ضبطت العالم على توقيت انتصارها.. قصة بائعة الخبز التي علّمت «ترامب» معنى البطولة

أضاءت الأديبة الجزائرية “صبحة بغورة” كثيرًا من الزوايا في مسيرة البطلة الجزائرية “إيمان خليف” منذ طفولتها إلى أن ارتقَت منصّة تتويج الأبطال في “أولمبياد باريس 2024″، وذلك من خلال قصّة قصيرة شيّقة أوضحت فيها بأنّ الحرب على بطلتنا الجزائرية التي شارك فيها “دونالد ترامب” ورئيسة الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني” و”جوان كاثلين روينج” كاتبة سلسلة “هاري بوتر” وكثيرون غيرهم.. إنّما كانت حربًا على الجزائر العظيمة بأبطالها وأحرارها وحرائرها على امتداد العصور وقرون الدّهر السّحيق، لكن قدر “إيمان”، من قدر وطنها العظيم، أن تنتصر على كل من سعى ويسعى إلى تحطيمها ولو معنويًّا.. فكذلك هو قدر وطننا العظيم (الجزائر) أن ينتصر على كل أعدائه.

لطالما شعرَت أنها طفلة مختلفة عن غيرها، من ثبات خطواتها تبدو واثقة أكثر من باقي أترابها، كبرت عزيزة الروح لا تحب التخلّف أو الغياب عن المواقف الجادة، غدها ليس ضبابا ولا صورة من هباء هي الأيام فقط التي قد تعاندها حينا وتقسو عليها كثيرا أحيانا أخرى، لكن يوقظها الظل إن ضلّت الطريق إلى أحلامها الطفولية البريئة، ويرسم لها الليل الطويل صُوَرا تداعبها على عتبات ذلك المجهول القادم إليها، تراه سيحطّ رحاله على قدرها وهي الأنثى المفعمة بالنشاط والأمل الممزوج بكثير من الألم، لكن ذلك الحلم بعد الرحيل الطويل أكيد سيستقر لتفتح له الأبواب لبداية الانطلاق إلى عالم لا تزال تراه حلما بين تلافيف الذاكرة.. أحلام محلّقة بعيون الصباح في المدى المُزيّن بأكاليل الورود التي تذوب في كف مساءاتها التي تَعِدها بغدٍ جميل تعانق فيه وجه القمر وسط المزارع النائية فتمتلآ من ضيائه وتبتسم وهي تغني لطيور الفجر.

تفكير إيمان الطفولي يحمل الكثير من الأسئلة التي غالبا ما تعجز عن إيجاد بداية للإجابة عليها، فتطفئ حيرتها بدمع لامع، تثري بصمتها كلام يتكسّر بين مرايا وقع الفقر والحاجة. لا تزال ترقب ذلك القادم المجهول لربّما يمسح عنها غبار الشقاء، إنها مثل عصفورة حائرة، حاملة قلقها في برد المساءات التي تمضي ولا تأتي بجديد. يمتدّ السّكون كأنّ غيمة حطّت على حبل الوريد، ترسم حكايتها بالكلمات لهيبا في المدار، وصمت هذه البيوت التي تقمع حلم كل أنثى تطمح إلى العلا، ولكن كلما ارتقى حلمُها وارتفع فوق واقعها يسحبها إلى رصيفٍ مُرصّع بالأمنيات المُجمّدة، لكن هي تراه ومؤمنة أنه سيأتي في الربيع ويذيب ما علا حلمها من ثلوج عنيدة لتنطلق من نقطة البداية نحو حلمها الأبدي.

كانت عائلتها كبيرة، ولم يقدر والدها على إعالتهم لصعوبة الحياة الريفية وانعدام الأمل، شحذت همّتها وهي الابنة الكبرى لتساعد والدها، فأخذَت تنتقي المواد البلاستيكية من القمامات لإعادة تدويرها، ومرّة تبيع “خبز الدّار” على قارعة الطريق الرئيسي للسيارات، لم تكشف مسيرةُ حياتها التفاصيلَ مثل “بائعة الخبز” للكاتب الفرنسي “كزافيه دومونتبان”، ولا “بائعة الكبريت” للأديب الدانماركي “هانس كرستيان أندرسن”. هي طفلة مثابرة، تفرح بفستان جميل يحضره والدها لأيام العيد بألوانه الزاهية، هي لا تبحث عن الموضة ولا تتابع أحدث بيوت الأزياء، المهم فستان تعكس ألوانُه أحلامَها الوردية.

اعتادت “إيمان” كل صباح الذهابَ إلى مدرستها البعيدة عن منزلها سيرًا في الطرق الطينية التي تثقل حذاءها البالي بالوحل والأمطار تبلّل قدميها الصغيرتين والصقيع يجرح وجهها حتى تكاد لا تقوى على مسك قلمها دون أن تنفخ فيهما كي تتدفأ بحرارة زفيرها، عاشت تعاند قسوة برد الشتاء ولهيب الصيف الذي أحرق وجهها، لكن لم يكن يهمّها الأمر غير أن تساعد والديها في حمل مسؤولية البيت وتخفيف المعاناة ولو بقدر قليل..

الفقر والحاجة جعلت منها أنثى صلبة، قوية قوة الأبطال وقوة الطبيعة وقسوتها، فكم حاولَت كسر رتابة الأشياء المحيطة بها ومحو غصّة تستوطن أحلامها، ولما كبرت صار أكثر ضيقا وأفظع مما كان مُتوقّعا، هي تعلم أنه من الصعب أن يجد الإنسان الاختيار الذي يبحث عنه وإن اجتهد من أجله كثيرا وهو يركض ليصل فيجد الخيبة تركض قبله وتحاصره كي لا يصل إلى غده المُنتظر، يهرب لكن الحصار يعود ويضيّق عليه.. فتعود إليه مجبرة وقلبها، يتراجع من الظلام إلى الظلام، وقلبها لم يعد يقبل الحطام كبقية البنات في سنّها، فقد أصبحت ترى درب الدراسة ما زال طويلا ولا يحلّ مشكلتها ولا مشاكل عائلتها أو يوفر لهم الحياة الكريمة، ولن تقدر أن تحقّق ما تحلم به، فهي تدور في حلقة مفرغة..

تتبّعَت نداء قلبها وعقلها معا وهي مقتنعة بهذا الاختيار الذي وجدته حلًّا مناسبا في غياب كل الحلول الأخرى المُمكنة، وهو ما يعني خلاصها من رمادية الحياة التي عاشتها والتي كانت ستقضي على ما في دنياها من ألوان جميلة لو فقدت أملها الذي هو سر من أسرار صمودها، فبعض الأمور تتطلّب التضحية والاجتهاد والصبر حتى يظهر بصيص الأمل.

تحبّ “إيمان” الرياضةَ، وكانت تمارسها خلال دراستها بالمدرسة الإعدادية وكانت تنال فيها العلامة الكاملة.. أثار انتباهَ أستاذ التربية الرياضية نشاطُها وخفّتها وسرعة حركاتها، كانت حديث القاعات الرياضية في تلك المدينة التي تبعد كثيرا عن قريتها. ويومًا، نقل إليها أحد زملائها في الدراسة عرضًا من أحد مدربي الملاكمة للانضمام إلى فريق الملاكمة بالقاعة وستنال مقابلا ماليًّا كل حصة تدريبية، كان العرض مُغري حتى أخبرت به والدها فضحك اشفاقا عليها من أن يتكسّر أنفها!

لم يمانع الأب، وفي الغد ذهبَت والتقت بالمدرب صاحب العرض فسلّمها مبلغا من المال لتحضّر نفسها وتقدّم ملفًّا كاملا لإدارة القاعة. فرحت “إيمان” بالمبلغ ورأته على قلّته كبيرا يكفي لشراء مقلمة لأدواتها المدرسية التي كانت تضيّعها في كل مرة. كانت “إيمان” تريد أن تظهر وسط زميلاتها بشكل محترم ومشرف ولو بأبسط الأشياء دون أن تكلّف والدها أعباء إضافية، وكان والدها يشجعها على مواصلة الدراسة والنجاح ونيل شهادة البكالوريا، أما والدتها فكانت تريدها ناجحة في أي مجال دراسي أو رياضي المهم عندها أن ابنتها “إيمان” تكون ناجحة في حياتها. ولكن والدها بقي مُمتعضًا من غيابها في المدينة للتدريب ومن عودتها متأخّرة إلى المنزل ليلا، فأهل القرية محافظين جدا والألسنة الطويلة لا ترحم.

بعد أن كانت قد تسلّمت النقود من مدرّبها، تغيّبت مرة أخرى، وأمام إصرار مدرّبها على عودتها، التقاها وأعطاها بدلة رياضية وأصرّ أن تبدأ التدريب معه، وتنبّأ لها أن تكون يوما بطلة أوليمبية، لم تفهم “إيمان” ما المقصود من بطلة أوليمبية. ولمّا كان من الصعب أن تستمر “إيمان” في التدريب بالقاعة البعيدة التي تنتقل إليها سيرا عادت إلى بيع “خبز الدار” على الطريق لتوفّر المال اللازم لتذكرة الحافلة والتكفّل بمصاريفها.. فوالدها لا يعمل عملا منتظما ودخله غير ثابت! وكانت “إيمان” تعاني الحرمان الكبير، يعلم أهل قريتها أنها تمارس أعمالا ليست مناسبة لعمرها، كانت محاربة قوية يثني عليها الجميع إذ ما تحملته يفوق بكثير ما يتحمّله الرجال، كانت الأنثى التي يُضرب بها المثل في التحدي والإصرار.

تركت “إيمان” مقاعد الدراسة مُضطرّة لإعالة أسرتها، ووجدت فرصة لتتفرغ للرياضة وقتا أطول. وبعد مرور بضعة أشهر من التدريب، خاضت أول تجربة وكانت متأكدة من نجاحها، كانت ابتسامتها تجعل من الخريف ربيعا، ومن الليل المظلم صباحا، فهي تعلم أنها ليست الوحيدة التي لسعتها الأيام وعسى أن تكون ابتسامتها دواء لكل داء، فهي تحيا دون أن تُلحق الضَّرر بأيّ إنسان أو تتسبب يوما في أذى أو ألم لأيٍّ كائن بأي كلمة أو فعل أو بسوء الظن، تدري جيدا قيمة أن تخدم من هم بحاجة إليها، ملتزمة بالهدوء والتعقّل الذي لا يعكر سكينتها، كما تجيد احتواء مشاعرها التعيسة وابتلاع أحزانها واستبدالها بالمشاعر السعيدة.

في غمار تدريباتها، أخبرها المدرب أنه تمّ ترشيحها لخوض منافسات البطولة الوطنية للملاكمة صنف أواسط ستنظم في مدينة أخرى، فكانت أول مرة تسافر إلى خارج مدينتها بدون أسرتها، كان ذلك لقاؤها الأول مع إحدى المُشارِكات التي خاضت من قبل بطولة العالم. الجميع كانوا يشكون في أنها يمكن أن تربح المنازلة، وكانت المفاجأة عندما تغلّبت “إيمان” على منافستها بفارق في النقاط كبير، ومن حينها أدركت “إيمان” أنها على أبواب الطريق لتصنع مجدا لنفسها بعدما أصبحت بطلة وطنية بجدارة.

ولكن الظروف تعاندها مرة أخرى، فنجاحها العفوي الذي تمّ بفضل موهبتها الشخصية لم يشفع لها كي تتجنّب ظروفا ترتّبت منذ ولادتها في عائلة فقيرة ونشأت في محيط مغلق على نفسه.. لم تستسلم لمصيرها ولم تخضع للألم والفشل، كما لم تضيّع الكثير من الوقت الثمين، ولم تفقد ثقتها بنفسها لأنها بدأت تعي أن بضع سنوات قليلة من العمل الدؤوب والسعي المستمر كفيلٌ بتغيير كلمة الحظوظ، إنها تؤمن كل الإيمان بأن كل من يعمل بجدٍّ وثبات ولا يجعل للتشاؤم سبيلا إلى نفسه سينجح، إرادتها تولِّد في نفسها مزيدا من دفق الثقة التي لا تعني بالضرورة عندها الاعتقاد بامتلاك الموهبة غير الموجودة أصلا، بل تؤمن بأن يتقبّل المرء حالته الحاضرة كما هي ويحاول تحسينها ورفع مستواها، وما من شك إنه سينجح إذا وضع هدف تحقيق النجاح نُصب عينيه، وعلى ذلك كان نجاحها الأول كبطلة وطنية صغيرة رغم جهلها لأمور كثيرة في الحياة .

أخيرا بدا لها طيف النجاح الذي حفّزها على الاستمرار فضاعفت التدريبات خلال ساعات الليل، ورحّبت بها عمّتها في بيتها القريب من قاعة الملاكمة، وصار زوج عمّتها سندها في المدينة البعيدة عن قريتها النائية. قرّرت “إيمان” الاستقرار عند عمّتها ومواصلة دراستها بالثانوية، وعاشت مكتفية بالمبلغ الذي تتقاضاه بما جنته بعد فوزها بالبطولة الوطنية وقسّمته بين لوازم دراستها وتدريبها الرياضي..

كانت هذه الظروف مرحلة انتقالية بعدما صار لها راتب شهري، إذ تمكنت من تقليص فارق المستوى الاجتماعي بينها وبين زميلاتها، ثم انطلقت بكل جد واجتهاد في رحلة حياتها تستمدّ لحظات الفرح الجميلة لتدفعها إلى الأمام مودعة واقع ماضيها المرير وذكرياتها الحزينة التي ظلّت هاجسًا يؤرّقها بالليل ويزعجها بالنهار.. تلك الذكريات المتقلِّبة كانت تُشعرها دوما بعدم الاطمئنان، عاشت الأجواء التّعيسة والأنواء والشقاء، فتعلّمت منذ صغر سنِّها ومن تجاربها في الحياة أن لا الفرح يبقى ولا الحزن يدوم وما عليها إلاّ اتخاذ قراراتها بنفسها دون أن يؤدّي بها ذلك إلى الندم.. تستمدّ حكمتها في التصرّف من ذكرياتها الحزينة حتى وإن لم ترجّح كفة الذكريات السعيدة، موقنة أن الجمال والأمل والغنى والصحة كلها مسائل نسبية تتفاوت فيها الأحكام من حال إلى حال، وقد يبلغ بها الحال إلى الضحك حدّ البكاء أو البكاء حدّ الضحك.

توالت بطولات “إيمان” بأدائها المميّز والقوي داخل الوطن، تسع بطولات متتالية جعلتها تنتقل إلى التحضير للبطولة الإفريقية، تمكّنت من نيل الميدالية الذهبية. ظلّت في تطوّر مُستمرٍّ معتمدةً على نفسها حتى نظّمت لها الدولة الجزائرية الدورات التدريبية خارج الوطن، هذه الدورات التي مثّلت لها قفزة عملاقة نقلتها من قريتها الصغيرة إلى أسفار عبر دول العالم الذي بدا لها أوسع ممّا كانت تتخيّله. كانت أحلامها من قبل مرهونة بعدد الخبز الذي تبيعه، والآن تشعر أن الحياة تبتسم لها بكل الألوان التي تمنّتها واشتهتها لتلوين قلبها الحزين، فالبقاء على ساحة الحلم روعة وجمال، وحسّها النقي وإصرارها على النجاح هو حلاوة الروح وبراءة البياض عندما تسافر بحلمها إلى أقاصي النجوم المتوهّجة بالحنين والشوق في كل مرة إلى ارتفاع راية وطنها خفاقة في الأعالي مُكتملة بكل عناصر الحب والوفاء للأرض التي وُلدت فيها.. إنه وطنها الجزائر، لونها ومزاجها وطقوسها على أرض وطنها هو الشعور الدافئ الذي يراودها وهي تتأمّل ألوان الراية التي تعلو بالشعور المُتجدِّد كالمطر والضوء والعطر، إنه يحفِّزها ويذلِّل أمامها الصّعاب، ويخفّف المواجع ويلوّن مساحات الهيام ومعه تنتشي الخلايا، إنه وطنها الجزائر الذي هو الشيء الوحيد الثابت فيها، فهو حاجتها وجنونها، تحتضنه بوجهها المُطلّ كنهارٍ رائع فتشتعل عندها لحظة الحماس المنسجمة التي تعبِّر بها بكل التعابير وهي فوق حلبة الملاكمة فهناك تبرز فصول ونقاط الحصاد.

بعد سلسلة انجازاتها المبهرة والمتواصلة، تأهلت إيمان إلى الألعاب الأوليمبية في طوكيو، كان حلما لم تتصوّر يوما أنها ستبلغه، لكن إيمانها بقدرتها الفنية وثقتها الكبيرة في إمكانياتها البدنيّة جعلها تحققه، لكن المفارقة أن الحلم تحقّق في فترة عانى فيها العالم كله من وباء كوفيد 19 الذي فرض قيودا على التحضيرات وحصرها في أماكن مُعيّنة، وكان السفر خارج الوطن مُقنّنا وهذا ما جعلها تحتل الرتبة الخامسة في البطولة. لم يُفشلها هذا الظرف الطارئ والحسّاس بل زادها خبرة ورفع معنوياتها أكثر حيث ازدادت الرغبة فيها للتأهل ثانية والمشاركة في الألعاب الأوليمبية بعدما لمست الحماسة والروح التنافسية عند كل رياضي ورياضية..

قرّرت أن تعمل أكثر لضمان التأهل للألعاب الأوليمبية في باريس 2024 مُمثِّلة للجزائر في رياضة الملاكمة. ويحلّ اليوم الموعود وتلتقي فوق الحلبة بمنافستها الأولى “أنجيلا كريني” الإيطالية التي انسحبت باكية بعد 46 ثانية إثر تلقّيها لكمة قوية.. حسمت “إيمان” النزال ولكنها لم تحسم الجدل المُثار حولها، أخذت ترقب منافستها وهي تبكي مردّدة ما سمعته من إشاعات مغرضة فقط لتبرّر هزيمتها، وما زاد الأمر سوءًا دخول رئيسة الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني” على الخط في حملة التشكيك في الملاكمة “إيمان”!

كان حدثا غير مألوف في الدورات للرياضية العالمية، ادّعاءات سخيفة وأكاذيب غير مُؤسّسة جاءت في إطار حملة تنمّر شعواء انضمّ إليها المرشح للرئاسة الأمريكية “دونالد ترامب” خلال كلمته في تجمع شعبي لحملته الانتخابية، وكاتبة سلسلة هاري بوتر “جوان كاثلين روينج” لتحطيم الملاكمة “إيمان”..

ولكن كانت وقفة الشعب الجزائري والعربي خير سند لها، وقد اتّضح أن ما تعرّضت له يدخل في خانة الحسابات السياسية التي أرادت بعض الأطراف الدولية إدماجها بالرياضة لإفراغ شحنة حقدهم ضد الجزائر، بعد إخفاقاتهم السابقة في العديد من القضايا الدولية..

عرفت “إيمان” أنها الحرب عليها، وأنها حرب شرسة فزادها ذلك قوة وإيمانا لأنّ الحرب الإعلامية كانت أيضا ضدّ بلدها. وما منحتها الشجاعة هي تلك الوقفة التضامنية من أهلها وشعبها، وهبة وطنها على كل المستويات إلى جانبها في كل المحافل العالمية، أيقنت يومها أنها ليست وحدها وأن القضية أكبر من ذاتها، شاهدت دفاع والدها بالأوراق الثبوتية عارضا شهادة ميلادها مولودته الأنثى، وفرحة أمها بها هدية الله تعالى لها غفت في أحضانها كعصفورة آمنة، كالورد والريحان يعبق منها رحيق الأنوثة، وفي عينيها تزهر كل الألوان، تسطع عيناها كقنديلٍ على أبواب الشقاء لتخفّف تعبها، لقد أسعدت أيامها، كان يوم ميلادها سراجا أضاء فوانيس العمر المظلمة، ابتهجت “إيمان” بسماع كلمات والدها، وانتشت روحها بتشجيع رئيس بلادها “عبد المجيد تبون”، وبكل من أحبّها داخل الوطن. كفكفت دموعها وألقت أحزانها وراء ظهرها غير مبالية، إنها تمثل اليوم الوطن والعَلم، هي مثل الصبر الجميل في الاحتواء الهادئ والاستيعاب الواعي للأحداث من خلال ما سجّلته الصورة وعكسته المواقف.

واصلت “إيمان” تحدّيها في مقابلتها الثانية أمام الملاكمة المجرية “لوكا هاموري” بكل عزم وإيمان بالفوز، تغاضت عن إساءتها لها عندما صوّرتها كالوحش على صفحتها الرسمية، فكانت النهاية هزيمة مُذلّة للمجرية على الحلبة وليس في مواقع التواصل الاجتماعي. كانت “إيمان” تردّ بـ “الفعل” على كل مَن حاول أن يحتقرها ويتنمّر عليها وليس بالبذاءات والكلام المسيء..

لقد بالغت مختلف وسائل الإعلام الغربية والصحافة العالمية والأوساط الحقوقية والدبلوماسية الغربية في الإساءة إليها والنيل المشين السافر من كرامتها، لامست المواقف حدود العنصرية القميئة، وتداولت أروقة منظمة الأمم المتحدة طبيعة الاتهامات المتبادلة بعد أن اتّهم نائب مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة “بوليانسكي” الجزائر بإشراك رجل في منافسة الملاكمة في أولمبياد باريس 2024 مع النساء!!

كان الردّ الجزائري على لسان الدبلوماسي “توفيق كودري” الذي عبّر بشدة عن رفضه لهذه التصريحات، مشدِّدًا على أن الملاكمة “إيمان خليف” ولدت وعاشت أنثى، إنها رياضية وبطلة مارست الرياضة بكل المقاييس، وأنه لا يوجد أدني شك من ذلك، إلا مَن له أجندة سياسية مجهولة المقاصد، وعليه تم إحالة الأمر إلى اللجنة الأوليمبية الدولية التي أعلنت بكل وضوح شهادتها التي أسكتت كل مشكك. نظرت “إيمان” بكل شجاعة إلى كل مَن حولها متسائلةً في عجب إن كانت هي، الآتية من قرية صغيرة نائية، مَن قلبت العالم كله رأسا على عقب؟ هل هي بائعة الخبز على الطريق من تقف أمريكا وروسيا وأوروبا في وجهها.

جلسَت خلال لحظات الراحة منزوية في مكان بعيد عن أعين الصحفيين والرياضيين تتفحّص مُتعجِّبة، عبر هاتفها، أخبارها التي ملأت العالم، وكأن كل أخبار العالم توقّفت وكل القضايا الدولية انتهت والحروب هدأت ولم يبق فوق الكرة الأرضية إلا قضيتها!

أغلقت “إيمان” هاتفها، وأخدت ترقب مَن حولها وتتبّع خلسةً حركاتهم وسكناتهم وتعابيرهم المريبة، صادفها مدربها المخلص وبادرها ناصحًا ألّا تبحث في السلبيات حولها، الناس تبحث في اللاشيء، إن بحثهم مَرَضي، عنصري، تشكيكي، تراهم يتحدّثون عن النجاح والإبداع والمناخ الرائع الذي يعيشونه، وبعد ذلك تنبري أقلامهم السوداء على بياض الأوراق الجميلة تنثر السموم لتلطّخ جمال البياض، علينا أن نجدد بكل إيجابية الأمل وأن نتحكّم بكل هدوء في الانفعالات..

استجمعت “إيمان” إرادة التحدي في نفسها واستعادت العزم لتملك السيطرة على مجرى حياتها، في كل مقابلة على حلبة الملاكمة يتلاقى الخصمان وكل منهما يبلغ الآخر بالضربات واللكمات ما أراد قوله، ماضيه وحاضره وربما مستقبله دون تردّد أو التلفّت إلى تفاهاتهم.. “إيمان” لديها نهجها كعربية ومسلمة ولها واقعٌ تعيشه، فقط عندما تنظر لكل من أحبها من كل أنحاء العالم وإلى من ألّف الأشعار من أجلها وأطرب بالأغاني مسامعها، وإلى كل من تتبّعها مُهتمًّا بأخبارها، عليها أن تتهيأ جيدا فلا تزال هناك نزالات أخرى تنتظرها على الحلبة، وهناك يكون الانتقام.

أجرت “إيمان” مقابلتها الثالثة مع الملاكمة التايلاندية وفازت فوزا عظيما، ومنها تأهلت إلى المباراة النهائية. كان كلما اقترب موعد المنازلة زادت حدّة حملة التنمّر ضدها، فما زادها ذلك إلا عزيمة وإصرارا أكبر، لقد أصبحت على بعد خطوة واحدة من تحقيق هدفها، وهي تعلم أنهم يحاولون النَّيل من معنوياتها بتشويه صورتها وتشويه الحقائق بكل الطرق المشبوهة حتى تلك التي تنال من شرفها وتسيء إلى كرامتها بغرض تحطيمها..

أدركت وفهمت أنها لعبة سياسيين من دول تُوصف بالعظمى يتلوّنون ويغيّرون جلدهم كالثعابين وقتما شاؤوا وكيفما أرادوا.. قوة خفيّة تحرّك الحماسة في نفسها وتجدّد إرادة التحدّي في قلبها، ودماؤها الجزائرية الحارة المتدفّقة تأبى عليها أن تكون فريسة.. لن ينفعهم ما خطّطوا له، لن يمنعوها من الوصول إلى هدفها، إنها من أمّة راضية بما قسمه الله تعالى لها، تؤمن بأن أخلاقها تسطّر درب حياتها حتى لو مشته حافية فوق الأشواك.. إنها من أمّة لا تفرّط في مبادئها، عزمت أن يكون ردها الوحيد فوق الحلبة، وكان لها ما أرادت.. انتصار مشرف على منافستها الصينية، حقّقت حلمها بالفوز بسموّها على الصغائر وترفُّعها على البذاءات، وبوعيها وحبها وولائها لوطنها الجزائر الحبيبة..

إنّ ما قدّمته “إيمان” كان ردًّا لجميل بلدها الذي ألبسها ثوب العزّ وكساها بالكرامة وحباها بالعافية والخير والأمان، لقد صوَّبَت بوصلة العطاء نحو الوطن والهوية والعرق الإنساني، أنشدت النشيد الوطني “قسما” وعيناها لا تفارقان عَلم بلادها يرتفع أمامها، لقد ردّت الاعتبار لنفسها ولبلدها بالعمل، وبالإيمان والإرادة..

صبحة بغورة - أديبة جزائرية

صبحة بغورة - أديبة جزائرية

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
عطاف يشارك بالقاهرة في اجتماع اللجنة الوزارية العربية المُصغرة نفذها الاحتلال جنوب غزة.. 40 شهيدا وعشرات المصابين في مجزرة جديدة أمطار رعدية على 9 ولايات هل سيحسم عمالقة التكنولوجيا نتائج السباق نحو البيت الأبيض؟.. مستقبل أمريكا في متاهة "السيليكون فالي" فشل ثلاثي الأبعاد.. المخزن يتخبط في مستنقع الإخفاقات انتقادات واسعة.. أداء سلطة الانتخابات في مرمى المترشّحين الثلاثة جهود التدخّل والإغاثة مستمرة.. إجراءات فورية للتعامل مع أضرار فيضانات ولاية بشار عائلته تستقبل التعازي في "بيت فرح وتهنئة".. الشهيد "ماهر الجازي" هدية الأردن لفلسطين وغزة العهدة الثانية للرئيس تبون.. أمريكا تسعى إلى ترقية التعاون الثنائي اختتام الألعاب البارالمبية في باريس.. الجزائر الأولى عربيا وإفريقيا وزارة التعليم الفلسطينية.. فتح مدارس افتراضية لأول مرة في غزة تعليم عالي.. استلام 19 إقامة جامعية جديدة بتكليف من رئيس الجمهورية.. عطاف في القاهرة ولقاءات مرتقبة مع نظرائه العرب الرئيس الصحراوي يوجه رسالة تهنئة إلى الرئيس تبون بعد فوزه بالعهدة الثانية.. اليامين زروال يهنئ عبد المجيد تبون جبهة البوليساريو تدين السياسة الإجرامية للاحتلال المغربي ضد الصحراويين أكد تمسكه بالعلاقة الاستثنائية بين البلدين.. ماكرون يهنئ تبون على إعادة انتخابه إجراءات عاجلة للتكفل بمخلفات الأمطار بولاية بشار وزارة التربية.. هذا هو موعد فتح المنصة الرقمية للتعاقد أسعار النفط ترتفع بأكثر من 1%.. وخام برنت يتداول قرب 72 دولارًا