قبل أن يهتزّ العالم على وقع ملحمة «طوفان الأقصى»، كانت الأجواء تتّجه بسرعة نحو المزيد من اتفاقيات التطبيع، فقد برز انخراط السعودية بشكل علني في هذا السياق، وذلك من خلال الإعلان عن مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط الهند بالـ(الشرق الأوسط) وأوروبا، والذي يضمّ الرياض و«تل أبيب» سويّا. وهو ما مثّل خطوة نحو تجسيد صورة «الشرق الأوسط الجديد» بالمفهوم «الصهيو-أمريكي»، غير أن «طوفان الأقصى» وما تلاه من صمود فلسطيني أسطوري، أعاد عقارب الساعة إلى الوراء وأتاح للمقاومة الفلسطينية تصحيح المسار مُستفيدة من فرصة توحيد الساحات في لبنان واليمن والعراق، وهكذا بدا أنّ مشروع «الشرق الأوسط الجديد» سيتحقق فعلا، لكن، برؤية مختلفة تمامًا عن تلك التي أثيرت على وقع العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006، والتي روّجت لها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «كونداليزا رايس»، والأمر يتعلق هنا بشرق أوسط جديد مُستلهم من ملحمة “طوفان الأقصى” التي سيخلدها التاريخ.
=== أعدّ الملف: حميد سعدون – سهام سوماتي – منير بن دادي ===
ترتبط كلمة “الطوفان”، بكل ما تحمله من استعارات ودلالات، بمشهد تجديد الخَلق حين قاد نوح عليه السلام، “السفينة” بمن معه إلى برّ النجاة، فيما غرق الباقون، وقد عادت كلمة “طوفان” من خلال ملحمة أسطورية تخوضها المقاومة الفلسطينية في غزّة منذ السابع من أكتوبر 2023، ضد الكيان الصهيوني والقوى المتحالفة معه.
وكان موقع “أكسيوس” الأمريكي الإخباري قد كشف أنّ الرئيس الأمريكي “جو بايدن” وصف عملية 7 أكتوبر (طوفان الأقصى) بالحدث الذي سيغيّر العالم، ويتردّد صداه خلال القرن الـ 21، وقد جاء ذلك بعد يوم من وقوع الهجوم الأول الذي شنّته المقاومة الإسلامية “حماس”، ردًّا على تصاعد الاعتداءات الصهيونية ضد المقدسات والفلسطينيين.
وبعيدًا عن أيّ تفسير تبنّاه “بايدن” بهذا الخصوص، فإنّما قاله عجوز البيت الأبيض في ذلك الوقت – حول عملية “طوفان الأقصى”- ظل غامضا في نظر المتابعين، باستثناء المُتخصّصين – بعمق- في مشاريع التّطبيع بالمنطقة، والذين كانوا يلاحظون تغلغل الكيان في مفاصل سلطة المخزن المغربي وانخراط الإمارات في تقديم الولاء للمؤسسة الصهيونية، ولم يبق وقتها إلا أن تنضم السعودية إلى ركب هؤلاء المهرولين بأقصى سرعة.
تم تحضير كل شيء، وكانت التلفزيونات تستعد لنقل صور تجمع ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” بمجرم الحرب “بنيامين نتنياهو”، في مصافحة تتوج اتفاق تطبيع أفشت الرياض سرّه حين أعلنت أنه بات قريبا جدا، لولا أنّ حدثا غير متوقَّعٍ نسف كل شيء في لحظة واحدة، وأجبر “بن سلمان” أن يلتزم الصمت، فيما خرج “نتنياهو” ليقول: “(إسرائيل) باتت في حالة حرب”.
لقد انطلقت عملية “طوفان الأقصى” – يوم السبت 7 أكتوبر 2023 – في مشهد لم يعرف العالم مثيلا له، وكان ذلك غداة حلول الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973، والأهم من ذلك أن معركة “طوفان الأقصى” جاءت في ظل مسعى لإبرام اتفاق تطبيع بين السعودية والكيان الصهيوني.
يومها خرج “نتانياهو” ليخبر الإسرائيليين المصابين بالصدمة الكبرى أن الحرب بدأت، بعدما كان قبل شهر من تلك المناسبة يتحدّث عن السلام من منظوره الخاص طبعا، فقد قد ألقى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خطابا، ادّعى فيه أن اتفاقات التطبيع مع ثلاث دول عربية في العام 2020، أطلقت “عهدا جديدا”، مؤكدا – حينذاك- إمكانية إبرام اتفاق تطبيع مع السعودية.
ووصف مجرم الحرب “نتنياهو” هذا الاتفاق المُفترض بأنه سيكون ذا أهمية كبرى للكيان نظرا لثقل المملكة السياسي والاقتصادي ورمزيتها في العالمين العربي والإسلامي، حسب كلامه الذي أخرسه دوي “طوفان الأقصى” حين هزّ أركان الكيان بل هز أركان عواصم الغرب التي ظنت معظمها أن المعركة ستستمر لساعات وربما لأيام أو أسابيع ثم تنتهي باستسلام المقاومة، غير أن ما حدث هو العكس تماما:
انهزمت “إسرائيل” ميدانيا وسياسيا وإعلاميا، وسقط اتفاق التطبيع المفترض، وبات “نتنياهو” يحمل صفة “مجرم حرب”، وتوالت الاعترافات بالدولة الفلسطينية فيما أصبح الكيان منبوذا لدى الجميع واستيقظ ضمير العالم إزاء القضية الفلسطينية، وانكشفت وسائل الابتزاز والإغراء التي تستخدمها عصابات المؤسسة الصهيونية في الإعلام والسياسة، وانهار مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي دفعت باتجاهه “واشنطن”، وثمة المزيد: لقد تعرض مشروع “الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” لضربة في العمق، فما القصة؟
هذه القمّة التي يصعب تسلّقها
ضمن سياق الخوض في تفاصيل ملف المَمرّ المذكور، يجب استذكار ما قاله نائب رئيس السياسات في معهد الشرق الأوسط في واشنطن “براين كاتوليس”، حين علّق حول اتفاق التطبيع الساقط واصفا إياه بأنه “كان دائما قمة يصعب تسلّقها، والآن ازداد الأمر صعوبة”، ورأى أن التصعيد – بسبب “طوفان الأقصى” – يعيد تسليط الضوء على الصراع بين الفلسطينيين والكيان، ويجعل من الصعوبة بمكان إخفاء هذه المسائل المُعقدّة كما فعلت “اتفاقات إبراهيم” المبرمة عام 2020، في إشارة إلى التطبيع بين الكيان وكل من الإمارات والبحرين والمغرب.
وكان قادة من العالم، قد كشفوا خلال قمة مجموعة العشرين في “نيودلهي” في سبتمبر 2023، عن خطط لإنشاء مَمرّ اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وقد وقّعت السعودية والاتحاد الأوروبي والهند والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة مذكّرة تفاهم التزمت بموجبها العمل معًا للمضيّ قدمًا بالمشروع.
وقيل وقتها في وسائل الإعلام – من باب “إخفاء المسائل المعقدة”- إنّ المشروع يتمّ تنفيذه لمواجهة نفوذ الصين، في حين أنّ التفاصيل حول الممرّ والتي لا تزال ضئيلة، تشير إلى أنه جزء من مخطط “الشرق الأوسط الجديد” مثلما تريده المؤسسة الصهيونية.
لقد كشفت مذكّرة التّفاهم الخطوط العريضة الأساسية لشبكة النقل إذ تشمل البنية التحتية المادية للمشروع خطوط سكك الحديد التي تربط الإمارات العربية المتحدة بالكيان الصهيوني عن طريق السعودية والأردن، فضلًا عن الكابلات الكهربائية لتعزيز الاتصال الرقمي وأنابيب تصدير الهيدروجين النظيف..
وتشير التقارير المتداولة حول هذا المشروع بأنه يبدأ من الهند، ويمتدّ عبر الإمارات والسعودية، ومن ثمَّ إلى الأردن فالكيان الصهيوني، ليصل إلى أوروبا عن طريق البحر، ووفقاً للمسار المُعلَن، سيكون أساس هذا المشروع في الشرق الأوسط دولة الإمارات والسعودية والأردن وعلى رأسهم الكيان المحتل، وسوف تُبنى الطرق البحرية، وتُمدّ خطوط السكك الحديدية وكابلات البيانات عالية السرعة وخطوط الطاقة من أجله.
هذا ما تمّ رسمه على الورق، لكن معركة “طوفان الأقصى” التي لا تعترف إلا بالميدان، إذ تتيح للمنتصر فرصةَ التحكُّم في أدوات صنع التحولات في المشهد السياسي والجيواستراتيجي بمنطقة الشرق الأوسط، باتت تؤسس لـ “شرق أوسط جديد” بمعالم تضعها المقاومة في غزّة المدعومة عسكريا من حزب الله اللبناني والجيش اليمني وفصائل عراقية مناهضة للمؤسسة الصهيو-أمريكية. وهكذا فلا غرابة أن يشعر أصحاب مشروع الممرّ الهندي بأن التاريخ انقلب عليهم.
فإذا كانت “كوندوليزا رايس”، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة قد قالت خلال زيارتها إلى الكيان الصهيوني في 2006، إن حرب لبنان هي “آلام الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد”، فيمكن أن يأتيها الرد من ميادين معركة “طوفان الأقصى” المتواصلة إلى اليوم، والتي تمثل أبلغ دليل على أن مخطّط “رايس” لم يتحقق في 2006، لكنه سيتحقق في نسخة عكسية على المدى القريب: شرق أوسط جديد يُتوِّج معركة النصر الأخيرة ضد الكيان الصهيوني ومن يقف وراءه.
إعلان “رايس”- في 2006 -لم يكن وليد صدفة، أو محض تعبير بلاغي، بل جاء كحصيلة دبلوماسية أولى للحرب العسكرية التي شنّها الاحتلال الصهيوني ضد لبنان وفلسطين، فقد تأكّد وقتها – مثلما يحدث اليوم- أنّ الولايات المتحدة تطلّ على الحرب الصهيونية على لبنان بصفتها جزءًا من حربٍ أشمل أو على الأقل بكونها خطوة مهمّـة نحو إحياء مشروع “الشرق الأوسط الكبير” أو الموسّـع، الذي تعثّر في العراق أو بالأحرى: نحو تعويض خسائرها في بلاد ما بين النهرين، عبر ربح دول أخرى، يُـفترض أن يكون لبنان أول حبّـة في عنقودها، وفق توصيف جاء في مقال لوكالة الأنباء الفرنسية.
كيف فشل مخطط فرض “إسرائيل” كجزء من المنطقة؟
خلال حرب 2006، كانت إدارة البيت الأبيض متفائلة بالرغم من أعداد الضحايا بسبب مجاز الاحتلال الصهيوني، فقد نسبت صحيفة “واشنطن بوست” إلى مسؤول أمريكي، قوله: “الناس الآن قد ينزعجون من المشاهد المتدفّـقة من لبنان. لكن، ومع تكشف التطورات خلال الأسابيع القليلة المقبلة، سيرون الفُـرص ويفهمون ما نفعل في الشرق الأوسط الأوسع”.
ومعروف أنّ المصطلح الذي ذكرته – عام 2006- الوزيرة الأمريكية في “تل أبيب” ثم في “روما” عام 2006، كان مختلفا عن المصطلح الذي أطلـق فكرتَه الرئيس “جورج بوش الابن” عام 2002: “الشرق الأوسط الكبير”، وقد تبنّته “واشنطن” -بفعل الضغوط الأوروبية- في 2004 تحت اسم “الشرق الأوسط الموسّـع”، لكن “رايس” ذهبت إلى التّعبير ذاته الذي صكّـته ألسنةُ الصهيونية، (خاصة في آخر كتاب “شيمون بيريز” الذي يحمل العنوان ذاته: “الشرق الأوسط الجديد”).
وغالبا ما يرتبط لفظ “الجديد” بالشرق الأوسط مع كل حدث أو تطوّر مهم، فعندما تمّ توقيع اتفاقات التطبيع 2020 -“أبراهام”- قيل إنّ الشرق الأوسط يدخل حقبة جديدة. وعند الضربة الإيرانية المباشرة ضد الكيان الصهيوني أفريل الماضي -التي تعاون في محاولة صدّها عددٌ من الدول العربية- جرى الحديث عن “شرق أوسط جديد”، يمكن أن تتطوّر فيه الأمور إلى تحالف إقليمي بقيادة “واشنطن”، يضم دولًا أساسية في “حلف الناتو”، والكيان الصهيوني، وبعض الدول العربية، ضد إيران ووكلائها في المنطقة.
وعلى ذكر إيران، يجدر التذكير، بأنّ المرشد الإيراني “علي خامنئي”، كان قد قال -يوم الاثنين 3 جوان من هذا العام- إن عملية “طوفان الأقصى”، التي شنتها حركة “حماس” على مستوطنات غلاف غزّة في السابع من أكتوبر الماضي، أفشلَت مخطّطًا لجعل “إسرائيل” جزءًا من المنطقة عبر التّطبيع معها، وأضاف – بمناسبة الذكرى 35 لوفاة “الخميني” – إنّ “طوفان الأقصى” جاء في اللحظة المناسبة، وأنّ “من قام به أفشل المخطط الكبير للشرق الأوسط الجديد”.
وأوضح “خامنئي” أن عملية “طوفان الأقصى” كانت بالضبط ما تحتاجه المنطقة، مشيرًا إلى أن “هذه العملية كانت هي الحل لهذه الحاجة”، وطالب الزعيم الإيراني “الجميع” بألّا يعقدوا آمالهم على اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة، لافتا إلى أن عملية “طوفان الأقصى خلطت جميع الأوراق، وحصلت في لحظة حسّاسة كان العدو (إسرائيل) يسعى فيها إلى تطبيق مخطط السيطرة على المنطقة”، وأوجز “خامنئي” فكرته بالقول: “عملية طوفان الأقصى ضربة قاصمة لن تتعافى (إسرائيل) منها”.
وفي سياق الحديث عمّا يُسمّى “الشرق الأوسط الجديد”، لا يمكن غضّ الطّرف عن مصطلح أشمل، تناوله الكاتب “هشام جعفر” في مقالٍ له، جاء فيه إنه: “إذا كانت نهاية الحرب الباردة في عامَي 1990 و1991 بمثابة زعمٍ بنهاية التاريخ، وبداية “النظام العالمي الجديد”؛ فإنّ الحرب على غزّة هي إعلان نهاية هذا “النظام “الجديد” الذي بشّرت به الولايات المتحدة الأمريكية.
وبحسب وجهة نظر “هشام جعفر”، فقد كشفَت الحربُ على الفلسطينيين مأزِقَ البشرية اليوم التي تعيش فراغًا وفوضى تولّدت أولًا من ازدواجية المعايير التي تأسّس عليها هذا النظام الموصوف بـ “الجديد”، ومن الصراع والتنافس حول القواعد المعياريّة التي يجب أن تحكم هذا النظام. وإذا كان “بوتين” يرى أنّ انهيار الاتحاد السوفياتي “أعظم كارثة جيوسياسية في القرن الماضي”؛ فإنّ الحرب على غزّة – وفق تقدير الكاتب – تمثّل كارثة كبرى للنظام المبني على القواعد التي تأسّست بعد الحرب العالمية الثانية، وستكون البشرية بإزاء عصر جديد لم تتبيّن ملامحه بعد، لكنه سيظلّ -إلى حين- منقسمًا وفوضويًا.
وعاد كاتب المقال إلى لحظة سقوط “جدار برلين” عام 1989، حين شهد العالم تحرير الأسواق وإضفاء الطّابع الليبرالي على الحقوق والسياسة، وانفجار تكنولوجيا المعلومات، فهذه الاتجاهات يعزّز كل منها الآخر، ما يخلق عالمًا أكثر ترابطًا بشكل عام، وأوضح الكاتب أنّ الأفكار التي انتشرت في مختلف أنحاء العالم خلال هذا العصر كانت أمريكية، أو على الأقل غربية، وكانت مدعومة بالقوة الأمريكية، واعتبر “هشام جعفر” في مقاله أن “القوة الأمريكية” ظهرت آثارها في عالمنا الإسلامي أو ما أُطلق عليه “الشرق الأوسط الجديد”، ثم تغيّر إلى “الشرق الأوسط الكبير”.
“طوفان الأقصى”.. الطريق الثالث نحو نظام دولي عادل
وتشير بعض التقديرات – وفق ما جاء في المقال- أنّ عدد المدنيين الذين قُتلوا بشكل مباشر بسبب التدخل العسكري الأمريكي، بما لا يقلّ عن 400 ألف منذ 11 سبتمبر 2001. ويقدِّر عدد الأشخاص الذين قتلوا بشكل غير مباشر في مناطق حرب ما بعد 11 سبتمبر، بما في ذلك في أفغانستان، وباكستان، والعراق، وسوريا، واليمن، بنحو 3.6 إلى 3.8 ملايين شخص، رغم أنَّ الرقْم الدقيق لا يزال غير معروف. وبذلك – يؤكد الكاتب- أنّ العدد الإجمالي المقدّر للوفيات المباشرة وغير المباشرة، يصل إلى 4.5 -4.7 ملايين.
وضمن المقال، طرح الكاتب السؤال الآتي: “هل هناك علاقة بين هذا الحجم من القتلى وما تقوم به (إسرائيل) في غزة؟”.
وقبل أيّ إجابة، ذكّر الكاتب بأنّ تحدّي القوة العسكرية الأمريكية بدأ مبكرًا في المنطقة، إذ كانت جذوره إسلامية وطنية، واضطلعت به الفواعل من غير الدول، والمنظّمات شبه الحكومية، ففي العراق بعد الاحتلال مباشرة عام 2003، وتصاعد في أفغانستان بعد سقوط حكم “طالبان” عام 2001، حتى تكلّل بالانسحاب الأمريكي منها في 2021، وفق ما جاء في المقال.
الآن مع “الطوفان”، وفي ظل تأييد أمريكي فاضح لآلة الإبادة الإسرائيلية المنفلتة من كل معيار قانوني أو إنساني- يضيف الكاتب- يمكن إدراج المواجهات مع “إسرائيل” في هذا السياق: الانتفاضة الأولى (1987-1990)، والانتفاضة الثانية (2000-2005)، ولبنان (2006)، وحروب غزّة بما في ذلك في الأعوام: 2008-2009، و2014، و2018-2019، والآن الحرب المستمرّة في الفترة 2023-2024.
ويدرك “هشام جعفر” حدود ترجمة الانتصارات العسكرية إلى مشاريع سياسية طموحة قادرة على أن تلبّي تطلّعات شعوب المنطقة إلى الحرية والعيش الكريم، ولكن لأوّل مرّة في الحرب على غزّة- يؤكد “جعفر”- فإنّ القوة العسكرية الغربية وفي القلب منها الإسرائيلية تمارس فعل الإبادة الجماعية – كما أشارت إليه محكمة العدل الدولية – دون غطاء قِيَمي أو أخلاقي.
وأوضح صاحب المقال أن الولايات المتحدة اعتمدت على قوتَيها: الصلبة/العسكرية والناعمة لقيادة نظام عالمي ليبرالي منذ الحرب العالمية الثانية، لكن الافتراق بين القوتين: الناعمة والصلبة، قد اتّسعت حلقاته بما لا يمكن معه ترميمه إلا بجهدٍ وموارد وإرادة لا تتوفّر حتى الآن، خاصة أن هذا الافتراق يجري في سياق أوسع من وجود قوى في الغرب ذاته تسعى إلى تقويض النظام الذي قام عليه الغرب، بالإضافة – يضيف الكاتب- إلى تحدّي الهيمنة المعيارية الأمريكية/ الغربية، “بعد ثلاثة عقود من انفراد الولايات المتحدة ببناء القواعد، أعادنا صعود الصين وعودة روسيا إلى عصر المنافسة بين القوى العظمى”. إن معارضة أمريكا واضحة للعيان في المجال الجيوسياسي، والمجال القيمي معًا.
وبعد أن سرد الكاتب في مقاله “مُهدِّدات النظام الليبرالي العربي”، اعتبر أنه من المفيد مع الكيان الصهيوني الذي انتمى إلى الغرب بحكم القيم المشتركة والمصالح المشتركة معًا، فـ”إسرائيل” التي روّج لها باعتبارها قلعة الديمقراطية الليبرالية، التي يقود اقتصادها التكنولوجيا المتقدمة، لم تعد كذلك؛ بل أصبحت:
- “إسرائيل” القومية اليمينيّة المُتطرِّفة، والمُتّهمة بالإبادة الجماعية والفصل العنصري، ومطلوبٌ قادتها للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
- لا يتعلّم ثلثُ أطفالها تعليمًا مدنيًّا حديثًا، بل تعليمًا دينيًّا مغلقًا يرفض المُتخرِّج منه الانضمام إلى الجيش.
- يحكمها رئيس وزراء مُتّهم بالفساد، وقد مكث في منصبه أطول فترة في تاريخها كله.
وخلص الكاتب إلى أنّ العالم بات يتوزّع على اتجاهات متناقضة، هي:
غرب يريد لقِيَمه الليبرالية أن تتقدّم إلى مناطق أخرى – كما جرى في أوروبا الشرقية – لكنها تشهد تراجعًا داخله، وروسيا والصين الباحثتان عن قِيَمهما التقليدية لمواجهة الغرب، ولمزيدٍ من التحكّم والسيطرة على مجتمعاتهما، وهناك – بين هذا وذاك – دولٌ وحركات، كما برز في الحراك المناهض للحرب على الفلسطينيين، تحاول أن تستعيد بعضًا من أُسُس النظام الدولي المبني على القواعد، وتدفع بالجديد منها.
التاريخ كما يجب أن يكون..
“طوفان الأقصى” يزلزل أركان التطبيع
أبرز الناطق الإعلامي باسم حركة حماس، جهاد طه، أنّ مسار التطبيع قبل عملية “طوفان الأقصى” كان يتسارع بوتيرة عالية جدّا، هذا المسار الذي لا يخدم إلا أجندة الاحتلال الصهيوني وأهدافه التوسعية للسيطرة على مقدرات الأمة العربية والإسلامية، ومن هنا كان يسعى هذا العدوّ السافر ومن خلال قطار التطبيع السريع إلى تصفية الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني ورسم مشروعه الاستعماري في المنطقة الذي يهدفُ أساسا إلى السيطرة على مقدرات المنطقة.
وفي هذا الصدد، أوضح الأستاذ طه في تصريح لـ “الأيام نيوز”، أنّ الحكومة اليمينية الفاشية المتطرفة تسعى إلى السيطرة على كل مقدرات الأمة العربية والإسلامية من أجل بناء مشروع استعماري صهيوني كبير،واليوم جاءت عملية “طوفان الأقصى” بتاريخ السابع من أكتوبر الماضي، لتعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية وتبعث برسائل متعددة، أولها موجهة إلى الاحتلال الصهيوني وتحمل بين طياتها أنّ الحقوق الفلسطينية لا يمكن أن تسقط بأيّ حال من الأحوال بالتقادم، سواء تعلق الأمر بحق العودة إلى دياره التي هُجر منها قسرا، أو بحقه في المقاومة والدفاع عن مقدساته وعن أرضه وعن غيرها من الحقوق المشروعة التي تأتي في سياق الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية، أما الرسالة الأخرى، فهي موّجهة إلى زعماء الدول العربية والإسلامية الذين يلهثون وراء التطبيع، مفادها أنّ القضية الفلسطينية اليوم ستبقى القضية المركزية ليس فقط بالنسبة للشعب الفلسطيني بل لكافة أحرار هذه الأمة.
في السياق ذاته، أشار محدثنا إلى أنّ عملية “طوفان الأقصى” أوقفت قطار التطبيع وجاءت لتؤكّد للاحتلال الصهيوني أنّ كل مشاريعه وكل إملاءاته ومؤامراته التي يسعى إليها من خلال عملية التطبيع والحث عن “شرق أوسط جديد” لن تُسقط أي حق من حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وسيبقى أبناء الأمة العربية والإسلامية الحاضنة الأساسية لمشروع المقاومة الفلسطينية وحقوق شعبه، وستبقى حالة الإسناد والدعم لأبناء الأمة العربية والإسلامية للحقوق الفلسطينية والقضية الفلسطينية حتى استعادة كافة الحقوق وتحرير الأرض وكافة المقدسات من رجس الاحتلال الصهيوني الجائر.
خِتاماً، أبرز الناطق الإعلامي باسم حركة حماس، جهاد طه، أنّ ما تقوم به المقاومة الفلسطينية، من خلال عملياتها النوعية في التصدّي لجيش الاحتلال الإسرائيلي، يحملُ أبعادًا إستراتيجية وأساسية في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني، حيث كانت المعركة التي خاضها رجال المقاومة بتاريخ السابع من أكتوبر الماضي ضربة موجعة وهزيمة نكراء للاحتلال الصهيوني، هشمت صورته السياسية والعسكرية والاستخباراتية، وشكّلت نقطة مفصلية، وأضفت تغييرات أساسية فيما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي وليس فقط الإسرائيلي – الفلسطيني بكل أبعاده، كما ستكون نتائجها البطولية أهم وأكبر من جميع المعارك التي خاضتها الجيوش العربية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي عبر التاريخ.
إعادة ضبط المفاهيم..
عن أي شرق أوسط جديد يتحدّثون؟
بقلم: رفعت إبراهيم البدوي – كاتب وباحث سياسي لبناني
كَثُر الحديث عن شرق أوسط جديد، سواء أكان من رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو الذي يريده «شرق أوسط خالياً من المقاومة الفلسطينية» ولو أدى إلى اجتياح غزة واحتلالها وتهجير سكانها إلى البلدان المجاورة، أو «شرق أوسط جديد من دون الكيان الصهيوني»، كما يراه محور المقاومة.
أمام هذا المشهد لا بد لنا من السؤال: عن أي شرق أوسط جديد يتكلمون؟ خصوصاً بعدما مُني العدو الصهيوني وجيشه الأسطوري بهزيمة تاريخية، وظهور أصحاب الأرض والمقاومة الفلسطينية بأنهم أصحاب الكعب الأعلى في إدارة المعركة الإستراتيجية «طوفان الأقصى»، وبنجاح وثبات منقطعي النظير، على عكس ما يريده نتنياهو ومن خلفه الرئيس الأميركي جو بايدن.
ولنتبين إلى أي شرق أوسط جديد نتجه، من دون مقاومة أو من دون الكيان الصهيوني، لا بد أن أحيلكم إلى ما نشرته جريدة «هآرتس» للكاتب الإسرائيلي آري شاريت في أحد أعدادها، فقد كتب هذا تحت عنوان «إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة»، مقالاً يقول فيه وبكل وضوح:
«يبدو أننا اجتزنا نقطة اللاعودة، ويمكن أنه لم يعد بإمكان “إسرائيل” الاستمرار بالحياة إلا بعد إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وتحقيق السلام، ويبدو أنه لم يعد بالإمكان إعادة إصلاح الصهيونية وإنقاذ الديمقراطية وتقسيم الناس في هذه الكيان، وإذا كان الوضع كذلك فإنه لا طعم للعيش في هذه البلاد، وليس هناك طعم للكتابة في «هآرتس»، ويجب الاقتناع بما اقترحه روغلألفر قبل عامين، وهو مغادرة الكيان، خصوصاً إذا كان مفهوم اليهودية ليس عاملاً حيوياً في الهوية، وإذا كان لدى كل “مواطن إسرائيلي” جواز سفر أجنبي ليس فقط بالمعنى التقني، بل بالمعنى النفسي أيضاً، ولنعترف بأن الأمر انتهى، ويجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس، ومن هناك يجب النظر بهدوء ومشاهدة “إسرائيل” وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة».
ويتابع شاريت: «علينا أن نخطو ثلاث خطوات إلى الوراء، لمشاهدة الكيان اليهودي الديمقراطي وهيو تغرق (…) فانا أريد أن أضع إصبعي في عينيّ نتنياهو و(وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق أفيغادور) ليبرمان والنازيين الجدد، لأوقظهم من هذيانهم الصهيوني».
ويقول شاريت: «إنّ القوة الوحيدة في العالم القادرة على إنقاذ “إسرائيل” من نفسها، هم الإسرائيليون أنفسهم، وذلك بعد الإقرار بحقوق الفلسطينيين، وبابتداع لغة سياسية جديدة، تعترف بالواقع، وأن الفلسطينيين متجذرون في هذه الأرض، وأحث على البحث عن الطريق الثالث من أجل البقاء على قيد الحياة هنا وعدم الموت».
كاتب صهيوني يساري آخر وهو جدعون ليفي يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني وبحقه في أرضه، ليس هذا فقط بل بتفوقه على الإسرائيليين، ويضيف جدعون ليفي: «يبدو أنّ الفلسطينيين طينتهم تختلف عن باقي البشر، فقد احتللنا أرضهم، وأطلقنا على شبابهم الغانيات وبنات الهوى والمخدرات، وقلنا: ستمر بضع سنوات، وسينسون وطنهم وأرضهم، وإذا بجيلهم الشاب يفجر انتفاضة 1987، ثم أدخلناهم السجون وقلنا: سنربيهم في السجون، وبعد سنوات، وبعد أن ظننا أنهم استوعبوا الدرس، وإذا بهم يعودون إلينا بانتفاضة مسلحة عام 2000، أكلت الأخضر واليابس، فقلنا نهدم بيوتهم ونحاصرهم لسنين طويلة، وإذا بهم يستخرجون من المستحيل صواريخ يضربوننا بها، رغم الحصار والدمار، فأخذنا نشيّد الجدران العازلة والأسلاك الشائكة، وإذا بهم يأتوننا من تحت الأرض وبالأنفاق، حتى أثخنوا فينا قتلاً».
ويختم الكاتب قائلاً: «إنّ”إسرائيل” تواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم المشروعة وإنهاء الاحتلال، نعم إنه الشرق الأوسط الجديد».
ومن هنا نقول أنّه لقد ثبت وبالدليل القاطع أن “جيش” هذا العدوّ، قد هزم شر هزيمة، وأنّ دعاية القوة والردع الإسرائيلي قد تحطمت أمام المقاومين الأشاوس وأمام أعين العالم، وأنّ هذا العدو المتعنت لا يفهم إلا لغة القوة، وأن لا حل ممكناً ما دام بقي الشعب الفلسطيني محروماً من أبسط الحقوق والقواعد والمبادئ الإنسانية، وأن الكلمة الفصل في القادم من الأيام سوف تكون لمصلحة محور المقاومة.
وانطلاقاً من هذا الواقع لابد لنا من سؤال هؤلاء العرب الأذلاء المطبعين مع العدو الإسرائيلي: عن الفائدة التي جنوها من التطبيع مع كيان مصطنع بعدما ظهر بصورة كيان أوهن من بيت العنكبوت، وأنه كيان هش آيل للسقوط، كما نسأل أولئك المطبعين الذين حاولوا عبثاً التآمر وطمس القضية الفلسطينية، وراهنوا مع الأمريكي والإسرائيلي على القبول بشرق أوسط جديد من دون مقاومة فلسطينية، هل كسبتم الرهان الخاطئ عكس التاريخ، فيما المقاومة الفلسطينية أثبتت مشروعية الشعب الفلسطيني في الدفاع عن حقوقه المشروعة وبتحرير أرضه من الاحتلال، كما أثبتت أن عملية «طوفان الأقصى» ليست سوى البداية، في مسار ولادة شرق أوسط جديد، يُعاد فيه الحق لأصحابه، وفلسطين لأهلها، ولن يكون للاحتلال الإسرائيلي أو لهذا الكيان الغاصب أي وجود فيه، نعم إنه الشرق الأوسط الجديد الذي نريد.
هذه بوادره الأولى..
من رحم طوفان الأقصى يُولد شرق أوسط جديد
بقلم: بتول قصير – كاتبة وصحفية لبنانية
قد لا نبالغ إذا اعتبرنا أنّ معركة «طوفان الأقصى» شكلت منعطفاً مهماً على الصعيدين الدولي والإقليمي عموماً، وعلى صعيد القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني بشكل محدّد، الأمر الذي ينبئ بتطورات هامة وتغيّرات ستعيد تشكيل الشرق الأوسط من جديد.
ففي الوقت الذي بدا فيه وكأنّ المساعي للمسار الذي رسمته واشنطن ستؤتي ثمارها، انطلاقاً من التفاهم الضمني مع طهران بشأن برنامجها النووي، وبين العمل على عقد اتفاقية دفاع مع المملكة العربية السعودية، الأمر الذي سيفتح الطريق لتطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى إعلان الولايات المتحدة في وقت سابق، عن خطط لإنشاء ممر تجاري طموح يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط لتعويض نفوذ الصين المتزايد في المنطقة.
أتت عملية الطوفان على نطاق لم يشهد له مثيل منذ عقود في الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، متزامنة مع حلول الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973، لتجرف مساعي التطبيع التي تسعى واشنطن لإبرامها بين الرياض وتل أبيب، وعليه أصبحت محنة الفلسطينيين في المقدمة والوسط، وأضحى التوصل إلى اتفاق إسرائيلي سعودي غير ممكن.
وهذا يؤكد على أنّ معركة «طوفان الأقصى»، وجهت ضربة قاسية ضد مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني، وبالتالي فإنّ المعركة أعادت خلط أوراق المسارات التطبيعية وكلّ الاتفاقات الدولية، أضف إلى ما سبق، فإنّ العملية من المنظور الاستراتيجي قد أنهت ما يسمّى بـ«السلام الإبراهيمي»، و«مبادرة السلام العربية» التي أطلقت في القمة العربية في بيروت والتي تعرف بـ «مبادرة الأمير عبدالله»، وكلّ أشكال مبادرات السلام، باعتبار المقاومة باتت خياراً استراتيجياً وحيداً لشعوب المنطقة، خاصة أنّ مسارات السلام لم تردع عدوان هذا الكيان الصهيوني على شعوب الأمة العربية، وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني.
وفي ظلّ كلّ التحديات الراهنة التي وجدت واشنطن نفسها في مواجهة معها، خاصة بعد تقديم دعمها للحرب الإسرائيلية والذي أضرّ بمصداقيتها في المنطقة، وهو ما أثر سلباً على مكانة واشنطن في الجنوب العالمي على نطاق أوسع، خاصة «أنّ ادّعاء “إسرائيل” بالدفاع عن النفس تحوّل إلى حرب إبادة جماعية للمدنيين الفلسطينيين»، وعليه سيتعيّن على الولايات المتحدة صياغة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط.
انطلاقاً من تعزيز شراكتها مع المملكة العربية السعودية، التي لديها علاقات عمل مع إيران و«إسرائيل» والعالم العربي بأسره، وتستخدم واشنطن انفتاح الرياض على مختلف أطراف الصراع، لتحقيق مآلاتها، خاصةً إذا استخدمت المملكة نفوذها الواسع للمساعدة في إحياء المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية ومساعدة الولايات المتحدة على إبرام اتفاق نووي مع إيران، وبالتالي تصبح الرياض وواشنطن شريكتين بإنشاء الممر الاقتصادي الشرق أوسطي الذي تحتاجه الأخيرة لتحقيق التوازن ضدّ الصين.
وبالعودة إلى تقديرات واشنطن التي فشلت مرة أخرى في رؤيتها لعملية خلط الأوراق التي شهدتها الساحة الدولية في السنوات الأخيرة، وتحديداً بعد الانكفاء الأمريكي في الشرق الأوسط، فيبدو أنّ واشنطن قد بالغت في استقرار الوضع الاقليمي من جهة، وتحديداً بعد ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني، الأمر الذي عملت أميركا جاهدةً على إنجاحه، ومن جهة ثانية تقليلها من شأن القوى المصطفة ضدّها، ما أوقعها في وهم السيطرة الأحادية التي أفل نجمها.
كما افترضت الولايات المتحدة خطأ أّنّ دولاً أخرى في الشرق الأوسط لن تحتج لأنها عززت سعي الرياض للهيمنة الإقليمية، واعتقدت واشنطن أنّ طهران، مثلاً، كانت حريصة جداً على تطبيع العلاقات مع الدول العربية ومشغولة جداً بالاضطرابات الداخلية بحيث لا يمكنها التدخل في الخطط الأميركية، وفي الواقع، كانت إيران مشغولة بالفعل في تعزيز حلفائها في محور المقاومة.
في موازاة ذلك، أظهر تاريخ السابع من أكتوبر الماضي، أنّ معتقدات واشنطن حول الشرق الأوسط غير صحيحة على الإطلاق، كما أظهر فشلها في تقدير مسألة تجاهل القضية الفلسطينية، فاتفاقها المبدئي مع السعوديين افترض في أنّ الرياض يمكنها تطبيع العلاقات مع «إسرائيل» وعدم إثارة ردّ فعل عنيف واسع النطاق، لكنها لم تتوقع أن تتلقى تلك الصفعة التي وجهتها المقاومة الفلسطينية لأميركا وربيبتها «إسرائيل» على السواء.
وعطفاً على ما سبق، أصبحت مهمة واشنطن الأكثر إلحاحاً هي تمديد فترة الهدنة في غزة بل وإنهاؤها تماماً، وبمجرد انتهاء القتال، يمكن لواشنطن أن تبدأ في التطلع إلى الأمام، وبينما تفعل ذلك، سوف تحتاج إلى اتخاذ وجهة نظر واقعية، تتجلى بالاتفاقيات التي توسع الضمانات الأمنية الأميركية.
وبغض النظر عما تفعله واشنطن، ستكون هناك مقاومة لمشهد رؤيتها تعبث في في الشرق الأوسط، وستبقى إيران معادية لـ«إسرائيل» وللولايات المتحدة، كما أن جيران المملكة العربية السعودية في الخليج لن يكونوا سعداء أبدا بهيمنة المملكة، وستحسب «إسرائيل» وتركيا أيضاً ارتدادات الاتفاق والشراكة السعودية ـ الأمريكية.
في المحصلة، سترسخ عملية «طوفان الأقصى» مسألة مهمة جداً، تفضي إلى أنّ كلّ الوسائل التي يعمل عليها رعاة هذا الكيان هي جهود لا طائل منها لإنعاش هذا الكيان الصهيوني الذي دخل حالة الموت السريري، والأهمّ أنّ هذه العملية التاريخية تمكنت حرفياً من تعطيل جدول السياسات الأميركية في المنطقة، وعليه فإنّ عملية الطوفان خسفت بسمعة «إسرائيل» المهزوزة أصلاً، بل وخسفتبسمعة أميركا أيضاً، وسلبت سمعة الدول الأوروبية الشهيرة، وأيضاً سمعة الحضارة والثقافة الغربيتين الزائفتين.
تنبيه عاجل..
قطار التطبيع السريع يصطدم بجدار طوفان الأقصى!
بقلم: الدكتور محسن محمد صالح – أكاديمي أردني
كان وقْعُ المفاجأة كبيراً على الدّول التي اندفعت في تطبيع علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي، فجاءت معركة 7 أكتوبر كطوفان صدم قطار التّطبيع السّريع فعطله، وجعل أولئك المنتشين بالعلاقات وانسيابيتها يقعون في حالة من الذّهول والارتباك، كما انتابتهم حالة من الغيظ والغضب على المقاومة.
ولذلك، لم تُخف الإمارات غضبها من سلوك حماس، فصرّحت وزيرة الدّولة للتّعاون الدّولي ريم الهاشمي في مجلس الأمنبلغة غير معهودة إطلاقاً في الأدبيات العربية، بأنّ هجمات حماس في 7 أكتوبر هي هجمات “بربرية وشنيعة” وطالبت بالإطلاق الفوري لسراح “الرّهائن”، ووصفت ما فعلته حماس بأنّه “جرائم”.
لكن عندما تعلّق الأمر بالاحتلال الإسرائيلي فقد اكتفت بالمطالبة بعدم تطبيق سياسة العقاب الجماعي، ولم تقم بإدانة جرائم ومجازر الاحتلال التي بُثّت صورها ومشاهدها على مرأى من العالم أجمع، وتجاوز عدد شهداء غزّة عندما ألقت كلمتها 5100 بينهم نحو 2100 طفل و1120 من النّساء، في الوقت الذي تبنّت فيه الرّواية “الإسرائيلية”، والتي ثبت أنّها مليئة بالأكاذيب والمبالغات.
أمّا ولي عهد البحرين، فقد أدان في “حوار المنامة” عملية “طوفان الأقصى”، ووصفها بأنّها “بربرية ومُروّعة” وأدان حماس وسلوكها. ولكنّه في الوقت نفسه لم يقم بإدانة الجرائم والمجازر “الإسرائيلية” ولم يصفها بالصّفات نفسها؛ بالرّغم من أنّ وحشيتها وبربريتها قد رآها العالم بمئات الأدلّة والبراهين.
وقد كشف دينيس روس وهو مسؤول أمريكي كان له دور أساس في مسار التّسوية السّلمية، أنّه تحدّث مع عدد من الزّعماء العرب بعد 7 أكتوبر يعرفهم منذ فترة طويلة، وأنّهم أخبروه أنّه لا بدّ من تدمير حماس في غزّة؛ وأنّه إذا اعتُبرت حماس منتصرة فإنّ ذلك سيضفي شرعية على الأيديولوجيا التي تتبنّاها. كما أنّ موسى أبو مرزوق القائد البارز في حماس، قال في لقاء إعلامي إنّ الكثير من الأجانب أبلغوه أنّ أعضاء في السّلطة الفلسطينية وبعض الدّول العربية يطالبون الغرب سرّاً بالقضاء على حماس.
وقد عقدت القمة العربية الإسلامية الطّارئة بشأن العدوان على غزّة في اليوم السادس والثلاثين للعدوان بعد قدرٍ كبير من التّثاقل و”التّثاؤب”، وبعد استشهاد نحو عشرة آلاف شهيد معظمهم مدنيون.
البيان الختامي للمؤتمر جاء دون السّلوك الكلاسيكي المعتاد، إذ أكّد على وقف العدوان على غزّة والسّماح بإدخال المساعدات إلى قطاع غزّة، ورفع الحصار عنه، ورَفض تهجير الفلسطينيين، واستنكر ازدواجية المعايير الغربية وجعل “إسرائيل” كيان فوق القانون، وأكّد على التمسّك بـ “السّلام” كخيار استراتيجي، وبالمبادرة العربية للسّلام لسنة 2002. ودعا لتوفير الدّعم المالي لحكومة فلسطين (حكومة سلطة رام الله)، وضرورة حشد شركاء دوليين لإعادة إعمار غزّة؛ لكنّه لم يحدّد أيّ إسهامات مالية لأيّ من الدّول المشاركة في المؤتمر.
باختصار، المؤتمر جاء في إطار رفع العتب، وامتصاص ما يمكن امتصاصه من الغضب الشّعبي العربي والإسلامي. فليس ثمّة نقاط عملية بقطع العلاقات أو تعليقها مع الكيان الإسرائيلي، ولا بممارسة ضغوط فعلية أو تهديدات جادّة إن لم يُوقف العدوان أو فتح معبر رفح، وليس ثمّة دعم للمقاومة ولا إشادة بأدائها، ولا بصمود الحاضنة الشّعبية في القطاع.
بل إنّ هناك إصراراً على فلسفة العجز، وعلى المسار الفاشل للتّسوية، الذي أسقطته “إسرائيل” ورمته وراء ظهرها. وليس في القرارات ما يعطي أيّ مواقف جادة تجاه تهويد القدس والمسار الخطير الذي دخله تهويد الأقصى.
وباعتبار النّتيجة، فإنّ الحضيض الجديد برز في تعامل عدد من الأنظمة العربية مع العدوان الإسرائيلي على القطاع كمن ينتظر على مضض انتهاء جيش الاحتلال من “مهمّته” في القضاء على حُكم حماس للقطاع، باعتبار ذلك فرصة لإنهاء الوضع “الشاذ والمزعج” حسب تصوّرهم.
وكان ثمّة شعور بأنّ المعركة محسومة لصالح الاحتلال، وبالتّالي فلا حاجة لخطوات عملية لدعم صمود المقاومة، ولا حاجة لممارسة ضغوط قوية مؤثّرة باستخدام أوزانهم وإمكاناتهم الحقيقية لوقف العدوان، أو لإدخال المساعدات للقطاع.
وفي المقابل كان هناك عدد من البلدان العربية التي حافظت على دعمها المعتاد لفلسطين، وعلى سلوكها المعتاد تجاه المقاومة ودعمها أو تًفهّم سلوكها مثل قطر والكويت والعراق والجزائر واليمن وليبيا وسورية وتونس وعُمان..
هذه نهايتكم..
النبذ يطارد “إسرائيل” و”المطبعون ” يتشظون فوق أنقاضها
بقلم: علي سعادة – كاتب وصحفي أردني
الخناق يضيق على كيان الاحتلال وحكومتها العنصرية التي تضمّ مجموعة من المختلّين عقليًا، وثمّة سقوط للسردية الصّهيونية التي روّجتها للعالم على مدى أكثر من 76 عامًا.
وارتفعت مساحة مقاطعة الاحتلال عالميًا مع استمرار الحرب الوحشية على قطاع غزّة منذ السّابع من أكتوبر الماضي، وسط عجز الاحتلال عن تحقيق أيّ إنجاز يذكر على أرض الواقع.
وبعض العقوبات لهذا الكيان المارق بدأت تطفو على السّطح من بينها الاعتراف بالدّولة الفلسطينية، من قبل إسبانيا والنّرويج وأيرلندا وسلوفينيا، وفرض قيود على التّصدير إلى كيان الاحتلال، وإلغاء مشاركتها في مؤتمرات ومعارض دولية، وهناك مظاهرات يومية ضدّها في جميع أرجاء الكوكب.
أحد هذه العقوبات امتناع مدينة ناغازاكي اليابانية عن دعوة سلطة الاحتلال لحضور حفل السّلام الذي تنظّمه سنويا في التّاسع أوت تكريمًا لضحايا القنبلة النّووية التي ألقتها الولايات المتّحدة على المدينة عام 1945.
واستعاضت المدينة عن هذه الدّعوة برسالة إلى السّفير “تدعو فيها إلى وقف فوري لإطلاق النّار” في الحرب المستمرّة منذ ما يقارب ثمانية أشهر في قطاع غزّة المحاصر.
وبرّرت بلدية ناغازاكي تعليق دعوة الاحتلال بالحرص على تفادي “حوادث محتملة ” خلال الحفل، بسبب “الوضع الإنساني الكارثي في غزّة” وما يسبّبه من توتّر في العديد من الدّول.
رمزية ما قامت به مدينة ناغازاكي مقاربة تاريخية وإنسانية عميقة، فما ألقي على قطاع غزّة من قنابل يفوق بقوّته التّدميرية ما واجهته ناغازاكي في عام 1945، بعد ثلاثة أيام من إلقاء أوّل قنبلة ذرية في التّاريخ على هيروشيما.
وجرت العادة أن تدعو المدينتان شخصيات من جميع أنحاء العالم لحضور هذه الذّكرى السّنوية. وخلافًا لناغازاكي قرّرت هيروشيما دعوة سلطة الاحتلال لحضور حفلها الخاص في السادس من أوت، ما عرّضها لانتقادات.
كما ألغت السّلطات الفرنسية حضور شركات “إسرائيلية” لمعرض يوروستوري للأسلحة في العاصمة باريس منتصف شهر جوان الماضي، وذلك احتجاجًا على عمليات الجيش “الإسرائيلي” في رفح. هذا المعرض هو أحد معارض السّلاح الكبيرة في أوروبا، والشّركات الأمنية “الإسرائيلية” يوجد لها الكثير ممّا تعرضه هناك فيما دول أوروبية كبيرة تتسلّح بذخائرها.
كما فرضت تركيا مقاطعة على تصدير البضائع والمواد الخام إلى سلطة الاحتلال، ومنها أيضًا قرار شبكة المقاهي والفطائر البريطانية “بيرت آنجا”، التي قرّرت إلغاء الامتياز الذي منحته لشركة “فوكس” من أجل فتح عشرات الفروع لدى كيان الاحتلال.
وفي خطوة مهمّة أعلنت الحكومة في جزر المالديف بأنّها ستحظر دخول “الإسرائيليين” إليها على خلفية الحرب في غزّة.
دائرة المقاطعة تتّسع وتتواصل في جميع أنحاء العالم وفي مجالات عديدة، فيما تفقد سردية الاحتلال المزيّفة قيمتها في العالم، ولم تعد تهمة “معاداة السّامية” المعلّبة تخيف أحدًا بعد أن أصبحت سلاحًا يشهر في وجه كلّ من يعترض على جرائم الإبادة في قطاع غزّة وغير المسبوقة في التّاريخ، وعمليات التّدمير لجميع مظاهر وأشكال الحياة في قطاع غزّة.
ورغم انكشاف الوجه الحقيقي لهذا الكيان الهش الذي لا يستطيع حماية نفسه والدّفاع عن شعبه إلّا بحماية خارجية لا يزال بعض العرب يسعون إلى التّطبيع معه، فيما يرى من يقيمون علاقات معه أنّ اتفاقيات السّلام استراتيجية. وهي اتفاقيات داس عليها الاحتلال وألقى بها في سلّة القمامة.
بصمودها.. المقاومة تفتتح زمن التحول الأكبر
بقلم: محمد آدم المقراني – محام وناشط حقوقي جزائري
قبل انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، كانت المنطقة تشهد تحوّلات جذرية في مسار التّطبيع بين الدّول العربية والكيان الإسرائيلي. من أبرز مظاهر هذا التحوّل كان مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط الهند بأوروبا عبر الشّرق الأوسط، بمشاركة السّعودية و”إسرائيل”. هذا المشروع كان يُعدّ خطوة استراتيجية لدمج “إسرائيل” في النّظام الإقليمي وتعزيز التّعاون الاقتصادي بين الدّول المشاركة، ممّا يشير إلى إمكانيات اقتصادية كبيرة للدّول المنخرطة فيه، في مقابل خسائر محتملة للدّول التي تظلّ خارجه.
عملية “طوفان الأقصى”، التي تميّزت بصمود المقاومة الفلسطينية، جاءت لتعيد ترتيب الأولويات وتفرض واقعًا جديدًا على الأرض. هذا الصّمود البطولي للمقاومة، المدعوم من قبل حلفائها في لبنان، اليمن، العراق والجزائر، أدّى إلى تعليق مسار التّطبيع، وأظهر قدرة المقاومة على مواجهة المخطّطات “الإسرائيلية” الهادفة إلى تغيير موازين القوى في المنطقة.
تصريحات المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، أكّدت أنّ العملية جاءت في وقت حسّاس وأفشلت المخطّطات “الإسرائيلية” للسّيطرة على المنطقة، مشيرًا إلى أهمية هذه العملية في إعادة التّوازن الإقليمي. رغم التحدّيات التي واجهتها، لم تتوقّف “إسرائيل” عن السّعي لتحقيق مشروع الشّرق الأوسط الجديد.
رئيس وزراء سلطة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عبّر عن ثقته في استمرار الدّعم الأمريكي والغربي لـ “إسرائيل”، معتقدًا أنّ حلفاء “إسرائيل” لن يتخلّوا عنها في هذه المرحلة الحرجة. هذا الدّعم يعزّز من موقف “إسرائيل” ويمنحها القوّة لمواصلة مشاريعها الإقليمية في جانب آخر، فإنّ الوحدة والتّضامن بين المقاومة الفلسطينية وحلفائها يعكسون تحدّيًا مستمرًّا للمشاريع “الإسرائيلية”.
هذه الوحدة، التي تتجلّى في الدّعم المستمر من لبنان، اليمن، العراق والجزائر، تؤكّد أنّ المقاومة ليست وحدها في هذه المعركة. على الرّغم من الحديث المستمر عن مشروع الشّرق الأوسط الجديد وفق الرّؤية “الإسرائيلية”، فإنّ النّتائج النّهائية ستعتمد على التطوّرات الميدانية والتّوازنات الجديدة التي فرضتها المقاومة على الأرض.
“طوفان الأقصى” لم تقتصر تأثيراتها على السّاحة السّياسية فقط، بل امتدّت لتشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة. هذه العملية أحدثت صدمة في مسار التّطبيع وأخلطت الأوراق السّياسية، ممّا أدّى إلى تعزيز موقف المقاومة وأصدقائها في مواجهة التحدّيات الإقليمية والدّولية.
يمكن القول إنّ هذه العملية ستساهم في تشكيل ملامح شرق أوسط جديد يعزّز من مكانة المقاومة وإنجازاتها، ويعيد ترتيب الأولويات الإقليمية على أسس جديدة تتماشى مع واقع التحدّيات الحالية.