تشهد كوريا الجنوبية واحدة من أشدّ أزماتها السياسية تعقيدًا في تاريخها الحديث، بعد اعتقال الرئيس المعزول يون سوك يول، الذي كان حتى وقت قريب يمثل رمزًا للسلطة التنفيذية. وجاء هذا التطور غير المسبوق إثر مداهمة أمنية لمقر إقامته في العاصمة سول، على خلفية اتهامات بقيادة تمرد ومحاولة فرض الأحكام العرفية. ولم يكن اعتقال «يون» مجرّد حدث داخلي بل كان له صدى واسع، إذ يمثل نقطة تحول في تاريخ النظام الديمقراطي الكوري الجنوبي، الذي طالما اعتُبر أنموذجًا في آسيا. وفي ظل تصاعد التوترات بين القوى السياسية والاجتماعية، باتت الأزمة تثير تساؤلات خصوصا أن «يون»، وهو مدّع عام سابق، قد يواجه عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة في حال إدانته بتهمة التمرد.
اعتقلت السلطات الكورية الجنوبية، أمس الأربعاء، الرئيس المعزول يون سوك يول، بعد مداهمة مقر إقامته في العاصمة سول، وذلك على خلفية اتهامه بمحاولة فرض الأحكام العرفية الشهر الماضي.
ووفقًا لوكالة “يونهاب”، يواجه «يون» اتهامًا بقيادة تمرد، وقد نُقل إلى مكتب التحقيق في قضايا الفساد لاستجوابه. ويمثل اعتقال «يون» سابقة في تاريخ كوريا الجنوبية، التي تُعتبر من أبرز الدول الآسيوية الديمقراطية، حيث لم يسبق أن تم اعتقال رئيس كوري جنوبي خلال فترة ولايته.
قال مكتب التحقيق في فساد كبار المسؤولين في كوريا الجنوبية إنه جرى استجواب الرئيس المعزول لمدة ساعتين ونصف خلال الصباح في أعقاب احتجازه، لكنه يرفض الإدلاء بأقواله. وقبل ذلك كان «يون» قد أعلن -في رسالة مصورة عقب توقيفه- أنه قرر الرضوخ لأوامر قوات الأمن حقنًا للدماء، رغم اعتباره التحقيق الجاري غير قانوني.
وكانت قوات الأمن قد أرسلت نحو 1,000 عنصر، بينهم مئات من المحققين وضباط الشرطة، لتنفيذ عملية اعتقاله. وتمكنوا بالفعل من دخول المجمع السكني للرئيس المعزول في ثاني محاولة لتنفيذ مذكرة التوقيف، والتي نجحت هذه المرة. وأفادت وكالة “يونهاب” بأن اشتباكات اندلعت أثناء محاولة الفريق المشترك من مكتب التحقيق في قضايا الفساد والشرطة تنفيذ مذكرة التوقيف الجديدة.
بعد ساعات من التوتر عند بوابة المجمع السكني للرئيس الكوري الجنوبي المعزول، شوهد مئات المحققين وضباط الشرطة يتحركون داخل المجمع. وقد تعهد الفريق الأمني باتخاذ إجراءات أكثر حزمًا بعد أن حالت خدمة الأمن الرئاسي دون اعتقال «يون» في المحاولة الأولى بتاريخ 3 جانفي الجاري.
وأفادت الوكالة الكورية بأن المحققين وعناصر الشرطة تمكنوا من دخول مقر الرئاسة باستخدام سلالم، متجاوزين حاجزين بشريين أقامتهما قوات الأمن. وقبيل تأكيد اعتقال «يون»، صرّح محاميه أن موكله مستعد للمثول أمام مكتب التحقيق شريطة مغادرة المحققين مقر إقامته.
وفي بيان مصور بثه بعد اعتقاله، أعلن «يون» أنه وافق على المثول أمام مكتب التحقيقات، الذي يقود القضية ضده، للمساءلة بشأن مزاعم بالفساد. وقال: “قررت المثول أمام مكتب التحقيقات المركزية، رغم اعتقادي بأن هذا التحقيق غير قانوني، وذلك لتجنب إراقة الدماء التي لا يرغب فيها أحد”. لكنه شدد: “هذا لا يعني أنني أوافق على شرعية تحقيقهم”.
في مقطع فيديو لم يتجاوز ثلاث دقائق، أعرب الرئيس الكوري الجنوبي المعزول عن استيائه مما وصفه بانهيار سيادة القانون في البلاد. وأشار إلى أن الوكالات التي تحقق معه، إلى جانب المحاكم التي أصدرت أوامر اعتقاله، تفتقر إلى الشرعية القانونية. وأضاف: “رغم أن هذه أيام مظلمة، إلا أن مستقبل هذا البلد يبشر بالخير”. واختتم «يون» كلمته برسالة إلى المواطنين قائلًا: “إلى مواطني بلدي، أتمنى لكم كل التوفيق وأدعوكم للبقاء أقوياء. شكرًا لكم”.
من جهته، قال زعيم الحزب الديمقراطي المعارض، بارك تشان داي، إن اعتقال «يون» يمثل دليلًا على أن “العدالة في كوريا الجنوبية لا تزال قائمة”. وأكد خلال اجتماع للحزب أن هذا الاعتقال “يمثل الخطوة الأولى نحو استعادة النظام الدستوري والديمقراطية وسيادة القانون”. وقد يواجه «يون»، وهو مدع عام سابق قاد “حزب سلطة الشعب” إلى تحقيق فوز انتخابي العام 2022، عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة في حال إدانته بتهمة التمرد.
احتفالات هنا واحتجاجات هناك
شهد مقر إقامة «يون» تجمعًا حاشدًا للمواطنين منذ ساعات الصباح الباكر، في أجواء مشحونة بالعواطف والانفعالات. وعلى مقربة من مقر الإقامة الرئاسية، انقسم المتظاهرون إلى مجموعتين؛ هتف معارضو «يون» “اعتقلوه”، بينما رد أنصاره بهتافات باسمه.
مع إعلان الشرطة والمحققين نجاحهم في دخول المجمع الرئاسي بعد تجاوز الحواجز التي أقامها طاقم الأمن باستخدام الحافلات، تعالت صيحات الفرح والهتافات من معارضي «يون»، معتبرين ذلك انتصارًا للعدالة. في المقابل، خيم الحزن على أنصار الرئيس المعزول، الذين لم يتمالكوا أنفسهم وانهمرت دموعهم أثناء اشتباكاتهم مع قوات الشرطة. وبات أمام السلطات الآن 48 ساعة لاستجواب «يون»، وبناءً على نتائج التحقيق، قد تصدر مذكرة اعتقال بحقه لمدة تصل إلى 20 يومًا، أو يتم إطلاق سراحه إذا لم تتوفر أدلة كافية.
ذكرت وسائل إعلام محلية أن موكبًا من السيارات، يُعتقد أنه كان يقلّ «يون»، شوهد يغادر مقر إقامته بعد اعتقاله. وفور الإعلان عن توقيفه، أطلق معارضوه أغاني احتفالية وهتافات تعبيرًا عن فرحتهم بما يعتبرونه نجاحًا في إنفاذ القانون. في المقابل، كان الجو مختلفًا تمامًا بين أنصار «يون»، إذ قال أحدهم، مرددًا ما جاء في رسالة الرئيس المصورة: “نشعر بحزن شديد وغضب عارم… لقد انهارت سيادة القانون”.
تزامنًا مع العملية الأمنية التي أسفرت عن اعتقال «يون»، شهدت العاصمة سول مظاهرات متباينة؛ حيث تجمع مؤيدون للرئيس للتعبير عن دعمهم له، بينما نظم معارضوه احتجاجات تطالب بتنفيذ قرار عزله واعتقاله.
وكان برلمان كوريا الجنوبية قد صوّت لصالح عزل الرئيس يون سوك يول بعد محاولته فرض الأحكام العرفية في أوائل ديسمبر الماضي، وهي خطوة وصفها المعارضون بأنها “انقلاب”، وتم إحباطها سريعًا بقرار من النواب.
صعود «يون» وسقوطه
منذ تصويت البرلمان على عزله، ظل «يون» متحصنًا في مقر إقامته على تل في سول، محاطًا بمجموعة صغيرة من الحراس الشخصيين الذين تمكنوا في وقت سابق من إحباط محاولة اعتقاله الأولى. ومع ذلك، انتهت الحصانة في العملية الأخيرة التي نجحت في توقيفه وسط إجراءات أمنية مشددة.
تولى رئيس الوزراء هان داك سو مهام رئيس الجمهورية بالوكالة بعد عزل الرئيس يون سوك يول، لكنه لم يلبث أن تعرض للعزل هو الآخر من قِبَل البرلمان. وتتهم المعارضة هان بالمشاركة في “التمرد” من خلال رفضه تعيين ثلاثة قضاة من أصل تسعة في المحكمة الدستورية، التي يُنتظر أن تصدر قرارها بشأن عزل «يون» بأغلبية الثلثين.
وبسبب قرار عزله من قبل البرلمان، لم يعد «يون» قادرًا على ممارسة مهامه الرئاسية، لكنه لا يزال يحمل صفة الرئيس رسميًا في انتظار قرار المحكمة الدستورية، المقرر صدوره بحلول منتصف جوان المقبل. وتسببت الأزمة السياسية في انقسام داخل الشارع الكوري الجنوبي، وأثارت قلقًا إقليميًا ودوليًا بشأن تداعياتها السياسية والاقتصادية، في ظل تمسك الأطراف المتنازعة بمواقفها وغياب حلول واضحة لإنهاء الأزمة.
شغل الرئيس المخلوع، يون سوك يول، سابقًا منصب المدعي العام، وحقق شهرة واسعة بين الناخبين المحافظين بفضل مواقفه المناهضة للنسوية وتشديده في التعامل مع كوريا الشمالية. لكنه منذ صعوده إلى الرئاسة في عام 2022، واجه سلسلة من الفضائح الشخصية التي أضعفت شعبيته، فضلًا عن تصاعد المعارضة السياسية ضده.
وفي ظل تزايد الضغوط، أعلن «يون» الأحكام العرفية في 3 ديسمبر الماضي، مما أغرق البلاد في حالة من الفوضى السياسية. إلا أن هذه الخطوة قوبلت برفض واسع النطاق، ما أدى إلى عزله من قبل البرلمان وإخضاعه لتحقيقات جنائية.