يختلف التحضير للدخول المدرسي في الولايات المتحدة الأمريكية عن أي مكان آخر في العالم، ففي حين يركز الأولياء في دول العالم الأخرى على مساعدة أبنائهم في التخلص من مشاعر القلق والخوف والرهبة من الدراسة والأساتذة، يُركز الأولياء الأمريكيون جلّ مجهوداتهم على تحضير أبنائهم نفسيا لكيفية التصرف في حال حدوث إطلاق نار بمدرستهم، وبدورها المدارس الأمريكية تخصّص حصصا في بداية العام الدراسي، لتعليم التلاميذ كيفية الحفاظ على هدوئهم في حال اقتحم مسلح أقسامهم الدراسية، في ظاهرة غريبة تنمّ عن تسليم تام بأن حوادث إطلاق النار، ظاهرة خارجة عن السيطرة شأنها شأن الفياضانات والزلازل وغيرها من الظواهر الطبيعية التي يستحيل على الإنسان التحكّم بها!
تُعدّ الأسلحة النارية السبب الأول لوفاة الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية، فاستنادا إلى دراسة نشرتها “Kaiser Family Foundation” (كيسر فاميلي فوندايشن التي يُرمز لها بـ”KFF” وهي منظمة غير ربحية، مستقلة، تهتم بدراسة سياسات الصحة وتجري بحوثا واستطلاعات رأي وتنشر مقالات وتحقيقات صحفية في المجال الصحي) ـ فإن الأسلحة النارية ساهمت خلال عامي 2020 و2021 في وفاة عدد أكبر من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 1 و17 عامًا في الولايات المتحدة أكثر من أي نوع آخر من الإصابات أو الأمراض، وتضاعف معدل وفيات الأطفال بالأسلحة النارية في الولايات المتحدة، حسب الدراسة التي نُشرت شهر جويلية المنصرم، في عام 2021 مقارنة بمعدل عام 2013 بنسبة 68℅.
وتوصلت الدراسة التي قارنت الولايات المتحدة الأمريكية بعدد من الدول الغنية مثل أستراليا، بلجيكا، كندا، فرنسا، ألمانيا، سويسرا والمملكة المتحدة، إلى أنها البلد الوحيد الذي يفوق فيه عدد الأطفال والمراهقين الذين يموتون بسبب الأسلحة النارية، عدد الذين يموتون بسبب مرض السرطان وحوادث المرور.
تشعر شريحة واسعة من الأولياء الأمريكيين بالقلق من احتمالية إصابة أطفالهم بالرصاص في أقسامهم الدراسية، وطبقا لاستطلاع رأي أجراه “Pew Research Center” أو مركز بيو للأبحاث ـ وهو مركز مستقل مختص في الأبحاث واستطلاعات الرأي ـ نُشر شهر أفريل الماضي، قال إن 22℅ من الآباء والأمهات الذين لديهم أطفال دون سن 18 عاما، قلقون للغاية بشأن إصابة أي من أطفالهم بالرصاص في مرحلة ما من حياتهم الدراسية، بينما قال 23℅ آخرون إنهم قلقون إلى حد ما من حدوث مكروه لأبنائهم.
وحسب مقال نشرته “National Public Radio” (الإذاعة الوطنية العمومية على موقعها الرسمي)، نهاية شهر مارس الماضي، فإن حوادث إطلاق النار بالمدارس الأمريكية قد أودت بحياة 74 ضحية منذ بداية العام الجاري 2023، واستنادا إلى الاستطلاع ذاته فإن عدد الأطفال والمراهقين الذين قتلوا رميا بالرصاص في الولايات المتحدة قد ارتفع بنسبة 50℅ بين عامي 2019 و2021، حسب تحليل مركز بيو للأبحاث لأحدث إحصائيات الوفيات السنوية من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، وطبقا لمقال نشرته صحيفة الواشنطن بوست مطلع شهر جوان الماضي، فإن سنة 2022 قد شهدت عدد أكبر من حوادث إطلاق النار في المدارس في “46 حادثا” منذ عام منذ 1999.
الانقسامات الحزبية تُفشل التصدي للظاهرة
خلال حضورها نهاية الأسبوع الماضي، مؤتمر نظمته “Moms Demand Action for Gun Sense in America” (أمهات تطالبن بعقلنة امتلاك السلاح في أمريكا) ـ وهي منظمة مستقلة تنشط في إطار مواجهة العنف المسلح في الولايات المتحدة ـ استنكرت نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس الارتفاع المتزايد للعنف المسلح الذي يستهدف المدارس، وقالت هاريس إن الأطفال الأمريكيين وفي أول يوم لهم في المدرسة يتعلمون كيفية الحفاظ على هدوئهم في حال حدوث إطلاق نار بمدرستهم، إلى جانب تعرفهم على اسم المُدرس وموقع المرحاض، بدل أن يتعلموا أشياء أخرى تساعد على انفتاح عقولهم وتسهيل تحصيلهم الدراسي.
تصريح هاريس الذي يتزامن مع اقتراب الدخول المدرسي في الولايات المتحدة الامريكية، والذي سيكون يوم غد الإثنين 21 أوت في معظم الولايات، يعكس رؤية حزبها الديمقراطي الحاكم حاليا، والذي ينادي بضرورة فرض المزيد من القيود على امتلاك السلاح، بهدف الحد من ظاهرة العنف المسلح، على عكس الحزب الجمهوري المعارض، الذي يرى أسبابا أخرى للظاهرة، تتقدمها الصحة النفسية لمنفذي عمليات إطلاق النار، ويتهم غريمه الديمقراطي بالتهاون مع المجرمين، وعدم الجدية في التعامل مع الأشخاص الذين اظهر عليهم بوادر احتمالية ارتكاب جرائم.
وأدت حوادث إطلاق النار المتكررة في البلاد إلى تجدّد الدعوات إلى مزيد من تدابير السيطرة على الأسلحة، وبينما يضغط الديمقراطيون، بما فيهم الرئيس جو بايدن، من أجل حظر الأسلحة الهجومية، التي تعد أكثر استخداما في عمليات القتل الجماعي، باءت كل الجهود التشريعية في هذا الإطار بالفشل، بسبب معارضة الجمهوريين، الذين رفضوا جهارًا أية إجراءات للحد من الأسلحة، وألقوا باللوم في حوادث إطلاق النار الجماعي على الصحة العقلية ومشاكل إنفاذ القانون وفرض النظام التي حملوها للديمقراطيين، كما دعت بعض الولايات التي يقودها الحزب الجمهوري إلى وضع ضباط مسلحين في كل مدرسة لمنع إطلاق النار في المدارس، ونادى البعض بتسليح المدرسين تحسبا إلى حدوث أية هجمات مسلحة.
يُذكر أنه اعتبارًا من الفاتح أوت الجاري، لقي ما لا يقل عن 25 ألف و198 شخصًا مصرعهم بسبب العنف المسلح في الولايات المتحدة خلال هذا العام 2023، أي ما يعادل 118 قتيلا في اليوم، ووفقًا لـ”Gun Violence Archive” (أرشيف العنف المسلح) ـ وهو موقع أمريكي خاص برصد حوادث إطلاق النار ـ فقد قٌدر عدد الضحايا من المراهقين بـ879 مراهقا والأطفال بـ170 طفلا.