طلبةٌ في “الزيتونة” ومناضلون على الرّكح.. قراءة في بواكير المسرح الثوري الجزائري (3)

“محمد الصالح الجابري” (1940 – 2009) أديب وباحث تونسي ركّز اهتمامه على التأريخ للحركة الأدبية في تونس وليبيا والجزائر. ومن ثمرات ذلك أنّه أنجز دراسات بالغة الأهميّة حول الحركة الثقافية والأدبية للجزائريين في تونس خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي. ومن تلك الدراسات: الطلبة الجزائريون بتونس، العلّامة عبد الحميد بن باديس في تونس، الوعي القومي والديني عند الشعراء الجزائريين، النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس: 1900- 1962، رحلات جزائرية.. ودراسات أخرى كثيرة اخترنا منها دراسة بعنوان: “الثورة الجزائرية من خلال بعض المسرحيات”، تناول فيها “الجابري” بواكير المسرحيات التي ألّفها جزائريون في تونس بالإضافة إلى مسرحيات أخرى من تأليف كُتّاب من تونس وليبيا.

قال “محمد صالح الجابري”: “إنّ أول نص مسرحي جزائري نُشر في تونس عن الثورة الجزائرية صدر بمجلة (الفكر) خلال شهر جويلية 1957 للكاتب الجزائري المعروف (مصطفى الأشرف) بعنوان (الباب الأخير)، وهذا النص كُتب أصلا باللغة الفرنسية، وأرسل به مؤلِّفه إلى هذه المجلة من سجن (لاسنتي) في باريس حيث كان معتقلا مع جُملةٍ زعماء الثورة الجزائرية الذين اختطفوا آنذاك في حادث الطائرة الشهير”.

أما المسرحية الثانية فهي للأديب الدكتور الجزائري “صالح خرفي” – اشتهر في تونس بكنية “أبو عبد صالح” – بعنوان: “في المعركة”، وقد كُتبت “حسب إفادة المؤلف نفسه في سنة 1957، ومن خلالها حاول تقديم أنموذج لأمثاله من الطلبة الجزائريين المهاجرين مُجسِّمًا في شخصية الشاب الطالب (عبد الحميد) الذي كان يزاول تعلّمه بالمهجر، وكان يعاني من أزمة نفسية حادة بين جدوى الجهاد بالقلم والانقطاع للعلم الذي هاجر لأجله، وبين الرّغبة العارمة والتّوق الملّح للالتحاق بالثورة والجهاد بالبندقية”. ومن أبطال مسرحية “في المعركة” البطل: “يوسف”، وأشار “الجابري إلى أن “الثائر يوسف المذكور في المسرحية هو الشهيد يوسف زيروت (زيغود يوسف)، وقد قام حسب إفادة المؤلف بزيارة تونس مِرارًا واجتمع بالطلبة بدار البعثة 17 نهج ابن خلدون حين كان يحرّضهم على الإقبال على العلم، بل كان يحثّ الطلبة من داخل الجزائر على الالتحاق بالزيتونة”.

ثم تطرّق “الجابري” إلى مسرحيةٍ طبعَها جزائريٌّ هو “عبد الله ركيبي”، واعتبر الأمر مغامرة كبيرة لأن الكاتب طالبٌ في المستوى الثانوي ويفتقد إلى الأدوات الإبداعية في مجال الأدب المسرحي إضافة إلى الظروف الأخرى المادية وصعوبة نشر الكتاب بين الناس.. قال الجابري: “تجرّأ عبد الله ركيبي في سنة 1959 على نشر مسرحيته (مصرع الطّغاة) التي كانت أول نص مسرحي جزائري يظهر في كتاب مستقل خلال هذه الفترة. (نشرت المسرحية في تونس بدار بوسلامة للنشر سنة 1959)”.

إضافة إلى هذه الأعمال الجزائرية الثلاثة، قدّم “الجابري” عملين مسرحيين لكاتب من تونس والآخر من ليبيا. وفيما يلي نترك القارئ يُبحر في بواكير المسرحيات الثورية التي كتبها جزائريون في تونس وهم على مقاعد الدراسة دعمًا لثورة التحرير الوطني وتعريفا بها في الأوساط الثقافية والنخبويّة العربية.

“مصرع الطّغاة”.. أول مسرحية جزائرية تُطبع في كتاب

انطلاقا من التوجّه الواضح لخلق نواة مسرح ثوري، يُعرّف بالثورة ويواكب نضالها، ويقدّمها للجمهور على نطاق أشمل، تجرّأ “عبد الله ركيبي” في سنة 1959 على نشر مسرحيته “مصرع الطّغاة” التي كانت أول نص مسرحي جزائري يظهر في كتاب مستقل خلال هذه الفترة. (نُشرت المسرحية في تونس بدار بوسلامة للنشر سنة 1959).

ولا يمكن القول بأنّ هذا العمل كان مغامرة جريئة فقط، باعتبار ما كان یُلاقیه رواج الكتاب الثقافي آنذاك من صعوبات جمّة، ولكنه كان يمثل شجاعة أدبية نادرة من كاتب ناشئ ما يزال على مقاعد الدراسة بالتعليم الثانوي، ولم تكن له صلة بالمسرح ولا بالفن المسرحي، وقُصارى ما كان له من نشاط أدبي في هذه المرحلة لم يتعدّ نشره لبعض المقالات والقليل من القصص في الصحف التونسية.

ويبدو أن المؤلِّف كان قد شعر بهذا الحرج، وتهيّب عواقب مغامرته فالتجأ إلى بعض أساتذته من التونسيين لتقديم هذا العمل، ومساعدته على إقناع القارئ بأهمية هذه المحاولة وأهدافها والغرض منها، فطلب من الأستاذ “البشير العريبي”، أحد أساتذة الزيتونة، ومن الصحفي المرحوم “الهادي العبيدي”، رئيس تحرير جريدة “الصباح”، تزكية عمله وإغراء القارئ بمطالعته. فكان أن استجاب لرغبته كلاهما، حيث اهتبل الأستاذ “العريبي” هذه الفرصة ليضع هذه المسرحية في إطارها الوطني والنضالي، ويعدّها من التجارب الجديدة التي يجب أن تُحتذى وتُعزّز بمحاولات أخرى سواء من طرف المؤلف أو غيره من الكُتّاب لاطلاع الناس من خلال هذا الفن على صفحات ناصعة وجوانب مضيئة من الثورة الجزائرية، قائلا في هذا الصدد: “فهذه الرواية تجربة جديدة، نرجو أن تعقبها تجارب من المؤلف أو سواه، لدراسة العالم الجزائري الرّحب العميق وما فيه من ممكنات وأسرار، تجربة خاصة بإبراز صورة ناصعة من صور الثورة التحريرية الموفقة، وتتبّع خطاها منذ يوم انبعاثها وتبلّج سناها، ولكنها لا تقف عند هذا الحد لأنها تعكس على صفحاتها صورا للثورة وصورا أخرى للحياة الجزائرية على العموم. وفي الحياة الجزائرية جوانب شتى لو عنى الكاتبون بالكشف عنها لكشفت لهم عن جزائر غير التي يعرفونها و(جزائريين) غير الذين احتكوا بهم في الكتب أو عالم الناس من قبل”. (نُشر النص في مقدمة كتاب المسرحية).

أما الأستاذ “الهادي العبيدي” فقد اعتبر “هذه المحاولة بداية مشروع لخلق أدب مسرحي عربي يخلّد هذه الثورة ويحفظ للأجيال لوحات عنها. ولو لم تكن الثورة، لم يفكر أخي عبد الله ركيبي أن يكون يوما كاتبا مسرحيا لأن فن المسرحية فن له أصوله الصعبة وقواعده الدقيقة وقواعده الدقيقة. و(مصرع الطغاة) لوحة بارزة الألوان عن دوافع الثورة الجزائرية واختصارها قبل اندلاعها. أرجو أن تجد مكانها في أدب الثورة الجديد الذي زخرت به مكتبتنا الحديثة وكانت من قبل خاوية فقيرة”. (نُشر هذا الرأي في ظاهر غلاف كتاب المسرحية).

ورغم ما حظيت به هذه المسرحية من تزكية وتشجيع ظاهر من كاتبين تونسيين مرموقين في الوسط الثقافي التونسي، فإنّها لم تجد طريقها إلى الركح، ولم تجد لها الصدى الذي قد يكون أمَلَه الكاتب بسبب ضمور حركة النقد، وعدم الاهتمام الواضح بالكتابات المسرحية على وجه الخصوص، ممّا حدا بكاتبها إلى عدم تكرار المحاولة، والانكفاء إلى أعمال كتابية أخرى.

والحقيقة أن هذه المسرحية رغم أنها كانت محاولة الكاتب الأولى والأخيرة إلا أنها كانت عملا لا يخلو من الطرافة والتوفيق في بعض الجوانب وبخاصة الجانب الأدبي الذي يتميّز بيُسر التعبير وبساطة الكلمات التي يحتاج إليها مثل هذا العمل الجماهيري، واقتضاب الحوار والحضور الرّكحي للشخصيات التي رُسِمت بدقة، ونسيج العلاقات التي كانت تشدّ بعضها إلى البعض الآخر، وتساعد على بلورة الحدث العام للنص.

أمّا موضوع المسرحية فهو مرحلة الإعداد للثورة، ثم انطلاقتها، وما تلا ذلك من أحداث، وما نجم عنه من ردود فعل من طرف الاستعمار الذي كانت مفاجأة اندلاع الثورة قد أفقدته صوابه، وأطارت لبّه وبعثت البلبلة في صفوفه، فبدا مُحيّرًا مُرتبكًا مشلول الإرادة يتخبّط في كل اتجاه.

وإذا كنا قد رأينا “مصطفى الأشرف” يعالج في “الباب الأخير” الموضوع نفسه، موضوع مرحلة اندلاع الثورة في مقاطعة واحدة من مقاطعات الجزائر وهي قسنطينة، وإسهام شريحة اجتماعية واحدة وهي شريحة الفلاحين والعمال ومعاناتها ومناهضتها للمعمِّرين وسادتهم من أعوان السلطة، وطالعنا في مسرحية “في المعركة” لـ “صالح خرفي”، صورة من كفاح طالب مهاجر، دعاه واجب الكفاح فلبّاه ووظّف ثقافته وعلمه وجهده في سبيل تحرير بلاده، فإنّ “عبد الله” جمع في “مصرع الطغاة” بين الموضوعين، موضوع انطلاق الثورة من جهة، وموضوع مشاركة وإسهام المثقفين في جميع مراحلها من البداية إلى النهاية من جهة أخرى. ولم يكن مدار مسرحيته ناحية ما من نواحي الجزائر، وإنما كانت العاصمة بما تضم من الوجوه المختلفة، ومن سائر الطبقات والفئات التي يجمع بينها هدف واحد وغاية معيّنة وهي تحرير البلاد، ومحاربة العدو، وإجلاء المستعمر بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة.

ففي بيت متواضع يقع في مكان ما من العاصمة وهو بيت الشيخ “عارف” حيث كان يقيم مع ابنته “رحمة” وابنه البشير، نلتقي بمجموعة من الرفاق المثقفين الذين كانوا قد امتلأوا غضبا على الأوضاع السائدة، وبرموا بالأساليب التي كانت تنتهجها الأحزاب السياسية التي كانت تمارس أسلوب الكفاح اللفظي. وقد صحّ العزم منهم على أن تحرير الجزائر لن يكون بالكلام والخطب الحماسية، وتقديم المطالب، وإنما بقوة السلاح، وكان بين هؤلاء الدكتور أحمد، وسليم، وصادق، ونصير، وفرح، وحميد.

وبعد مناقشات عديدة تخوضها الجماعة في منزل الشيخ “عارف” بتدبير من ابنه “البشير” ومشاركة فعالة من ابنته “رحمة”، يتقرّر البدء في تفجير الثورة، وتُحدّد ساعة الصّفر، ويقوم الجميع بالطواف على المقاهي الشعبية لتوعية الناس وعقد حلقات الاتصال وتجنيد مَن يمكن تجنيده لهذا العمل، والبحث عن مختلف أنواع السلاح المتوفر في البيوت.

ولتيسير عملهم، يقع تقسيم الأدوار وتوزيع المسؤوليات على المشاركين، وتعيين مسيِّرين وقُوّاد على الولايات، وينتخبون “البشير” قائدا عليهم. وبعد أن يؤدي الجميع “قسم الثورة”، يغادرون البيت في اتجاه الجبل، وسرعان ما تندلع المعارك ويسري لهيبها ليعمّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها.

وفي غمرة ما انتاب المستعمر من ذهول ودهشة وصدمة بسبب عدم تفطّنه إلى مسيّري هذه الحركة، ومعرفته بمكامن أعدادها، وفشله في العثور على أية معلومات تقوده إلى الخيط الذي يؤدي إلى التعرّف على حقيقة ما يجري، في هذه الغمرة يظهر أحد العملاء وهو المُسمّى “الأحدب” الذي يطرق الباب على مدير الأمن، ليزوّده بمعلومات عن الجماعات المتمرّدة التي تقف وراء اندلاع هذه الأحداث، حيث كان قد شاهدهم ذات يوم بأحد المقاهي الشعبية وسمعهم يتحاورون حول بعض القضايا السياسية، ويفصحون عن نواياهم في حمل السلاح والتمرد.

وبهذه الوشاية يضع “الأحدب” يد السلطة على أول الخيوط التي تقود إلى إلقاء القبض على “رحمة” ووالدها المريض الشيخ “عارف”، ويخضعان للتحقيق والاستجواب، ويتعرّضان لصنوف التعذيب المختلفة، غير أنهما يصرّان على الإنكار، ويُبديان صمودًا يثير حنق السلطة ويفقدها صوابها، فتلجأ إلى طريقتها المعهودة في الانتقام، وتمتد يدها إلى كل جزائري مهما كانت صلته بالثورة، ومهما اختلفت سنّه، وتُمعن في الجميع تعذيبًا وقتلا وتمثيلا، وتُلقي بجثثهم في بئر أُعِدَّت لهذا الغرض، وقد بلغ جنون السلطة إلى حد أنها ألقت القبض على “الأحدب” نفسه عندما أطلّ بوشاية جديدة، وألحقته بالمعتقلين لأنها فقدت الثقة في الجميع وفي كل جزائري مهما أبدى من ضروب العمالة والخيانة.

وبما أن لكل ظلم نهاية ولكل جائر قَصاصًا عادلا، لم تلبث ساعة الفرج أن أطلَّت، ومن خلال باب السجن نفسه حيث داهم الثوّار مركز مديرية الأمن ذات مساء وحرروا جميع من فيه، وقضوا على آخر معتقلات الاستعمار، وكان قائد هذه العملية الجريئة “البشير” نفسه ورفاقه. وبذلك أُنقذت “رحمة” ووالدها، كما أُنقذ جميع من بقي على قيد الحياة من رفاقهم الجزائريين.

وفوق أشلاء الطّغاة وعلى مصرعهم، رفرف العلم الجزائري الذي كان يمسك به الدكتور “أحمد” يقدّمه مهرًا لحبيبته التي كانت قد رفضت من قبل حبّه في ظل الاحتلال، واشترطت أن يكون مهرها الحرية بأكملها ولكافة الجزائريين، وأمام هذا الموقف المؤثر لم يجد “البشير” بدًّا من مباركة زواجهما وفي المكان نفسه بالذات.

وبهذه الخاتمة الأسطورية التي يطغى فيها الخيال على الواقع، وتفقد فيها الأحداث منطق الإقناع، تتجاوز المسرحية مرحلة الإعداد للثورة إلى كتابة تاريخها بداية ونهاية، شأنها في ذلك شأن مسرحية “في المعركة” لـ “صالح خرفي”، حيث نشعر في كلتا المسرحيتين بأن المؤلفين كانا يرسمان الثورة وفق أفكار مسبقة، ومن خلال إرادة النصر وحتمية الظفر والغلَبة التي تحدوهما وتسيطر على مشاعرهما، وقد حدا بهما هذا المنطق إلى تصوير أبطال الثورة على نحو لا يُقهر ولا يغلب خلافا لنسق الأحداث في مسرحية “الباب الأخير” التي كانت تبدو أكثر إقناعا وواقعية.

 

 

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا