يُسهِّلُ علينا كثيرًا تعريف المثقَّف، فهو إذًا ليس من يَقرأ كثيرًا، ولا هو من حصَل على الشهادات الدراسية والإجازات العلمية، وهو ليس من يأخذ من كل علمٍ بطرف كما كان القدماء يقولون، ولا هو من يتابع الدورياتِ المختلفةَ والمتنوعةَ بانتظامٍ كما يقول المعاصرون؛ ولكنه هو مَن يتّخذ من علمِه نقطة انطلاقٍ يتجاوزها إلى ما بعدَها، فلا يجمُد عند تخصّصه، ولا يدفن نفسه في نطاق مهنته، ولا يعيش لِذَاتِه وحدها، وإنما ينفتح على الحياة والناس، وعلى عصره والعالَم، ويعانق المشكلات ولا يَهرُبُ منها، ويكون له فيها رأيٌ ويتّخذ منها موقفًا، ويعملُ مع أندادِه على تغيير وجه المجتمع المتخلِّف، وإعادة تشكيله على أسُسٍ جديدة من العدل والكرامة والديمقراطية.
- هل لدينا ثقافة ومثقفون؟
وتلك شروطٌ صعبةٌ جدًّا في هذه الأيام، وصفاتٌ قلَّ أن نجدَها في من يملأون حياتَنا ضجيجًا وعجيجًا، وأذكر أن أستاذنا الدكتور “الطاهر أحمد مَكي” قد كتَب مقالًا في مجلة “الهلال” عن “هموم المثقف العربي” (عدد أبريل 2002) وسأل فيه: هل لدينا ثقافةٌ ومثقفون؟ وقال إن هذا السؤال يبدو ساذجًا، وربما مضحكًا، “نعم لدينا صحفٌ ومجلاتٌ ومكتباتٌ ومدارسُ وجامعات، ومسارحُ ودُورُ سينما، ونُقِيمُ معرِضًا للكتاب كلَّ عام يستمر أسبوعًا أو أسبوعين، وعشراتُ الإذاعات المسموعة والمرئية، ومع ذلك فإن الإجابة ستكون نفيًا قاطعًا حين نضع الأمورَ في نِصابها”.
ولا أعتقد أن أستاذَنا كان مبالغًا أو متشائمًا؛ فهو يتحدَّثُ عن حِقبةٍ كانت سيئةً ومظلِمةً فعلًا، ولقد كان، كما عرفتُه ـ إنسانًا وكاتبًا ـ مهمومًا بقضايا وطنه، وحزينًا على ما آلت إليه الأمورُ فيه، ورصَدَ في كثيرٍ مما كتَب عِلَلَ مجتمعنا وأدواءَه، وقدَّم لها العلاجَ الذي يمكن أن يقضيَ عليها، وكان في حياته ومؤلَّفاته مثالًا للمثقف الأصيل النبيل، زُهدًا في الدنيا، وعزوفًا عن الشهرة، وجرأة في الحق، وغيرةً على الدين، فانتصر للمظلومين، وعرَّى الفاسدين، وفضح المنافقين والمتملّقين من هواة المناصب وراغبي الرئاسة، وهو ما يدفع ثمنَه المثقفُ الحق في عالمنا العربي، لا في مصر وحدَها؛ لأن المثقف، كما يقولُ هو نفسُه: “هامشيٌّ أو مهمَّش”.
هامشيٌّ لأنه دائمًا صاحب موقف، ومن لا موقف له هو مجرد منافق يتاجر بالكلام الجميل، وهذا الموقف يضعه دائمًا في مواجهة السلطة، وعدم الرضا عمّا يحدث حوله، فهو والمجتمع لا يتفقان غالبًا، لأنه محتجٌّ أبدًا، ورافضٌ دائمًا لكلِّ شيءٍ سيئٍ حوله، وما أكثرَ السيئات التي تصطخب بها حياتُنا وأفدحَها!
ومهمَّش، أي متروك، لأن أغلبية المجتمع تدير له ظهرَها، وتراه وأمثالَه مجانين أو متمرّدين أو مجرمين. ولقد مرت فترةٌ كانت تعتبر كلَّ مثقفٍ لا يسكت عمّا يرى من فسادٍ شيوعيًّا، وحين تغيّرت الأسطوانة اعتبرته فترةٌ أخرى إسلاميًّا، أو إرهابيًّا، أو رجعيًّا، أو مخرِّبًا، أو ما شئت من تُهَمٍ تبدأ عقوبتها بالعزل والتجويع، وتنتهي بالسجن أو المعتقل. ولا أدري لماذا تذكرت الآن مقولة وزيرِ الدعاية في ألمانيا النازية “جوزيف جوبلز” (Joseph Goebbels): “كُلَّمَا سَمِعتُ كلمةَ مُثَقَّف تَحَسَّستُ مُسَدَّسِي”!
لقد تحدّث أستاذُنا عن الفساد الذي انتشر كالسرطان في كل مناحي حياتنا، ولم تَسْلَم منه الجامعةُ، وهي عقلُنا المفكّر، ولا حتى القضاءُ، وهو صوت العدالة في بلادنا، وليس سرًّا أن بعض رجال الجامعة كان متهمًا بالتزوير، وبعض رجال الهيئة القضائية دخل السجن مُدانًا بالرِّشوة. وكان طبيعيًّا أن تُلقِي مثل هذه الحوادث بظلالها الكثيفة الكئيبة على المجتمع كلِّه، ويجيءُ الشباب دائمًا في مقدمة الضحايا، لأنه الأكثر حساسية؛ فيُصاب بالإحباط وخَيبة الأمل، وتنهارُ في عينه كلُّ المُثُلِ العليا، ويفقد إيمانَه بالقيم وثقتَه في المستقبل، ويلجأ إلى عالم المخدرات، ويدمن الأدب الماجن، إذا صحَّ أنه أدب، ويمارس الجريمة، كيفما تهيّأت له وسائلُها، فتنطمس هُويتُه الحقيقية، ويختفي جوهرُه الأصيل، ويعيش حالةً من اللامبالاة وعدم الانتماء، وينتقل من رفض المجتمع إلى كراهيته ومن كراهيته إلى تدميره، وهو ما ينذر بخطرٍ شديدٍ، لا يدري أحدٌ إلى أي مصيرٍ أسودَ سوف يَجُرُّنا.
وتوقَّف أستاذنا في أكثر من موضع عند تبَعِيَّتِنا المُهينةِ للغرب، وانبهارِنا المُخجِل بكل ما هو وافدٌ وأجنبي، وتخلّفنا عن ركب الحضارة والتقدّم، واكتفائنا بدور المتفرّج الساذج في قصة الرُّقِيِّ والتمدُّن، حيث ننقل ولا نبدع، ونستورد ولا نصدِّر، ونشتري ولا نصنع، وهو ما لا تفعله أية أمةٍ رشيدةٍ، تريد أن تنهض من كبوتها وتستيقظ من غفلتها، وتداركته وسبقتنا فيه أُمَمٌ كان البَونُ بيننا وبينها شاسعًا، في التعليم والغنى والثقافة، مثل: باكستان والهند واليابان وكوريا الشمالية، وكلُّها أصبحت اليوم قوى ذَرِّيَّة، أو على أبوابها.
- الاستعمار والتخريب الثقافي
كما تحدَّث في مقالٍ طويلٍ له، نشره في مجلة “أدب ونقد” (فبراير 1984) عن “الاستعمار والتخريب الثقافي”، وبشيءٍ من التفصيل عمَّا يعملُ له الاستعمارُ الجديدُ، ومَن يعينونه في بلادنا، للقضاء على ثقافتنا القومية وتسطيحها، بنشر التفاهة والانجراف بالمفاهيم العالية لقضايا الفن، وتحويل الجاد منها إلى تسلية، وهو من أجل ذلك يسلط الأضواء على العابثين والخارجين، ويعتني بالمواهب المحدودة من الكُتَّاب، وكثيرون منهم يكتبون بالعامية أو يوسعون لها في مهارجهم ومؤتمراتهم، ومنهم من يُعادون التراث ويديرون له ظهورَهم، ويغمرُهم بالدعوات والرحلات، ويُظهرهم في ثوب الكبار الذين يمثلون الحياة الثقافية، فيُفقدون العالَمَ احترامَ وطنِهم، ويدفعون أندادَهم في الداخل إلى التقوقع والإحباط، إذا لم يكونوا واعين ومناضلين.
وهو لا يَقنَع بتحييد المثقفين، وإنما يحاول أن يستخدمهم لغاياته، بأن يجعلهم يقفون في الصف المقابل لمطامح شعوبهم، وقد يغريهم بمفاهيمَ زائفةٍ، كالتركيز على حرية المثقف فردًا، دون ربطٍ بينها وبين حرية التعبير في المجتمع نفسِه، مع أن حرية الفرد ليست بذات أثرٍ إيجابيٍّ ما لم تصحبها حرية التعبير أيضًا، أو ينحرف بهم إلى قضايا تجاوزَها الزمنُ نفسُه، أو يَقعُدُ بهم على القديم بينما العالم حولهم، في وطنهم وخارجه، يتحرك ويتطور إلى أفضل أو أسوأ حسب ظروفِه.
ثم طرح الدكتور “مَكي” سؤالين آخَرَين: ما الذي انتهى بنا إلى هذا الحال؟ وكيف الخروجُ من هذا التخلّف المَقيت والتبعية الذليلة واللامبالاة القاتلة؟ وكانت إجابته عليهما سريعةً ومباشرة وقد ذكرها في أكثر من مقالٍ وبأكثر من صورة: نحن في مركَبٍ واحد، إذا غرق غرقنا جميعًا، وطريقُنا إلى النجاة واحدةٌ لا غيرها: ديمقراطية كاملةٌ غير منقوصة ولا موصوفة، نبرأ معها من العفَن الذي نعيشه، وصفوةٌ من مثقفة تجمع الخيرَين، تكون القدوة، وتعطي المَثَلَ تعاليًا وشموخًا ونبلًا وتضحيةً وطهارة، تلتقي بعيدًا عن المؤتمرات الرسمية الباذخة الصاخبة، لا تنتج غيرَ الكلام الجميل، تدرس واقعنا العليلَ في جِدِّيَّةٍ بموضوعيَّة، وتقول رأيَها صريحًا، قد لا يتركونها تفعل، ولكنها تستطيع لو أرادت وصَمَّمَت.
وقبل ذلك كله، كما يقولُ أستاذُنا أيضًا، التأكيد على حرية المناخ الثقافي، ورفع الوصاية عن الشعب، فلا نحدِّدُ له ماذا يقرأ وماذا يدَع، ولا نحدِّدُ للكاتب ماذا يكتب بَدءًا، وإنما يكتب على مسؤوليته، ثم تقول الجهاتُ القضائيةُ رأيَها فيما كتَب بعد أن يُنشَر، إذا رأت الحكومةُ في ذلك خروجًا على القانون.
ولقد كنت أتمنَّى أن أعرِض هنا لما نادَى به الدكتور “طه حسين” في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، وما ذهب إليه الدكتور “زكي نجيب محمود” في كتابه “ثقافتنا في مواجهة العصر”، وما درسه الدكتور “سليمان حزين” في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر العربية”، وما فصَّله الدكتور “أحمد أبو زيد” في كتابه عن “هُوِيَّةُ الثقافة العربية”، ولكنَّ الكلامَ طال بنا عند بعض آراء الدكتور “الطاهر أحمد مكي”، وهي تكفي في هذا المقام، وإن كانت لا تُغني عن العودة إلى هذه الكتب المُهِمَّة ومناقشتها، فلْيشاركني القارئُ الكريمُ في ذلك إن أراد !

ما أحوجنا إلى “طوفان ثقافي” عروبي يقود إلى التعمير!
في هذه الحالة العربية المشتتة والمُستَهدفة والمُبتلاة ينبغي أن نفكر في واقعنا الثقافي، وكيفية تطويره وتسويره؛ فمِمّا يُؤسَف له ويُحزَن من أجله! ما يظهر وسط الأجيال – الصغيرة والشابة – من إيمانهم الغريب بعدم الجدوى من (الثقافة، والعلم!) وأن طلبهما لا قيمة له ولا أثر له أو نفع! وأن (المال) هو كل شيء، وأن الذي يرفع الإنسان أو المجتمع في هذه الحياة الحادة القاسية أو هذا العصر الفاتن الخادع، هو (المال)؛ فصاروا نفعيّين مادِّيين مفتونين بـالمال فقط، حريصين عليه، يطلبونه بكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة، ولا يَتسلَّحون في طلَبِه بعلم أو ثقافة! ومن ثم نرى لدى هذه الأجيال -الصغيرة والشابة! – انحسارًا في الإقبال على التعلّم والتثقف والتمدّن، والأخذ بالسذُبل العلمية والثقافية للإتقان والإحسان، وإن وجد اهتمام منهم بالثقافة فهو اهتمام سطحي جزئي، واهتمام بكل ما هو إفرنجي وافد غازٍ، كما نرى منهم تضييعًا للأوقات وتفريطًا في الجهود والفُرَص التي أمامهم، والتي تُوفِّرها لهم الدول في جامعات العلم وقصور الثقافة ومنتدياتها العامة والخاصة، والتي من شأنها أن تُيَسِّر لهم أنواعًا من العلوم والثقافات، وتعمل على تزويدهم بها واستثمارهم فيها محليًّا أو إقليميًّا أو دوليًّا! حتى صاروا ضحايا التضليل الفكري والتجهيل العقلي والتزوير الثقافي؛ لانعدام الثقافة الأصيلة والهوية المحصنة، والعقلية الناقدة عندهم! وفيما يُقدّم لهم رسميًّا أو شعبيا!
ومن ثم كان لا بد في هذه المقالة من وقفة مع هذه الظاهرة العقلية والثقافية المَرَضية الخطيرة فرديًّا ومجتمعيًّا وقوميًّا! وإثارتها في رحاب حوار مجتمعي عروبي يتغيّا بناء الوعي الرشيد المستنير، القائم على أفكار المواطنة، والتسامح، والأخُوّة، والإبداع والتجديد والتفنّن الهادف البنّاء، والعطاء، والإعمار، والتسلح الثقافي، والتكافل المجتمعي، والأمن الفكري!
إن الثقافة هي الوسيلة الأولى لغرس روح الديموقراطية، وتصوير ذاكرة الشعوب، والتعبير عن الحياة العربية في كل حين، وبيان لأسلوب حياة هذا المجتمع الحي الحيوي المتحرك ليل نهار.
فالمثقف الحقيقي الفاعل هو كل من يمتلك قدرًا من المعرفة ومقدرة على التأثير في مجموعة من الناس باستعمال وسائل التواصل التكنولوجية المعاصرة لا سيما الوسائل السمعية والبصرية (الفيديوية/ الرقمية/ التفاعلية).. ومن ثم يُطلق على هذا النمط من المثقفين الآن مصطلح: المؤثّرين!
وينبغي أن يكون هؤلاء المثقفون (المؤثرون) إيجابيًّين وحاملين لعناصر المنظومة الأخلاقية والقيم الروحية، ولهم رسالة في الرقيّ بمجتمعاتهم المحلية خاصة أو الوطنية أو الأممية عمومًا.
ومن يتدبر حالة المثقفين العرب الآنية يجد تنوُّعًا – وإن شئت قلت (تشتّتا) عجيبا – في كل قضايانا وأحوالنا، وذلك ناتج من كثرة أنواع المثقفين، حيث نجد: أنواع المثقفين: أمثال: (المثقف الهادف والمثقف الضار)، و(المثقف القومي المجاهد، والمثقف العميل المرتزق المأجور)، و(المثقف الإيجابي الفاعل والمثقف السلبي الخامل)، و(المثقف المنفتح الحر، والمثقف المنغلق)، و(المثقف الظاهري والمثقف الروحاني)، و(المثقف الأستاذ صاحب المدرسة الخاصة والمثقف التابع “الإمَّعَة”)، و(المثقف الناقد والمثقف الناقل)، و(المثقف المجتهد المثير والمثقف المكرر المقلد الذائب في غيره)، و(المثقف الميداني الشعبي الجمهوري والمثقف النخبوي)، و(المثقف اللساني والمثقف الورقي، والمثقف الرقمي)، و(المثقف المؤثر والمثقف الضعيف أو المنعدم التأثير)، و(المثقف الثَّبت الحُجّة المحقق)، و(المثقف المزيف والمزور المخادع)… وغير ذلك من المثقفين في بيئتنا العربية المائجة والهائجة والتائهة، التي لا تعرف لنفسها بوصلة حقيقية أو مشروعًا قوميًّا ناهضًا وواعيًا وجامعًا وفاعلاً، ولا يوجد فيها قادة ثقافيون حقيقيون للأسف الشديد!
ولعل مما يهيمن على في هذا المقال ما علّمنا إياه أستاذنا الدكتور “محمود توفيق سعد” – عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر – أيام طلب العلم في الجامعة، وما وجدته مخطوطًا بقلمه المنيف على صفحته الفيسية، بقوله عن مفهومه للقراءة: “القراءة هي استجماع دقائق لطائف الحقائق المكنوزة فيما تقرأ، وتميّزها عمّا ليس من جنسها، ثم توثيقها، وتقريبها ثم استثمارها في حركة الحياة. و(القراءة) نوعان:
النوع الأول: (القراءة التثقيفية): همّها الرئيس تحصيل معلوماتٍ تقضي بك إلى أن تكونَ حامل علم، ومركز نشر وتوزيع لمنتجاتِ عقول الآخرين. أنت هنا لا تعدو أن تكون كمثل أمين المخازن، وكمثل وكيل تسويق تجاري لماركة ما. وبعبارة أخرى أنت لا تعدو يومًا أن تكون (حامل علم). هذه الوظيفة لم تعد ذات شأن في عصر يُمكنك فيه أن تجمع آلاف المراجع في أيّ قضيةٍ أو مسألةٍ فيما يُسمّى (فلاشة) لا يزيد سعرها مئة جنية مصري (خمس دولار)، أو ترضَى أن يكون هذا قدرك؟! والنوع الثاني من القراءة ما أسميه بـ (القراءة الاحترافية)، وهي قراءة ليس همّها تحصيل معلومات وحملها، وبثّها في الناس، كلّا! همّها الرئيس أن تثور ما هو مكنون من المعرفة والحقائق العلمية في الأسفار، ولا سيما أسفار الأعيان من أهلِ العلم ثم توثيقها وبيان أصولها وتحليلها وتحريرها وتقريبها ثم نقدها بكلّ ما تتسع له كلمة (نقد العلم) ثم استيلاد ما ليس بموجود فيها مما هو موجود، ثُمّ استثمار ذلك كله في حركة الحياة لإخراجِ الناس من الظلمات إلى النور.
أنت هنا ارتقيت من رتبة (حامل العلم) إلى رتبة (خادم العلم) ثمّ إلى رتبة (صانع العلم)، وهنا تكون بإخلاصك لله تعالى، وإتقانك لما تصنع تطوف حول حمى رتبة (وراثة سيدنا رسول الله – صَلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم). إذا ما كنت في درجةٍ عَلِيّةٍ من مدرجةِ طلبِ العلم كمثلِ الباحثين في مرحلة (العالِميّة/ الدكتوراة) وما فوقها، فالأعلى – عندي – أن تقرأ (الموضوع الواحد) في مصدر رئيس عدّة مراتٍ بين كلّ مرة حِقبة تكون فيها قَرَّاءً في علوم وموضوعاتٍ مساعدة، ثم تعود إلى قراءة الموضوع نفسه مرة أخرى في المصدر نفسِه وهكذا إلى أن تتيقّن أنك قد تضلّعت، وأنك قد تدسّست في تجاويف كل مسألة من الموضوع، وعلمت مخرجه، و(استمداه): رافده وامتداده، وما يؤول إليه. وأن تتيقن أنك المقتدر على أن تثور مكنونه، وتبصر ما فيه من دقائق لطائف طرائف الحقائق في هذا الموضوع وعلاقتها بما في موضوعات أُخر في العلم نفسِه أو علم به نسيبٍ… حينئذ يكون بملكك أن تنتج ممّا بين فؤادك الرشيد ما ليس بموجود فيه، فيُنسبُ إليك، ويُحملُ عنك. فيحملك على متنه فيدخل الله تعالى برحمته وإكرامك مع الذي أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..
وإن كنت في درجةٍ أدني في مدرجةِ طلبِ العلم فاقرأ الموضوع الواحد أكثر من مرجع ملتزمًا بالنسق التاريخي لصناعة المرجع لترصد ما استجدّ في المرجع التالي، وهكذا حتى تبلغ المصدر الأعظم في هذا الموضوع. ذلك ما أراه أنفع لك، وأقدر على أن يحيلك إلى مرتبة (القراءة الاحترافية) التي هي صنعة النبلاء في طلب العلم وخدمته وصناعته”.
ومن ثم فالمطلوب هو الثقافة الواعية الفاعلة، وليس المطلوب منا أن نكتفي بطلب العلم والثقافة فقط، أو بنقد حالتنا العلمية أو الثقافية وجلدها فقط، بل نحن في حاجة إلى أن نعيش مع كل ما يغرس في نفوسنا الثقة بذواتنا، والإيمان بمنجزاتنا ماضيًّا، وبقدراتنا حاضرًا، وباستعداداتنا على الفعل والتأثير في قادم أيامنا، إن شاء الله! وهذا ما يُسمّى بالفاعلية الثقافية التي تقابل تعبير (Cultural effectiveness) في المعاجم الغربية، وهي تتحدّد عند الغربيين بكونها وصفًا لكلِّ شيء فعّال، وقد جاء في كتاب “البحث التحليلي لأوروبا” للفيلسوف الألماني “هرمان دي كيسرلنج” أنّ الروح – ويقصد بها الفاعلية – هي ذلك الشعور القوي في الإنسان الذي تصدر عنه مخترعاته وتصوّراته، وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء. وقد عرّف المفكر الجزائري “مالك بن نبي” (1905-1973م) الفاعلية بأنها: قوة كافية داخلية تبعث في النفس القدرة على العمل والحركة: حركة الإنسان في صناعة التاريخ، حيث يقرّر أنه إذا تحرّك الإنسان تحرّك المجتمع والتاريخ، وإذا سَكَنَ، سكن المجتمع والتاريخ. فما أحوجنا إلى هذه القوة الداخلية التي تحرّكنا! وهي مفتاح من مفاتيح التقدم والحداثة، لمن يريد! ما أحوجنا إلى الثقافة المصرية الإيجابية الهادفة والبنّاءة والخيِّرة والمعمِّرة في شتى ربوعنا، شمالا وجنوبا، ساحليًّا وبحريًّا وقِبْليًّا، عبر مثاقفة واعية منتجة وأنشطة حضارية مع التراث والإبداع العربي والإنساني الذاخر. إنها مثاقفة ترد على أيّ اتهام مُضَخَّم أو تشويه مُدبَّر مُفتَعل كل وقت وحين، للعقل العربي، والإنسان العربي، والثقافة العربية!
إنها محاولة للدفاع عن الهوية المصرية، والحماية من الهيمنة الغربية أو الشرقية، ومن التذويب أو التغريب أو التشريق! ومحاولة لبناء الذات المصرية الأصيلة المستقلة والمقاومة والفاتحة والغازية بإذن الله تعالى…
وحرية الثقافة والإبداع مُتطلّب ضروري، كم دعا إليها مثقفونا العظام! ومنهم الأستاذ الأديب والسياسي الكبير، الدكتور “محمد حسين هيكل” (ت 1956م)، بقوله (من مقاله “الطغاة وحُرية القَلم” المنشور في كتابه “ثورة الأدب”، ص17): “أما أن يحارب البغاة القلم وحرية أربابه فلهم في ذلك كل العذر؛ فحرية القلم هي المظهر الأسمى لحرية الإنسان في أسمى صورها ومظاهرها، وحرية القلم إنما تكون حيث يمسك القلم ربٌّ من أربابه لا عامل من عُماله، ربٌّ تؤتيه الطبيعة من قوة الخلق والإنشاء ما لا سبيل إليه إلا في جو الحرية المطلقة، وتدفعه ليخلق هذه الحرية حوله خلقًا، ولو أُلقي به في غيابات السجون، بل تدفع ذكراه لخلق هذه الحرية إذا هو غُيّب بين صفائح القبور”.
وما أجمل تحديده هذه الثنائية (أرباب القلم)، و(عُمَّال القلم)، للتفريق بين الكُتّاب الوطنيين المخلصين، والكُتّاب المُرتَزِقة المأجورين! وهذا ما يفسره داعية العصر الأستاذ العلامة الشيخ “محمد الغزالي” (ت1996م) قائلاً في كتابه “جدد حياتك”: “وحرية الرأي هي حارسة العدالة في الشعب، والسياج الذي يكفّ الحاكم أن يستبد بأمور الناس، ولا قيام لحكم الطاغية إلا على الأذهان الممسوخة والأفكار الراكدة البلهاء، والحجر على ذوي الرأي أن ينظروا إلى الأمور إلا من الزاوية التي يراها لهم الطاغية، وقد أدرك فرعون مِصْر قديمًا تلك الحقيقة فأعلن إلغاء حرية الرأي بقوله: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 29)، أي أنه اعتزم تعطيل ملَكة الرأي فيهم، فلا يسمح أن يكون لهم رأي من الأمور غير ما يرى هو فيها، وذلك من مسخ المواهب وتغيير خلق الله”.
إنها ثقافة مبنية على حرية منضبطة مسؤولة دينيًّا واجتماعيًّا وقانونيًّا، ومرجع هذا الانضباط إلى القائمين المستنيرين على أمر الثقافة في ربوع عالمنا العربي..
ومن أولويات دور المثقف والأكاديمي العربي – في آننا الفاتن هذا – تمحيص المسار التنويري للأمة وتنقية سياقاتها الحضارية من كل شائبة تعيق التلاحم بين أطياف المجتمع العربي على اختلاف الألسن والألوان، حيث ينقل هذا التنوّع إلى أسبابٍ للتعايش وسبل للتعاضد، في الوطن العربي العتيق، وهذا هو الانتماء الأسمى الذي يُعدّ شرفًا ونبلًا ودليل أصالة وصدق، وانتماء إلى مصرنا العزيزة القوية الناهضة، بمشيئة الله وحوله، وبجهود مواطنيها المخلصين المجاهدين المعمِّرين، ومواطناتها الصالحات الفاعلات!
وفي ظلال هذه الحالة الثقافية الرقمية الكونية لا بد من التذكير بأن نهتم – مؤسسيًّا وشعبيًّا – بتقديم صورة الغرب العريقة والأنيقة في عالم ثقافة الصورة، وعالم وسائل التواصل الاجتماعي، التقديمَ المنهجيَّ الأمثلَ، بأن نُوظِّف هاته التقنيات التكنولوجية في كل ما يحمي ثوابتنا، ويعلن عن هويتنا، ويواجه كل ثقافة مُسيَّرة مُوجَّهة، أو مُضادَّة عدائية أو مُضلّلة خادعة، تستهدف الأجيال الشابة أو العوام!
فالمثقف في هذا الزمان السريع التواصل إما مدمّر ومعول هدم، وإما معمّر وأداة بناء، والتحصين الروحي والعقلي أساس بقائنا عربًا فاعلين، كعرب غزّة الأصلاء الصابرين الصامدين المشرّفين للجنس العربي لسانيًّا وعقليًّا وروحيًّا وسلوكيا.
إن عالمنا العربي في حاجة إلى “طوفان ثقافي” يجتثّ الغثاء المهيمن والسطحية المقيتة القبيحة، والتغريب المشين، ويعلن عن الهوية والأصالة والجدة والفاعلية.
“طوفان ثقافي” ينقلنا من التبعية والتقليد والذوبان في كل وافد، والانفعال بكل وافد إلى الأصالة والإبداع والفرادة والتأثير والحضور عالميًّا، ومن التدمير والتخريب إلى التعمير والتنوير!
“طوفان ثقافي” يعلن عن العقل العربي في كل مكان، ويهزم روح القنوط والتأييس والسلبية ويقضي على الانكسار الروحي والنفسي والعقلي!

“سوبرمان” و”بزارو”.. بطل وخديعة مفضوحة!
“كلارك كنت” و”سوبرمان”، فردٌ واحد وشخصيّتان، لماذا لم يكشف “كلارك” شخصيّته البطوليّة على العلن بدل أن يضطر إلى إخفاء حقيقته أمام العامة وإظهارها عند الضّرورة فقط؟
ربّما لأن نسبة كبيرة من النّاس لا تمتلك القدرات الفكريّة لتقبّل الحقائق كما هي، بما تشكّله من قوّة وثبات، فأحيانًا يفضّلون التّعامل مع الأمور بطريقة بسيطة وسهلة الإدراك. وربّما هذا ما اعتمد عليه “كلارك كنت” في قراره في الدّرجة الأولى، بالإضافة إلى محاولته حماية نفسه من الضّغوطات التي من الممكن أن يتعرّض لها من أجل استغلال طاقاته لمصالح قد لا تحاكي قناعاته، تمامًا كما الأديب الذي يعي أنّ ثقافته ترسم طريقًا نحو الرّقيّ ولكن لا يفهمها الجميع، فيبحث أحيانًا عن صيغة تُحاكي النّاس مهما كانت خلفيّتها الفكريّة، وهنا تكمن قوّته البطوليّة في بناء أسس متينة في الفكر المجتمعيّ، فـ “طه حسين”، عميد الأدب، جعل أدبه سببًا في تغيير بعض القوانين في مصر، حيث عمد إلى التّغلغل في عقول النّاس حتى تسبّب بثورة فكريّة ظهرت آثار بطولتها على صفحات السّلطة المصريّة العليا.
ولأن الأعمال البطوليّة مغرية للآخرين، سيحاول البعض تقليد الشّخصيّة التي يتّخذونها، ومع الوقت يرتدون لباس الخديعة حتى يتراءى لهم أنّهم أبطال، والنّدّ بالنّدّ. وهكذا حاول “بزارو” فرض بطولاته على الأرض، ولكن غالبًا ما فضحته تصرّفاته، وأعادته إلى دائرة الحقيقة، فشل إثر فشلٍ، البطل واحد، والمخادع واحد، والحقيقة واحدة.
أليس هكذا يُصنّف النّاس في كلّ ميدان؟
هذا، وليس بالضّرورة أن نتّهم الطّرف المقلّد بخبث النّوايا، فليس الأذى هو الهدف، ولكن، ورغم أنّ نوايا “بازارو” لم تكن في الطّابع العام خبيثة، ولكنّه غالبًا ما تتسبّب بكوارث مدمّرة بسبب فهمه المعاكس للأمور، وسوء تقديره للخير، وتقليده الأعمى لـ “سوبرمان” دون أن يدرس نتائج تصرّفاته التي تأتي دائمًا معاكسة لما يتوقّع. فكيف إن كان حقًّا يخفي نصب عينيه النّوايا الشّيطانيّة؟
فـ “الجوكر”، عدوّ “باتمان”، حين حاول أن يشتّت النّاس بين البطل وشبيهه المجرم، لم يكن صافي النّية، وكان يعي تمامًا النّتائج الكارثيّة التي يحاول تحقيقها في كلّ مرّة يقف أمام صاحب الحقّ والحقيقة.
بين النّوايا الصّافية والنّوايا الخبيثة، نجد النتائج واحدة، فهل تنطبق هذه الأمثلة على عالم الأدب؟
تشابه النّاس إلّا في معادنهم — وشيمة المرء بين العلم والأدبِ
فكم صديق صدوق صادق فطن — مقامه في عيون المجد والرّتبِ
وكم حقود حسود لا عهود له — يجوس بين ديار الزّور والكذبِ
فاصبر على النّاس إن تجهل منازلها — فتربة الدّهر تخفي لمعة الذّهبِ
الشّاعر السّعوديّ، “محمد ثبيتي”، الذي اختصر معادن النّاس في هذه الأبيات الشّعريّة، ولكن لنوسّع حدود المعادن قليلًا، فالنّاس ثلاثة أنواع، “سوبرمان” البطل، وهو يعرف نفسه جيّدًا أنّه بطل (وثقو فيني وحكون قد الثقة)، “بزارو” الذي يتمنّى البطولة ولكن سوء فهمه للأمور ومحدوديّة إدراكه تسبّب الكوارث (ما كان قصدي ما بعرف ليش هيك صار)، و”الجوكر” الشّرير الذي يختار طريق الشّيطان وهو مدرك تمامًا لشخصيّته القادرة على تدمير أيّ شيء يعترضها (بفرجيكن هاهاها).
وهكذا هم المنتمون إلى عالم الأدب، إذ لدينا الأدباء الذين يعون تمامًا خطورة هذا اللّقب والمسؤوليّة التي يلقيها على عاتقهم، ولكنّهم مستعدّون للجهاد في سبيل الإنسان والإنسانيّة، وهم الأبطال الحقيقيّون في عالمهم الأدبيّ. وهناك المقلّدون المؤمنون بمواهب وهميّة لا يدركون أنّهم لا يمتلكونها في الأساس، يحاولون جاهدين أن يثبتوا أنفسهم ولكنّهم يفشلون. وهناك الذين يعلمون أنّهم ليسوا أدباء ولا يمتلكون هذه الثّقافة، ولكنّهم مُصرّون على نشر أفكارهم في هذا العالم، وهم أخطر الأنواع على الأجيال.
ما نراه اليوم في عالم الثّقافة والأدب دليل أنّ ليس كلّ النّاس مخوّلين ليكونوا قدوة للأجيال المقبلة، ولكن المشكلة الكبرى هي المضيّ قدمًا باسم حريّة التّعبير والحريّة الشّخصيّة، وغيرها من المسميّات التي لم تعد تميّز بين الحريّة الحقيقيّة والتّخريب العقلي، أنا حرّ ولا يحق لك انتقادي (إذا ما عجبك ما تشوف وما تسمع)، أو أنّ ما يقدّمه يحاكي الذّوق العام (ما يطلبه الجمهور)، ولكن من الذي يحدّد الذّوق العام؟ هذا الدّمار لأسس الثّوابت الإنسانيّة فيما نراه اليوم من كوارث بين اللّغة، الأخلاق، العلم، السّلوك… وما إلى هنالك من مبادئ تُبنى على قواعد الأدب، وطبعًا التّكنولوجيا تلعب اليوم دورًا بارزًا في هذا المجال، فإن فسد أساس البناء سيقع المجتمع لا محالة.
وكأنّ العبث في مناهج الحياة أمر مباح، يجب على أولئك المعتدين أن يعرفوا حدودهم ويفهموا معنى المسؤوليّة الفكريّة حتى لو اقتضى الأمر استخدام الحزم والقوّة، فـ “العصا لمن عصى”، ومن يعصي قوانين الفكر والأخلاق لا بدّ له أن يُحاسَب، فمن يحاسب هؤلاء؟ ومن له الحق اليوم في تضييق الحدود على المعتدين على عقول الأجيال؟ من هو اليوم بطل الأدب القادر على حماية المجتمع العربيّ من الانحدار السّريع الذي ينجرّ إليه؟
هند سليمان أبو عزّ الدين (باحثة من لبنان)
إلى أين يقودنا عصر “ثقافة الفوضى”؟
تسير الحياة في طريق التّطوّر، ساعية إلى خدمة الإنسان، والارتقاء به نحو الرّاحة والرّفاهيّة، ومحاولة إيجاد حلّ لمشكلاته وأزماته، فينبري العلم والتّكنولوجيا للتّسابق على اختراع الأدوية والآلات والمعدّات التي يسعى من خلالها إلى مساعدة الإنسان وتيسير حياته، ومن هذه الوسائل وسائل التّواصل التّكنولوجيّة المعاصرة، ومنها وسائل التّواصل الاجتماعيّ التي أصبحت تقتحم البيوت، وتبثّ أفكارها في عقول الأطفال والمراهقين، من خلال المؤثّرين الذين نستشفّ من تسميتهم قدرتهم على التّأثير في أبناء المجتمع، فهل هؤلاء المؤثّرون مؤهّلون فعلًا لهذا التّأثير؟ وهل يملكون ثقافة حقيقيّة أم إنّ ثقافتهم مزيّفة تشوّه الحقائق وتنشر الفوضى؟
الفوضى! ربّما أصبحت هذه الكلمة تشكّل اختصارًا لصفات هذا العصر، وتحمل في طيّاتها سمة من سماته البارزة، وخصوصًا في مجال انتشار وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وما تبثّه من “فيديوهات” مختلفة الأشكال والمواضيع والأهداف، فهذه “الفيديوهات” لا تخضع للرّقابة، وهي متاحة لجميع من يرغب في نشرها والاستفادة من دخلها المادّي، فيختلط فيها الحابل بالنّابل، والغثّ بالسّمين، وتبقى محتوياتها متروكة للفوضى التي تتربّع على عرش هذه الوسائل، وتتحكّم بقدراتها، فلا توجد شهادة تُثبت كفاءة هؤلاء المؤثّرين وثقافتهم وتعطيهم حقّ نشر المعلومات الثّقافيّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة والدّينيّة، وهذا ما يفتح المجال لانتشار المعلومات المغلوطة التي قد تُفسد عقول الأطفال والشّباب حتّى لو لم يكن هدفها الإفساد، ناهيك عن بثّ “الفيديوهات” التي تنشر التّفاهة، وتنتشر كالنّار في الهشيم.
لقد أصبحت تلك الوسائل نافذة تطلّ منها أفكار غريبة عن مجتمعنا وقيمنا وأخلاقنا، والخطورة تكمن في سهولة استخدام هذه الوسائل التي أصبحت متاحة للجميع، وهي سيف ذو حدّين، فقد تكون مفيدة جدًّا في الحصول على معلومات تُغني البحوث العلميّة، وتُساهم في تثقيف الإنسان وإثراء قدراته الفكريّة، وقد تُشكّل أداة تشويه معرفيّ إذا لم تُستخدم بوعي وتمييز وفكر يفرّق بين الخطأ والصّواب.
فهؤلاء المؤثّرون المنتشرون على وسائل التّواصل الاجتماعيّ مجهولو النّوايا والانتماءات والثّقافة، حيث أصبح سهلًا جمع بعض المعلومات دون التّأكّد من دقّتها ونشرها سعيًا إلى الشّهرة، والحصول على الإعجاب والرّبح المادّي، ووصل هذا الأمر لدى بعض المؤثّرين إلى حدّ الهوس، فكيف نستطيع الوثوق بمصداقيّة هؤلاء وثقافتهم؟
لقد أصبحت هذه “الفيديوهات” السّريعة تقتحم عقل الإنسان الذّي يُشاهد كمًّا كبيرًا منها في وقت محدود، فتختلط عليه الأمور، وتتشابك المعلومات بين معلومات ثقافية وأخرى سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة، وبين ما يُبثّ من أفكار أو سلوكيّات غريبة عن قيمنا الأخلاقيّة والاجتماعيّة، وأمام سرعة هذه المشاهد يقف العقل في حالة ارتباك، ويُخشى أن يصبح منقادًا لما يزرعه فيه هؤلاء المؤثّرون، فيفقد قدرته على النّقد والتّحليل، وينتهي به المطاف إلى التّخبّط والفوضى، وقد يؤثّر هذا التّلقّي الأعمى على الهويّة الأخلاقيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والدينيّة، ويُساهم في انهيار منظومة القيم، فنحن في عصر لا نعرف إلى أين تقودنا فيه هذه الفوضى؟
إنّ المثقّف يجب أن يكون قائد الفكر إلى التّقدّم والتّرقّي، والتّمسّك بالأخلاق النّبيلة والوعي والمعرفة، ليُشكّل منارة ترتقي بالإنسانيّة نحو المُثل العليا ونور المعرفة والعلم، وقد ساهم كثيرٌ من الأدباء والشّعراء في حمل قضايا الحبّ والوطن والحرّيّة، وسعى الكثير منهم إلى تحسين أوضاع النّاس في مجتمعاتهم والمطالبة بالعدالة الاجتماعيّة وبتحرير المرأة والوطن، كما سعى بعضهم إلى طرح قضايا الفقر وموضاعات تمسّ الإنسان وتجسّد صراعاته بين الخير والشّرّ.
أمّا الإعلام فيجب أن يتحلّى بالدّور نفسه، ليكون وسيلة لنشر الثّقافة والوعي، محاولًا الابتعاد عن الفوضى والتّفاهة، ولكنّنا الآن بتنا عاجزين عن السّيطرة على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، فلا قدرة لنا، في الوقت الحاضر، على التّحكّم في محتوياتها، لذا علينا تثقيف أبنائنا وتعليمهم كيفيّة التّعاطي معها، وحثّهم على الابتعاد عن التّلقّي السّلبيّ الّذي يُعطّل العقل ويُلغيه، لذا يجب أن نزرع فيهم القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة ونشجّعهم على القراءة والنّقد والبحث للتّحقّق من المعلومات والتّأكّد من صحّتها.
فنحن نُواجه اليوم إعصارًا جارفًا، يغرق فيه من لا يتحلّى بالوعي ولا يُتقن السّباحة، ويفوز فيه الإنسان المثقّف المتعلّم الواعي الذي يستطيع الغوص فيرمي الخرق البالية ويستفيد من الجواهر الثّمينة، وهذا يحتّم علينا جميعًا تحمّل مسؤوليّة نشر الوعي، وتطوير الذّات، والحذر من الانقياد الأعمى وتعطيل العقول، وهنا يكمن التّحدّي فهل سيستطيع الإنسان المعاصر كسب هذا التّحدّي؟

المثقفون والمؤثّرون.. صراع الحقيقة والشّهرة!
مسؤولية المثقف في المجتمع
إن المثقف كان وما زال حجر الزاوية في بناء المجتمعات ونهضتها. فهو العين الساهرة التي تراقب تطورات المجتمع، والعقل المفكّر الذي يسعى إلى صياغة الأفكار والحلول التي تسهم في تحقيق العدالة والتنمية. إن مسؤولية المثقف تتجاوز مجرد المعرفة ونقلها، إذ إنه يتحمّل عبء نشر الحقيقة وتعزيز القيم الأخلاقية والعمل بمقتضاها في مواجهة تيارات الجهل والانحراف. ومع التطور السريع الذي تشهده وسائل الإعلام والتكنولوجيا، ازدادت التحديات أمام المثقفين الحقيقيين في أداء رسالتهم، لا سيما مع ظهور ظاهرة “المؤثِّرين” أو “الإنفلونسرز”، وهم أشخاص استغلّوا وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق الشهرة والانتشار على حساب القيم والأخلاق.
في السنوات الأخيرة، أصبح هؤلاء المؤثّرون، الذين يعرضون حياتهم الشخصية أمام العامة دون مراعاة خصوصية أو مسؤولية، يمثلون تهديدًا حقيقيًا للبنية الثقافية والأخلاقية للمجتمع. فهم يقدّمون محتوى يروّج، عن قصد أو غير قصد، لأفكار وسلوكيات هدّامة تؤثر سلبًا على استقرار المجتمعات وتماسكها.
رسالة المثقف التاريخي ودوره الحقيقي
إن للمثقف مسؤولية كبيرة في توعية مجتمعه وتنمية وعيه الجماعي. ففي الماضي، وتحديدًا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كان للمثقفين دور بارز في مقاومة الظلم والهيمنة، إذ ساهموا في الدفاع عن قضايا الأمة الكبرى مثل التخلص من الاستعمار، ومواجهة الأنظمة القمعية بما تفرضه من قيود سياسية ودينية وفكرية. آنذاك، كان المثقف يشكل رمزًا للنضال والتنوير، حيث عمل على ترسيخ القيم الإنسانية المشتركة مثل: الحرية، والعدالة، والمساواة، والحب بين أفراد المجتمع.
أما اليوم، فقد تطوّر دور المثقف مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت الوصول إلى الجماهير أكثر سهولة وسرعة. إلا أن هذا التطور جاء بثمنٍ باهظ، إذ أصبح أيّ شخص يمتلك كاميرا ومنصّة قادرًا على تقديم نفسه كمثقف أو مؤثِّر، رغم افتقاره إلى أدوات المعرفة الحقيقية والخبرة اللازمة. وهذا التحوّل أدّى إلى بروز تأثير سلبي في أغلب الأحيان، إذ تُرك المجال مفتوحًا للمعلومات المضلِّلة والمحتوى السطحي.
المثقفون المزيفون وأثرهم السلبي
المثقف المزيّف هو الشخص الذي يفتقر إلى المعرفة الحقيقية والمبادئ الأخلاقية والقانونية، ويستغلّ الوسائل الحديثة لنشر أفكار مغلوطة وأهداف هدّامة. وتتجلّى خطورة هؤلاء في عدة جوانب رئيسية:
-1 تشويه الحقائق:
يعمد المثقفون المزيّفون إلى تحريف الأحداث التاريخية، وتفسير النصوص الدينية والمجريات السياسية بأسلوب مليء بالمبالغة أو القصور، مما يؤدي إلى إحداث بلبلة فكرية وتشويه للمعاني الأصلية.
-2 نشر الفوضى الفكرية:
يُغرقون المجتمع بسيل من الأفكار المتناقضة أو المتكررة، مما يربك الأفراد ويُعطل قدرتهم على اتخاذ قرارات واعية ومستنيرة.
–3 ترسيخ ثقافة الأكاذيب:
يعتمدون على إثارة العواطف واستغلال الأحداث بأسلوب تلاعبي يهدف إلى حجب الحقائق الحقيقية وإظهار ما يتماشى مع أهوائهم الشخصية، مما يؤدي إلى تدهور القيم الأخلاقية وانعدام الثقة في المحتوى المنشور.
استشراف الخطر وسبل المواجهة
إن الخطر الحقيقي للمثقفين المزيفين يكمن في قدرتهم على الوصول إلى شرائح واسعة من الناس، خاصة الشباب الذين يشكلون الفئة الأكثر تأثّرًا بوسائل التواصل الاجتماعي. ولمواجهة هذا التحدي، يجب اتخاذ الخطوات التالية:
-1 وضع معايير أخلاقية للمؤثرين:
يجب على الدول والمؤسسات وضع قائمة بمعايير أخلاقية واضحة تُلزم المؤثرين باتباعها عند تقديم المحتوى، بما يضمن حماية المجتمع من التأثيرات السلبية.
–2 تفعيل المساءلة القانونية:
يمكن لهيئات المجتمع المدني لعب دور فعّال في مراقبة المحتوى المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي، وتقديم شكاوى ضد المؤثرين الذين ينتهكون معايير التأثير الأخلاقي أو القوانين الإعلامية.
–3 دعم المثقفين الحقيقيين:
ينبغي توفير منصّات خاصة للمثقفين الحقيقيين الذين يحملون رسائل هادفة ومؤثرة، بالإضافة إلى تقديم برامج تدريبية ترفع من قدراتهم التقنية والعلمية، ليتمكّنوا من إيصال أصواتهم بشكل أفضل وأكثر تأثيرًا.
كلمة أخيرة..
ختامًا، إن المثقف الحقيقي ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو حامل شعلة التنوير والإصلاح، وهدفه الأسمى هو تحقيق نهضة فكرية وأخلاقية في مجتمعه. على النقيض، المثقف المزيف هو من يسعى لهدم أسس المجتمع بنشره للأكاذيب والتضليل، واستغلاله للمعلومات بطريقة لا تراعي القيم والمبادئ الأخلاقية.
التصدي لهذا الخطر يتطلب تكاتف الجهود التعليمية والعلمية والاجتماعية، لضمان بناء مجتمع قائم على الوعي والصدق والأصالة، لا على المغالطات والأفكار الهدّامة. فالمجتمعات التي تسعى للنهوض والازدهار يجب أن تتّخذ من الحقيقة أساسًا ومن المثقف الحقيقي قائدًا لمسيرتها نحو مستقبل أكثر إشراقًا.
سمر توفيق الخطيب (باحثة فلسطينية – لبنان)
هذا عصر المثقّف المؤثِّر!
يحمل المثقف – ومنذ الأزل – رسالة تهدف إلى تحسين بيئته ومجتمعه على حد سواء. وإن استطاع، فإنه ينشر خبراته ويُعمّمها على المجتمعات المحيطة. وحاليًا أصبح قادرًا على نشر رسالته في كل أنحاء العالم، نتيجة تحوّل عالمنا الكبير إلى قرية صغيرة، بفضل التّكنولوجيا التي تُعدّ عاملا من العوامل التي تؤثر على تطوّر وتقدّم المجتمعات في مختلف المجالات. فتطوّر العالم وظهور الكمبيوتر والهاتف الذّكي وما نتج عنه من وسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعي سمح بتحوّل العالم المترامي الأطراف إلى مراكز “إرسال وتلقّ” خلال جزء من الثّانية. وهذا بالضبط ما تنبأ له العالم الكندي “مارشال ماكلوهن”. وبغض النّظر عن المخاطر التي تهدد الصّحة العقلية والنّفسية للبشر، إلا أن لهذا التّطور الفوائد الكثيرة التّي لا تُعدّ ولا تُحصى، ما يسهّل ويختصر الكثير من الوقت في نقل المعلومات والتّعلم بين كافة أنواع البشر المنتشرين في مختلف أقطار العالم.
دور المثقف
يتمتّع المثقف بقوة التأثير التي تتجلّى في طريقة تواصله مع الأفراد الآخرين، وهو ما يُعرف بـ “الكاريزما” (Charisma). ويلعب المثقف دورًا بارزًا في التّأثير على المجتمع وإحراز التّغيير فيه. فعلى الرّغم من أن المثقف يختلف باختلاف العصور، إلا أننا نجد أن هناك – ومنذ القِدم – نوعين من المثقفين، فمنهم من يمدح ويوالي السّلطة والحاكم فيفوز بالامتيازات والمناصب، ومنهم من يُعارض فيُدجَّن أو يُقصى ويُنكّل به. وأحيانًا أخرى قد نجد المثقف المحايد، الّذي يُوالي ويعارض في آنٍ، إذ إن موقفه يتغيّر مع تغيّر المشروع والقناعات.
وقد لعب الشّعراء العرب دور المثقف في العصر الجاهلي. أما في العصر الإسلامي، فقد تمكن سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم من جمع الكثير من النّاس تحت لواء الدّين الإسلامي الحنيف، بفضل دماثة أخلاقه واستقامته وصدقة وإنصافه؛ فوصفه الله تعالى بقوله في القرآن الكريم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (سورة القلم: 4). فقد اتبع النّاس أوامر سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأسلوب حياته وحفظ أقواله وعبادة الله سبحانه وتعالى. يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، فقد جاء لهدم الجاهلية الأولى، إلا أنه أشاد بأخلاق العرب الحسنة وأنصفهم. قالت العربُ قديماً: “الإنصاف عزيز”.
ولا ننسى أن نتطرق أيضّا إلى ذلك المثقف السّلبي الذي يتمتع أيضًا بشعبية خاصة ومشجعين (fans) كُثر، ومنتشرين حول العالم، إلا أنني رغبت في أن أتناول في هذا المقال التّجارب الإيجابية التي لا يزال أثرها الطّيب حتى يومنا هذا.
المثقف القديم والتّجربة الغاندية
يسعى المثقف القديم جاهدا إلى تحسين أدواته، وابتكار ما يمكنه منها لكي يتمكّن من نشر مفاهيمه بين أفراد المجتمع المحيط به. فإذا أخذنا التّجربة الغاندية، كون “مهاتما غاندي” رجل سلام وتسامح؛ نجد أن “غاندي” وبسبب سمعته الطيّبة بين أفراد مجتمعه، تمكّن من التّركيز على مقاومة الاستعمار ومناهضة الظلم الاجتماعي. كما تمكّن من التّنديد بالقوانين الاستعمارية المفروضة على بلاده، وتكريس نضاله من أجل استقلال الهند. وتمكّن من تركيز اهتمامه بالفئة المنبوذة في مجتمعه، فاهتم كثيرًا بمشاكل العمال والفلاحين.
وعمَد “غاندي” إلى تنظيم حملات تضع حدًّا للتمييز الطبقي داخل مجتمعه، ونظّم مسيرة الملح السّلميّة فمشى على قدميه برفقة آلاف الهنود من “أحمد أبادي” إلى “داندي”، بهدف إسقاط ضريبة الملح التي فرضتها السّلطات البريطانية على مجتمعه. وكان يتمتّع بالجرأة، ما مكّنه من الدّعوة لاستقلال الهند، فذاع صيته خارج حدود البلاد. ودعا “غاندي” إلى وحدة وطنية تقوم على احترام الحقوق وأضرب عن الطعام، وقال جملته الشهيرة: “الموت بالنسبة لي خلاص مجيد بدلًا من أن أكون شاهدًا عاجزًا على تدمير الهند والهندوسية والسيخيّة والإسلام”.
ويرى “غاندي” أن كل شيء يُحلّ بالسلم وحتى أن الاستعمار ينجلي من دون مقاومة. فكره السياسي أضحى تجربة فريدة عُرفت بـ “التجربة الغاندية” وأصبحت مثالًا يُحتذى.
مثقف السّبعينيّات والثّمانينيّات وما بعدهما
لا بد من التّوقف عند بعض التّجارب الموحية، والتي تركت الأثر الكبير في نفوس النّاس نتيجة انتشارها عبر وسائل الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعي، من قبل مثقفين من السّبعينيّات والثّمانينيّات … إلى يومنا هذا.
التّجربة الماليزية
تُعد التّجربة الماليزية من أكبر التّجارب العالمية الرّائدة في مجال التّنمية الاقتصادية والتي انتشرت وذاع صيتها في مختلف وسائل الإعلام، فكانت بمثابة الدّرس الذي يُحتذى به لمختلف الدّول النّامية الرّاغبة لكي تتمكّن من النّهوض وتحسين اقتصادها. فقد تمكّنت ماليزيا، وبفضل رئيس وزرائها الدّكتور “مهاتير بن محمد”، من إطلاق عملية التّنمية الاقتصادية، ما مكّنه من تحقيق إنجازات ومعالجة قضايا البطالة والفقر في بلاده.
فقد عمد الدكتور “مهاتير” من إعداد دراسة بعنوان “ماليزيا والأزمة المالية الآسيوية” للتعرّف على الأزمة المالية التي عانت منها الدّول الآسيوية المجاورة لماليزيا وهي: تايوان والصين وسنغافورة، وتطرّق إلى كيفية تغلّب ماليزيا على أزمتها، وما هي السُّبل الكفيلة التي اتخذتها ماليزيا من أجل الخروج من هذه الأزمة؟ وتمكّن الدكتور “مهاتير بن محمد” من التّوصل إلى عدم التّعامل مع كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدّولي، واهتم فقط بالعنصر البشري الذّي يُعدّ أساس نجاح أيّ عملية تنموية. وكان من أسرار هذه التّجربة الفذّة، التّخطيط الجيّد وتنفيذ هذه الخطط ضمن إطار زمني مُحدّد. وهذا ما أدّى إلى تحسين الوضع الاقتصادي في ماليزيا وتوفير حياة كريمة لكل المواطنين فيها.
تجربة الشيخ “فتحي أحمد صافي”
أما تجربة الشيخ “فتحي أحمد صافي”، الذي ذاع صيته عندما انتقل من “درعا” إلى مدن ريف دمشق ثم إلى العاصمة دمشق، ليعطي الدّروس والخطب الدّينية في مساجدها؛ فعُرف بأسلوبه العفوي والمُحبّب إلى قلب المستمع. فتفاعل النّاس معه وانتشرت محاضراته بكثرة كمقاطع قصيرة تُتَداول على وسائل التّواصل الاجتماعي، مثل الفيسبوك واليوتيوب والواتس آب. وانتشرت قصة توبته التي كان لها الأثر الكبير في جذب الملايين لمتابعته. كما عمَد في محاضراته إلى إطلاع النّاس على نتاجه الشّرعي، الذي تناول فيه المسائل الفقهية كأحكام الأحوال الشّخصية والصّيام والحج والعمرة. كما عمَد إلى سرد القصص التّي خَبرها خلال إقامته في ريف دمشق ودرعا التي شهدت انطلاقته كخطيب وواعظ في التّسعينيات من القرن الماضي.
مثقف ومؤثِّر العصر الحالي
يُعرف المثقف الحديث بلغة عصرنا باسم المؤثِّر (Influencer)، كونه أصبح قادرًا على استقطاب الملايين من النّاس حول العالم وخلال دقائق معدودة. فعلى الرّغم من أن المعرفة تُكتسب بالعقل من خلال التّعلم الاجتماعي والتّقليد، إلا إن التّثاقف عملية دينامية تتم بوعي الأفراد.
بيد أن هذا (المثقف – المؤثر)، يستخدم مختلف وسائل الإعلام، ومواقع التّواصل الاجتماعي تساهم بشكل مباشر وسريع في التّأثير في الآخرين. فيعمد إلى نشر المحتوى المرئي والمقروء والمسموع، وتوجيه النّصائح والتّوجيهات، وتقديم القصص الشّخصية والتّجارب الحقيقية، ما يؤثّر ويساهم في تغيير سلوك الآخرين وفي اتخاذ القرارات.
فالمثقف الحديث (المؤثر) في عصرنا الحالي يختلف عمّن سبقه من مثقفي السّبعينيّات والثّمانينيّات من القرن الماضي بقدرته الفائقة على نشر محتواه. هذا المحتوى الذي يتناول مواضيع عامة تشمل مجتمعات أخرى لا تمتّ لمجتمعه بصلة، كونه قادرًا على أن يجول في العالم دون أن يتحرّك من مكانه، بسبب هذه التّكنولوجيا التي أنجبت الكثير من الوسائل التي افتقدها المثقف القديم.
فها هو المثقف الحديث (المؤثر) يتنقل في هذه القرية كيفما يشاء ووقتما يشاء. يطرح أفكاره وينشرها عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعيّ، فيتفاعل معه الآلاف ومئات الآلاف بل الملايين من النّاس. وهذه التّكنولوجيا مكّنت النّاس من مواكبة التّطور والتّقدم في مجالات شتّى، على سبيل المثال السّفر إلى الفضاء الخارجي وتطوّر علوم الطب والاستنساخ، يقول الله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه: 114).
فعلى الرّغم من اختلاف المجتمعات العربية والأجنبية، إلا أننا نجد أن المثقف الحديث (المؤثر) أصبح قادرا على اختراق هذه المجتمعات في شتى أنحاء العالم نظرًا لوجود التّرجمات أو اعتماد اللّغة الإنكليزية التي تُعدّ حاليًا اللّغة الوسيط بين مختلف الدّول. فمن هؤلاء المثقفين من يقوم بعمل دورات تدريبية (Coaching or Training)، ومنهم من يُلقي المحاضرات، ومنهم من ينشئ محتوًى عالي الجودة. وغالبًا ما يكون هؤلاء المثقفون من النّاشطين على منصّات وسائل التّواصل الاجتماعي، كخبير التّسويق الرّقمي “نيل باتيل” الذي يشارك خبراته عبر مدوّنته الخاصة ويثق به قُرّاؤه. ومن هؤلاء المثقفين “صالح الجعفراوي” وغيره الكثير، مِمّن تمكّنوا من إيصال صوت غزّة إلى مختلف أنحاء العالم عبر الفيسبوك والإنستغرام واليوتيوب وغيرها من وسائل التّواصل، ما ترك الأثر الإيجابي في الغرب.. ففتحت أعينهم على قضية كان العدو “الإسرائيلي” يطلعهم عليها بطريقته المغايرة للواقع. ونتج عن ذلك المسيرات والمطالبات بوقف إطلاق النّار والتّعاطف مع الأطفال والنّساء والشّيوخ… إلخ. وهذا ما مكّن العالم بأسره من معرفة أن هذه الأرض هي أرض الرّباط وأنها أرض محتلة، فلا بدّ من عودتها يومًا، وقريبًا بإذن الله، إلى أهلها الحقيقيين وهم أهل فلسطين.

الحرب الثقافية ونَمذَجة العقول.. إنهم يسوقون البشرية إلى الفراغ الروحي!
نعيش في الأصل علاقة جدلية بين الدين والثقافة، حيث تختلف المصطلحات التعريفية لهذين اللفظين في المعنى وفي الرؤية الإبستمولوجية لهما ضمن نظرية الوجود. كما تتفاوت قدرتهما على تحديد قوانين الحياة الاجتماعية والأخلاقية، وبالاساس الحياة العملية التي تتطلب انفتاحا كاملا على القارات الخمس. إلا أن بعض الباحثين يرون أن هناك ترادفا بين الدين والثقافة، بحيث يصبح الدين ثقافة والثقافة دينا، فيقال: الدين الإسلامي أو ديانة الإسلام بمعنى الثقافة الإسلامية، والدين البوذي بمعنى الثقافة البوذية، وهكذا.
أما من منظور منطقي، فإن مفهوم الدين عند بعض المفكرين العلمانيين يعتبر مفهوما ملتبسا، وقد صُنّف كفكر، أي نشاط فكري معرفي، وهو بذلك عنصر من عناصر الثقافة. فتُصبح فكرة الثقافة أكثر شمولية، لأنها تتوافق مع الأيديولوجيات وتتكيف مع الاستنباطات البشرية عبر التاريخ، بينما يواجه الدين مشكلة في التكيّف مع التحديث. فكتب “ماثيو آرنولد” (1822 – 1888 م) في كتابه (الثقافة والفوضى) الصادر عام 1869م، ذلك الافتراض غير المحقق على حد وصفه لعلاقة ما بين الثقافة والدين، حيث يوحي إلينا “آرنولد” أن الثقافة أشمل من الدين، والدين ليس إلا عنصرا ضروريا يعطي تكوينا أخلاقيا وشيئا من تلوين انفعالي للثقافة، وهي القيمة النهائية…
لكن، هل الثقافة التي استحدثها المفكّر قادرة على الإجابة عن الأسئلة البشرية المتعلقة بالطبيعة والمادة وجميع مظاهر الوجود؟ أم أنها لم تُجب ولم تقترب حتى من الإجابة عن سؤال الوجود؟
سيبقى هذا السؤال لغزا في معزل عن معطيات الدين. وربما يُعتبر هذا السؤال ثقافيا، فيظهر في انهماك الآداب والفنون والفلسفات منذ فجر التاريخ، مثل كتابات “أفلاطون” وأعمال “دانتي” ولوحات عصر النهضة، التي حاولت مواجهة هذا السؤال وتحدياته وتداعياته..
وهناك صعوبة أخرى أساسية بالقدر نفسه تواجهها أديان العالم من تحديات علمية وفلسفية على مدى قرون حيث أن استراتيجيتها تتمثل ببساطة في إنكار أيّ منبر تستطيع التحديات العلمانية التعبير عن نفسها من خلاله والتي تسعى إلى التقليل من أهمية الدين في تسيير الشعوب، وأن الأفراد يستطيعون ممارسة إستقلال خلّاق من خلال التكيّف مع منتجات الثقافة والروح الإنسانية.
ومن الواضح أن رجل الدين هو وحده الذي يتصرّف كأنّ المبادىء تقف على محك الانهيار وأن الانحياز إلى ملائمات العصر وأن الممارسات العقائدية القديمة لم تعد تتوافق مع الأسلوب الحضاري للرجل الحداثي.. لذلك اندلعت الثورة ومعها المذابح وعزّزت الصراع والتفسخ الاجتماعي والاضطهاد السياسي إذ يبدو أن هناك حاجة إلى تغيير مزلزل لحلّ مشكلات الفقر والجريمة واللاشرعية والتنافس الصناعي والتعصب الديني..
ولكن السؤال الملغوم هو: كيف تمكّن صُنّاع الثقافة من تشكيل السياسات الدولية ونمذجة العقول على أفكار علمانية وقوانين مثبتة بعيدا على التبعية الدينية؟ وهل هناك إثباتات تؤكد على أن الثقافة في جوهرها تجسد الدين لا غير ذلك..
التحديات الثقافية في عصر العولمة
لقد تحدث “فرويد” في كتابه “قلق في الحضارة” (Civilizationand Its Discontents) على أن حضارة الإنسان التي أعنى بها كل الأوجه التي رفعت الحياة البشرية ذاتها لتصبح أعلى من الحالة الحيوانية ومختلفة عن حياة الوحوش.. فكان ولا بد من النظر إلى الحضارة كروح فهي خلقت من التراث الأدبي والفني والخبرة الصناعية ومن دراسة التخصصات الأكاديمية..
فأصبح بذلك السياسيون في أوروبا يحرّضون على الثورة الثقافية لتحقيق السعادة الفردية أو المصلحة العامة ولكن رأس مال الإنسانية يزداد في كل الأحوال، فكان لا بد للأمم أن تتجه إلى عملية التحضّر لتصبح أكثر قوة وأكثر عمومية وأكثر منطقية، وكانت بادرة لأن تكون للثقافة قيمة تحليلية مُفعّلة وثابتة حيث أنها بيّنت الفروق بين الجنسين وبين الأجيال وبين فرق كرة القدم وبين الوكالات الإعلامية وبين الأسواق التجارية، وبينت الاختلافات في النمو الاقتصادي والاجتماعي..
حيث تبدو بذلك أداة للدّمج والانصهار، ومن الممكن أن تفشل ثقافتان معينتان في الانسجام والاندماج حيث تقول أحد الشركات في لندن “شركة الحلول السيميائية” (semiatic solution): “حاولنا أن نسوّق السيمياء ولكننا وجدنا أن الأمر صعب بعض الشيء.. لذلك فنحن نسوّق الثقافة.. فالكل يعرف الثقافة ولا يتعين عليك تفسيرها”.
فما هي الثقافة التي تريد أن تسوّقها؟ وإلى مدى من الممكن أن تمثل مصدر خطر على الثقافات المحلية؟
في كتاب “اغتصاب العقل” لـ “د. جوست إبراهام” نص على استغلال النفوذ في تأمل الناس.. أسلوب حياتهم. عاداتهم.. سلوكياتهم.. نبرة أصواتهم.. النظر إليهم بانتباه تأمل الأدب الذي يقرؤونه والأمور التي تسعدهم.. الكلمات التي تنطق بها أفواههم والأفكار الإيديولوجية التي تتشكل في عقولهم ومن ثم إستخدام المعرفة والثقافة لإجراء تعديلات جذرية في الشخصية لتحقيق مصالح فردية من خلال تعزيز المُتع الحسيّة والتطفّل على حدود العقل والتخلي عن العقائد، حيث قام البلاط الملكي في أوروبا بعد إنفصاله على الدين على تبديد قانون الكبح الاجتماعي والكبح الذاتي وبذلك رُفعت عتبة الإحراج وأصبح كل أمرٍ مباح..
تزييف الثقافة لأغراض جماعية أو فردية
الثقافة عالم الفن والدين القائم بذاته الذي ليس لديه أهداف خارجية أو نهايات منطقية يسعى إليها.. قد فرض تضحيات دون المساس بالأخلاقيات التي فرضها الدين إلا أنه لم يعد محصورا في بحوث أو في علوم أو في سلوك بل أصبح مزيفا عندما تُقدَّم المعارف والأفكار على أنها ثقافة، ولكنها تخلو من العمق، أو عندما تُستخدم الشعارات الثقافية لتبرير ممارسات فارغة إذ يُفرز أجيالا تفتقر إلى النقد والتفكير العميق، مما يستدعي العمل على تعزيز الثقافة الحقيقية.. أصبحنا نشهد هذا التزييف في العديد من المجتمعات حين تتحوّل الثقافة إلى مجرد سلعة استهلاكية تُروّج شعاراتها في وسائل الإعلام دون عمق أو هدف حقيقي. على سبيل المثال، حذّر “مالك بن نبي” من خطورة استيراد الأفكار والثقافات دون الأخذ بعين الاعتبار سياقها الأصلي، مما يؤدي إلى تشويه الهوية الثقافية للأمم، حيث يقول في كتابه “شروط النهضة”: “إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة؛ فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجردا”.
وفي السياق ذاته، انتقد “إدوارد سعيد” الاستشراق، حيث رأى أن الغرب يقدِّم ثقافة الشرق بشكل مشوه ومغلوط بما يخدم مصالحه الاستعمارية. حيث يقول هو الآخر في كتابه “تغطية الإسلام”: “مطلبي هو الاحترام الواجب للتفاصيل الملموسة للخبرة البشرية، والتفهم النابع من النظر إلى (الآخر) نظرة ودٍّ وتراحم؛ والمعرفة التي تُكتسب وتُنشر بأمانة أخلاقية وفكرية”.
أوروبا وأمريكا تقومان بإستخدام المعرفة لغسل الأدمغة بل “تهذيب الخاضع للتعذيب” من خلال التأثير على الأجيال ومن خلال إطلاق المخاوف والرغبات الأعمق فتشجع في الشعوب المقموعة والمضطهدة على النقد الاجتماعي والخروج عن طوعية الدين إلى مواكبة الثقافة العصرية وذلك من خلال السيطرة الفكرية ليتمكنوا من الهيمنة عليهم بشكل ناعم دون استخدام القوة العسكرية فقط.. والتبعية في الترويج لثقافة استهلاكية سطحية تجعلنا تابعين لمنتجاتهم وأسلوب حياتهم.
كذلك طمس الهوية، فالغرب يحاول إعادة تشكيل الهوية الثقافية للشعوب الأخرى بحيث تصبح مجتمعاتها أقل ارتباطا بجذورها التاريخية والدينية.
كيف يروِّج الغرب لثقافته؟
ارتكز الغرب مؤخرا على صناعة السينما والإعلام. فالأفلام والمسلسلات الغربية تُعتبر أدوات فعالة لنقل أيديولوجياتهم. على سبيل المثال، أفلام “هوليوود” تروِّج لفكرة أن الفردانية هي القيمة العليا، وأن التحرر من القيود الدينية والثقافية هو السبيل إلى النجاح. كما أن المسلسل الأمريكي الشهير “Friends” يقدّم أسلوب حياة ليبرالي بعيد عن القيم التقليدية ويعرض العلاقات الإنسانية بطريقة تتناقض مع السياقات الثقافية الشرقية. لخلق صورة مشوّهة عن القيم الثقافية الأصلية.
إلى جانب الإعلام، يسهم النظام التعليمي في نشر الثقافة الغربية من خلال فرض مناهج تعتمد على تاريخ أوروبا وأهم غزواتهم وحروبهم كمرجع عالمي. ففي بعض بلدان إفريقيا يتم تدريس تاريخ الاستعمار الأوروبي على أنه “مهمة حضارية”، دون تسليط الضوء على الآثار السلبية والتأثيرات الاستغلالية التي خلّفها من سرقات لمناجم الذّهب واستغلال الموارد الخام.. هذا الإغفال يعزّز من الانفتاح على الفكر الغربي ويقلل من قيمة الحضارات المحلية.
إضافة إلى ذلك، يُعتبر ترويج اللغات الأجنبية جزءًا من عملية فرض الهيمنة الثقافية. فبعض الدول العربية تُشجع على تدريس العلوم باللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية بدلا من اللغة العربية، مما يجعل اللغة الأصلية تُعتبر أقل شأنا، وبالتالي يتم تعزيز التبعية الثقافية للغرب. هذا التوجه لا يُقلل فقط من قيمة اللغة المحلية، بل يعزز أيضا من تأثير الثقافة الغربية على الشباب والأجيال الجديدة…
ومن جانب آخر، فالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي تُعتبر من أبرز الوسائل التي تُساهم في هذا الترويج الثقافي. مثل منصّات: إنستغرام وتيك توك..
كيف خلقت هذه الظواهر مثقفين مزيفين؟
من خلال الترويج للشهرة على حساب العلم، أصبحت وسائل الإعلام تُفضّل الأشخاص الذين يتمتعون بكاريزما أو الذين يروجون لآراء مثيرة، حتى وإن كانت سطحية أو غير مبنية على معرفة حقيقية. هذا يجعل البعض يسعى للظهور من خلال نشر أفكار عامة لا تمتّ للثقافة أو الفهم العميق بصلة..
كذلك في استهلاك الثقافة بدلا من إنتاجها، حيث بدلا من أن يكون المثقف فاعلا ومؤثرا في مجتمعه من خلال تقديم أفكار جديدة وبنّاءة، أصبح البعض يسعى لمتابعة كل ما هو جديد في الإعلام والتكنولوجيا الغربية، مع الاستهلاك الأعمى لهذه الأفكار دون تبنّي أو تطوير رؤى نقدية.
مع الارتباط بالموضة الفكرية، فمثقّفو المظاهر يقتفون أثر الأفكار السائدة في المجتمع، مثل التركيز على القضايا الاجتماعية “الرائجة” (مثل حقوق الإنسان أو البيئة) دون الإلمام العميق بتفاصيلها أو تبنّي مواقف جادة تؤثر في المجتمع. كما أن هناك شخصيات إعلامية تظهر بشكل مستمر على الشاشات أو وسائل التواصل الاجتماعي، وتطرح آراء مثيرة للجدل أو تتبنّى مواقف مُبسّطة تتناسب مع أذواق الجمهور، لكنها تفتقر إلى التحليل العميق أو الفهم الجيد للقضايا التي تتناولها. هي شخصيات تعتمد على شعبيتها وجذب الأنظار أكثر من تقديم أفكار جديدة أو حلول جذرية للمشكلات.
ولا ننسى المفكّرين الذين يروّجون لآراء شعبية دون أساس علمي ويكتبون مقالات تتمحور حول قضايا اجتماعية أو سياسية لكنهم غالبا ما يتبنّون آراء عامة شائعة ولا يضيفون أفكارا نقدية أو معقدة. هؤلاء يعتمدون على التعبير عن الرغبات العامة بدلا من تقديم رؤى مدروسة.
كما أن هناك فنانين أو كُتّاب يعمدون إلى التوجّه نحو مواضيع سطحية أو تجارية فقط لتحقيق النجاح السريع والشهرة في العالم العربي، دون أن يعكسوا في أعمالهم عمقا فكريا أو ثقافيا. هم يفضلون تقديم ما يُرضي السوق بدلا من البحث في المواضيع الجادة التي تتطلب تأصيلا ثقافيا وفكريا.
والناشطون الاجتماعيون الذين يتبنّون قضايا “رائجة” بشكل سطحي، فبعض الناشطين يطرحون أنفسهم كأبطال لقضايا حقوق الإنسان أو البيئة، لكنهم غالبا ما يكتفون بالحديث عن هذه القضايا بشكل إعلامي سطحي، دون تقديم حلول عملية أو إجراء أبحاث معمقة. هؤلاء يسعون للظهور إعلاميا أكثر من التأثير الفعلي في المجتمع.
تطابق الدين والثقافة: الدين والثقافة وجهان لعملة واحدة
“قد لا يؤمن فرد أوروبي بأن الإيمان المسيحي حق، ولكن ما يقوله ويصنعه ويأتيه.. كلّه من تراثه في الثقافة المسيحية، ويعتمد في معناه على تلك الثقافة” (توماس إليوت). في هذا السياق، نتطرق إلى قدرة الدين في تكوين ثقافة سوية وحقيقية دون تزييف من خلال ما جاء في أعمال “توماس إليوت” الذي يُظهر تطابق الدين والثقافة كعنصر أساسي في بناء الهوية الثقافية والشخصية الجماعية. فكان يعتقد أن الدين هو المصدر الأساسي للقيم والأخلاقيات التي تشكل الثقافة، وأن فقدان الاتصال بالدين يؤدي إلى أزمة ثقافية ومعنوية، كما يظهر في أعماله الشعرية والنقدية. في كتاباته، يُبرز “إليوت” تدهور القيم الدينية في العصر الحديث، مُعتبرا أن هذا التدهور يسهم في الفراغ الروحي والانفصال الثقافي.
في قصيدته الشهيرة “الأراضي الموات” (The Waste Land)، يعكس “إليوت” بشكل واضح هذه الفكرة.. القصيدة تُصوّر حالة من الفوضى الثقافية والروحية التي يعاني منها العالم الحديث، نتيجة البُعد عن الروحانيات والقيم الدينية. فيعبّر “إليوت” عن هذا الفراغ الروحي من خلال تصوير مجتمع مليء بالتشاؤم والانقسام، حيث يتمّ تجاهل أو نسيان القيم الدينية التي كانت توحد الناس. وفي مقاله “دور المسيحية في الثقافة” (The Christian in Literature)، يوضح “إليوت” كيف أن المسيحية كانت الأساس الذي قامت عليه الثقافة الغربية، مُشيرًا إلى أن الدين لا يمكن أن يكون مجرد مسألة شخصية أو فردية، بل هو عنصر حيوي في تشكيل الثقافة ككل. وعندما يبتعد الناس عن الدين، فإن الثقافة تبدأ في التفكك، ويحدث ما يسميه “الفراغ الثقافي”.
في الخلاصة، “إليوت” يربط بين الدين والثقافة في هذه السياقات باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. في المجتمعات التقليدية، مثل تلك التي كانت قائمة في العصور الوسطى أو في الحضارات القديمة، فكان الدين جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، وكان يمثل الموجه الأخلاقي الذي يحدّد تصرفات الناس ويشكل الثقافة التي يعيشون ضمنها. كما أنه يرى أن هذا التماسك بين الدين والثقافة، الذي كان موجودا في الماضي، قد تلاشى في العصر الحديث نتيجة لتسارع العلمنة والانشغال بالجانب المادي للحياة، ممّا أدى إلى حالة من الفراغ الروحي…