أثناء تنظيم نهائيات كأس العالم دورة 2002م مناصفة بين كوريا الجنوبية واليابان، تقدّم الأسطورة “دييغو أرماندو مارادونا” الى السّفارة اليابانية بالأرجنتين للحصول على تأشيرة سفر إلى طوكيو لدعم فريقه ومناصرته، لكن السّفارة المعنية رأت غير ذلك، فقد رفضت تلبية رغبته على خلفية تهمة تعاطيه المخدرات.. بعد ذلك، ومع أوّل خرجة إعلامية للأسطورة، سئل عن موقفه من رفض اليابان منحه تأشيرة دخول البلاد، فرد بكل عفوية، كما ظل معهودا عنه: “..اليابان رفضت منحي تأشيرة دخول البلاد بسبب مسألة شخصية، وهي إدماني على تعاطي المخدرات، لكنهم منحوا التأشيرة واستقبلوا فريق أمريكا التي ألقت على رؤوسهم القنابل النّووية.. تبا لهم فإنهم فعلا بلد بلا كرامة..!”
لم يكن كلام اللاعب “مارادونا” سوى تعبير واقعي عن الوضع السياسي القائم في العالم، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية، رأس الليبرالية الحديثة، ومنذ الحرب العالمية الثانية زمن خروجها الفعلي كالأفعى من جحرها الخلفي عبر المحيط الأطلسي، راحت تركز في سياساتها الخارجية على خيارين اثنين لا ثالث لهما؛ أطواق من حرير لأتباعها، وأطواق من حديد لأعدائها.. فكان في البدء مشروع “مارشال” الذي وُضِع طوق حرير في عنق أوروبا الغربية، وأضاف إليها بعد حروب دامية؛ اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين.. وبالولاء الجيني؛ أستراليا وزيلندا الجديدة والهند وكندا.. وبالولاء المهين؛ دول الخليج العربي ومصر ومملكة المخزن.. وبعض الجزر والدويلات المتناثرة في أعالي البحار والمحيطات.
كانت الحرب الباردة على أشدها بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، إلى أن سقط الاتحاد السوفياتي مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، فخلا الجو للأمريكان بأن أوغروا السكين في قلب العالم، لينحروا آخر ما تبقى من قيم وأخلاق وثوابت كانت تتخفى داخل المنطقة الرمادية الفاصلة بين المعسكرين، فجعلت الشرق والغرب مرتعا خصبا لصلفها وطغيانها، توزع الحب على من تشاء وتفرغ الرّعب على رأس من تشاء.. إنه العالم الجديد “أحادي القطب” الذي أغلق جميع أبواب التنافس والخيارات؛ فإما أن تكون تابعا لأمريكا وأتباعها، أو أن تبقى على هامش التاريخ والحضارة.
لتستغل اللوبيهات الصهيونية الفرصة، مرة أخرى، وترمي بكل أثقالها في أسواق القيم والأموال والبنوك والمؤسسات التمويلية، وتعزّز دورها الشّيطاني في إدارة المنظومة الاقتصادية العالمية، والهيمنة على مراكز صنع القرار الدولية، خاصة على مستوى مؤسسات “بريتون وودز”؛ صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.. وفعلا فقد تمّ لهم ذلك، وأضافوا إلى خيار الحروب الكلاسيكية المعروفة بالاجتياحات الميدانية والغزو عن طريق الحديد والنار، حروبا أخرى تتحدد معاييرها عن طريق الحصار الاقتصادي، المقاطعة التجارية، العقوبات المالية، تفجير البلدان من الداخل عن طريق حركات العصيان والتّمرد. وقد تجاوزت هذه الإجراءات الإذلالية عتبات الدول وسيادتها، إلى المساس بحرية الأشخاص وكرامتها، وإن كان ذلك بصورة غير مباشرة، أو بشكل مقنع مستتر.
وقد ظهر ذلك جليا في قضية “دومينيك شتراوس – كان” الاقتصادي الفرنسي الذي كان قد عيّن مديرا عاما لصندوق النقد الدولي، وعندما أصرّ على مباشرة عملية جرد فعليّ للودائع الأمريكية، خاصة الذهب المودع داخل خزائن الصندوق، لم يجد سوى خمسة أطنان، عوض خمسمائة طن المسجلة والمرتهنة رسميا وقانونيا، مقابل دعم الدولار في الأسواق العالمية، وهنا كان عليه طرح أسئلة مهمة؛ أين اختفى الذهب.. وهل فعلا كان قد تم إيداعه.. ومن يقف وراء هذه الكارثة..؟ أسئلة “معقدة” كانت كفيلة بأن تضع الرجل داخل منطقة الخطر الأحمر. وبالفعل، فقد تم تلفيق تهمة غبية ضده؛ التحرش الجنسي بعاملة فندق سوداء وافدة… وأين..؟ في نيويورك التي يحكمها العهر وتديرها الإباحية ويعمّها الشذوذ! رغم ذلك، قُيِّدَ واُقتِيدَ إلى مخافر الشرطة والنيابة، كمجرم هارب، في إهانة واضحة لشخصه، وفي رسالة صريحة لمن سيأتي بعده.. وبعدما تم التأكد من عملية سحقه سياسيا وأخلاقيا، أسقطت النيابة بعدها كل التهم وأخلت سبيله بحكم “براءة”، وأية براءة..؟ براءة مرّة بطعم الإعدام الذي أنهى حياته العامة، وأزال وجوده من مسرح “الأضواء الباريسية”، وهو الذي كان على وشك الترشح لرئاسة الجمهورية الفرنسية، وبحظوظ وافرة جدا.
التجربة نفسها كان قد مرّ بها الممثل الأمريكي “مارلون براندو” ذو الأصول الإيرلندية بحر ستينيّات القرن الماضي، فبينما كان يعيش أزهى أيامه وأبهى نجوميته في هوليوود، فاجأ الأمريكان بتصريحات مثيرة قال فيها: “..إن اليهود يتحكمون في كل شيء داخل هوليوود.. يملكون كل شيء التقنيين والفنيين وحتى الممثلين..”.. كلمات مقتضبة لكنها كانت كافية لتثير ثائرة اللوبي الصهيوني ضده، لدرجة أن أصبح كلّ من حوله يتجنب الظهور برفقته، وأصبح المخرجون يرفضون التّعاقد معه.
ظل “مارلون” مهمّشا قرابة عشرة أعوام، حتى أصبح لا يشارك إلا في أفلام رخيصة فاشلة، لكسب القوت ليس إلا، فقد نسيه الناس وتناسوه.. إلى أن قررت شركة “بارامونتبيكتشر” تحويل رواية “المافيا” إلى فيلم سينمائي، واختارت لإخراجه أحد أساطير الإخراج والسينما؛ فرانسيس فورد كوبولا.. والذي اختار بدوره الممثل “مارلون براندو” لدور “فيتو كورليوني”.. لكنه اصطدم برفض رؤساء الشركة لاسم الممثل المقترح، لدرجة أن المدير التنفيذي قال بالصريح الجلي: “سيد فرانسيس، إني أحرم عليك أن تذكر اسم “مارلون” في مكتبي مرة أخرى”.. لكن “كوبولا” كان مصرا على التعاقد معه.. وفعلا، وبعد أخد وردّ ومدّ وجزر وبإصرار كبير من المخرج، تمكّن من إقناعهم وفرض “مارلون براندو” للعب دور البطولة في الفلم.
عاد “مارلون براندو” رفقة “آل باتشينو” و”روبرت دي نيرو” و”جيمس كان”.. مثل شخصية “فيتو كورليوني”، فأبدع وأمتع؛ “..ومنذ ذلك الحين، وهوليوود مجرد أفلام أطفال أمام عظمته..”.. كما علّق على ذلك أحد النقاد السينمائيين، وهي الشهادة التي تبناها الجمهور السينمائي وعشاق الفن السابع، والتي أجبرت هوليوود على تكريمه، ثم منحه جائزة الـ”أوسكار”، والتي رفض استلامها، تضامنا مع نفسه ومع كرامته، لأنه كان يعلم بأنهم منافقون يحترفون المتاجرة باسمه وبصورته لا أكثر.
لم يتحسن الوضع أصلا، بل زاد قرفا وعفنا والعالم يتابع ما يجري في فلسطين وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، ففيما كانت الطائرات الصهيونية تُضَاعف عدوانها بقصف المساكن والأحياء المدنية، بكل وحشية وبربرية مخلفة تحتها مراكمَ رهيبة من الدمار، وأكوامًا مرعبة من جثث الأطفال والنساء، كانت الخارجية الصهيونية بصدد توزيع رسالة شجب واستنكار قد وجهتها مجموعة من “ست وثمانين” شخصية حائزة على جائزة نوبل في مختلف التخصصات، وبشكل مستعجل، إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تحثه على التحرك لفعل شيء لحماية الأطفال -الصهاينة- الرهائن لدى المقاومة الفلسطينية، من دون أدنى إشارة لما يتعرض له الشعب الفلسطيني من محرقة عنصرية تمتد إلى أكثر من سبعين عاما من الصلف والظلم والجنون.
وأخيرا، صحا ضمير أصحاب نوبل وليته ما صحا.. فقد سكتوا دهرا ونطقوا كفرا، وهم يظهرون تضامنهم الأعرج الأعوج مع الظالم المعتدي، على حساب الضحية المعتدى عليه، فالمقرف أكثر في رسالة “العلماء” المؤرخة في السادس عشر أكتوبر، والتي حملت عنوان “المطالبة بالحرية للأطفال المختطفين”، لم تعقبها إلى اليوم رسالة مماثلة -ولو من باب التعزية- حول الأطفال الذين مُزِّقت أجسادهم في مجزرة المستشفى المعمداني..! قد لا يمكن إدانة “جائزة نوبل” كمؤسسة – إلا لأن أشخاصا من الفائزين بها قد أصابهم العمى – ولكن لا يمكن التغاضي عن ازدواجية المعايير ورمادية المواصفات التي على أساسها يتم اختيار الفائزين، خاصة ما تعلّق بفرعي السلام والأدب، الفرعين اللذين ظلا تحت تأثير هيمنة الكيان الصهيوني، وذلك منذ نهاية أربعينيّات القرن الماضي، حيث ظلت كواليسها مسرحا للنشاط الصهيوني، لأن التحكم في توجيه الحصول على هذه الجائزة يشكّل بالنهاية شاهد قوة على نجاح المشروع الصهيوني الشّاذ، الذي يحتاج إلى مثل هذه “الفخامة” الفكرية لتبنيه وتثبيت أسسه.
وفي هذا السياق، أوردت الكثير من التقارير والكتابات الصحافية الموثوقة وغير الصهيونية بأنه، ومنذ مطلع خمسينيّات القرن الماضي، كان الكيان الصهيوني قد بدأ في تلقى طلبات من لجنة جائزة نوبل للسلام في البرلمان النرويجي، لمعرفة ما إذا الصهاينة يوصون باسم شخص ما للفوز بالجائزة.. وبذلك صار محكوما على المرشحين للفوز بنوبل ضرورة المرور عبر الكيان الصهيوني للتزكية والتأييد.
عندما ظهر الرئيس الراحل “ياسر عرفات”، العام 1993، مصافحا رئيس وزراء الكيان الصهيوني “إسحاق رابين” في حديقة البيت الأبيض الأمريكي، ظن العالم أن عصر الصراع العربي – الصهيوني قد انتهى، وقد تعزّز الظنّ بمنح جائزة نوبل للسلام مناصفة بين الرجلين، لكن إضافة اسم وزير خارجية الكيان الصهيوني حينها “شمعون بيريز” إلى الاثنين قد سرّب شيئا من الريبة والحذر، فمقاسمة هذا الأخير الجائزة مع الاثنين فعلا لا مبرر له ولا تفسير..! في اليوم نفس الذي تم فيه الإعلان عن الفائزين الثلاثة، كانت القوات الصهيونية قد أنهت عملية اختطاف جندي صهيوني بقتل المُخْتَطِفِين وأسيرهم وأسرتهم، وهي العملية المدبّرة التي جعلت من أحد أعضاء لجنة نوبل، وهو النرويجي “كريستيانسن”، يتقدم بطلب يطرح فيه فكرة ضرورة سحب الجائزة من “ياسر عرفات”، لكنه عندما أدرك استحالة تحقيق ذلك، بما أن المؤسس الأول للجائزة “ألفريد نوبل” كان قد وثّق عدم العودة في قرارات المنح والاختيار، وهنا، لم يتبق للحاقد الصهيوني “كريستيانسن” سوى مطالبة رئيس اللجنة بتقديم الاعتذار والأسف.
وفي زاوية الحقد الأسود والصلف الأعمى، يتخندق الصهيوني “شمعون بيريز”، الذي كان قد وصفه الفيلسوف الفرنسي “روجي غارودي” بأنه “قاتل مخادع..”، حيث سقط عنه قناع السلام الزائف مع أول امتحان ميداني، أشهرا بعد الجائزة، بأن وجّه قصفه وصبّ قذائفه على رؤوس من احتمى بمركز قيادة قوات الأمم المتحدة في قرية قانا جنوبي لبنان، فكانت مجزرة قانا أو جريمة قانا، حيث شهد العالم كيف تمزقت وتفحمت أجساد أكثر من مائة طفل وامرأة جراء العدوان الصهيوني الغادر، رغم الرايات البيض والقبعات الزرق ورجال السلام.
هذا هو الكيان الصهيوني الذي لا يؤتمن غدره؛ فما بني على الجريمة بحق الروح والإنسان والاغتصاب، بحق الأرض والمكان، لا يمكن أبدا أن يتخلى عن غرائزه الوحشية وسلوكياته الهمجية مهما كان.