علّمتهم الكتابة وتناول الطعام دون أياديهم.. بيسي بلونت.. الطبيبة السمراء التي غيّرت حياة مبتوري الأطراف

كثيرا ما تُخلّف الحروب والثورات التي يشهدها العالم خسائر بشرية عديدة، بين قتلى ومصابين بجروح مختلفة ومتفاوتة الخطورة، ولعلّ أقسى هذه الإصابات وأكثرها ألما جسديا وخاصة نفسيا، هي بتر الأطراف التي تستوجب عناية كبيرة ورعاية متواصلة من أجل إعادة التأهيل، وتمكين هؤلاء الضحايا من التعامل مع إعاقتهم ومواجهة حياتهم المليئة بصعوبات كان يمكن أن تتعمّق، أكثر فأكثر، لولا أن القدر يرسل دائما أصحاب قلوب رحيمة يكرّسون حياتهم لمساندة هذه الشريحة من الناس، تاركين بأعمالهم الإنسانية أثرا مضيئا يحفظه التاريخ.

بيسي بلونت، طبيبة فيزيائية – أمريكية من أصول إفريقية – عملت مع الجنود المصابين في الحرب العالمية الثانية، وساهمت في تمكين مبتوري الأطراف من التعامل مع إعاقاتهم، دون الحاجة إلى مساعدة أحد، ومثّل عملها في وزارة شؤون المحاربين القدامى الأمريكيّة، نقلة نوعيّة في حياتها، الشيء الذي دفعها إلى اختراع آلات تساعدهم في إنجاز مهامّهم، إضافة إلى تعليمهم مهارات الكتابة بأطرافهم المتبقّية، كما ألهمتها خدمة الحرب، على اختراع جهاز سمح لمبتوري الأطراف بإطعام أنفسهم.

دور ريادي

وهكذا، استطاعت بلونت القيام بدور ريادي في كل المجالات التي اشتغلت بها، وذلك يعود إلى شخصيتها العنيدة وبراعتها في الابتكار، في فترة كانت النساء من البشرة السمراء لا يستطعن العمل في بعض المجالات التي كانت حكراً على البيض.

كانت بلونت أول امرأة سمراء تظهر أيضاً في برنامج “The Big Idea”، وهو من بين أشهر البرامج التلفزيونية الأمريكية خلال خمسينيات القرن الماضي، ويقوم بتسليط الضوء على الاختراعات الحديثة وكيفية اشتغالها.

لاحقاً، أصبحت بلونت أول امرأة سمراء البشرة داخل الجمعية الأمريكية لمحللي خطوط اليد التابعة للشرطة في كل من نيوجيرسي وفيرجينيا، حسب موقع “عربي بوست”.

لكن الفترة التي أسهمت في شهرتها كانت خلال عملها في وزارة المحاربين القدامى مبتوري الأطراف جراء الحرب العالمية الثانية، الشيء الذي دفعها إلى اختراع آلات تساعدهم في إنجاز مهامهم، بالإضافة إلى تعليمهم مهارات الكتابة بأطرافهم المتبقية، كما ذكر آنفاً.

طفولة قاسية دفعتها إلى تعليم مبتوري الأطراف الكتابة

وُلدت بيسي بلونت سنة 1914 وسط عائلة أمريكية من أصول إفريقية، وبدأت بلونت تعليمها في مدرسة محلية، مكونة من فصل واحد فقط.

حسب موقع “New York Times” الأمريكي، بنيت المدرسة من قِبل أعضاء مجتمع مدني من ذوي البشرة السوداء بعد انتهاء الحرب الأهلية سنة 1865، خلال فترة دراستها عانت بلونت من صراعات مع معلمتها بسبب كتابتها بيدها اليسرى، ما كان مكروهاً حينها.

تعرضت بلونت للتوبيخ من مدرستها، وهو ما دفعها إلى تعلم الكتابة بكلتا يديها، بالإضافة إلى أصابع قدميها وفمها.

خلال تلك الفترة لم تكن هناك مدارس للتعليم العالي خاصة بالطلاب السود في نفس منطقتها، لتقرر بلونت وضع خطتها التعليمية الخاصة بها، وتقرّر أن تصبح أخصائية علاج طبيعي “فيزيائي”. قُبلت أوراقها في إحدى كليات علوم التربية البدنية في الولايات المتحدة الأمريكية.

أنت لست مشلولاً، الشلل هو شلل العقل فقط

بعد تخرجها بدأت بلونت في عملها أخصائية علاج طبيعي في مستشفى بروكس بمدينة نيويورك الأمريكية، فيما واصلت تعليم الجنود والضباط مبتوري الأطراف العائدين من الحرب العالمية الثانية كيفية إنجاز مهامهم اليومية بعد أن فقدوا أيديهم أو أقدامهم في الحرب.

من خلال معرفتها الطرق البديلة للكتابة وقدرتها على ذلك بمختلف أطرافها، بدأت بيسي بتعليم الجنود إمكانية الكتابة باستخدام القدم والفم، وكانت تحفزهم بقولها: “أنت لست مشلولاً.. الشلل هو شلل العقل فقط”، هذا العمل جعلها تخترع أول اختراعاتها.

ابتكار جهاز تغذية إلكتروني

حسب موقع “All That’s Interesting” الأمريكي، كانت لدى بلونت رغبة كبيرة في مساعدة المرضى بطريقة تمكنهم من القيام بمهامهم اليومية دون طلب المساعدة من أحد، الشيء الذي دفعها إلى ابتكار جهاز تغذية إلكتروني يسمح بتوصيل قضمات الطعام إلى فم المريض دون حاجته إلى أحد.

عملت بيسي على النموذج الأول في مطبخها الخاص، إذ قامت بإذابة البلاستيك باستخدام المياه المغلية، كما استعانت بالمواد المنزلية لصنع الجهاز، كان التصميم عبارة عن وعاء محمول مدعوم من الرقبة لحمل الأوعية والأكواب بشكل قريب من الفم، لتحصل سنة 1951 على براءة اختراع لجزء من تصميمها.

رغم نجاح اختراعها لم ترغب وزارة شؤون المحاربين القدامى في أمريكا في فعل أي شيء حيال دعم اختراع بلونت، الشيء الذي دفعها إلى التبرع به للحكومة الفرنسية حتى تبدأ في مساعدة الناس.

اختراع حوض خاص بالتقيؤ

لم يكن هذا الاختراع الوحيد لها، فقد أضافت حوضاً خاصاً بالتقيؤ يمكن استخدامه لمرة واحدة فقط، بدلاً من الأحواض التي كانت تستخدمها المستشفيات سابقاً، حيث كانت المستشفيات تستخدم أحواض تقيؤ يتم غسلها واستخدامها مرة أخرى.

اختراع بلونت جعل المستشفيات في غنى عن تنظيف أحواضها بعد كل استخدام، وقد كان النموذج الأول لهذا الحوض مصنوعاً من الدقيق والماء، بالإضافة إلى أوراق الصحف.

للمرة الثانية لم تعِر وزارة شؤون المحاربين اختراعها أي اهتمام، لتقوم بلونت ببيع اختراعها إلى بلجيكا والتي لا تزال تستخدم أحد أشكالها هناك إلى يومنا الحالي، لم تتوقف بيسي طوال حياتها عن الابتكار إلاّ أنها توقفت بطلب براءة الاختراع لتصميماتها.

بيسي بلونت.. خط اليد شبيه بالبصمات

في ستينيات القرن الماضي بدأت بيسي مساراً مهنياً مختلفاً داخل مجال الطب الشرعي، إذ تخصّصت في علم الخط، وهو علم يمكن من تحليل الخط لتحديد سلوك الفرد، بالإضافة إلى معرفة سماته الشخصية، وهو ما يستخدم حالياً في الطب النفسي.

كانت بلونت تعتقد أن الكتابة اليدوية “فريدة من نوعها” تماماً مثل بصمات الأصابع أو بصمات القدم، لتعمل خلال سبعينيات القرن الماضي رئيسةً لقسم الوثائق والمستندات في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية.

عملت بلونت خلالها خبيرة في الكتابة اليدوية لدى شرطة لندن في فترة انتقلت لتدريس خطوط اليد في عاصمة المملكة المتحدة، وتخصّصت في كشف الوثائق المزورة، فيما استمرت بالتوازي بالعمل في الطب الشرعي إلى حدود الثمانينات من القرن الماضي.

خبيرة استشارية في الكتابة اليدوية

بعد عودتها إلى الولايات المتحدة وإحالتها للتقاعد، واصلت العمل مع إدارات الشرطة كخبير استشاري في الكتابة اليدوية، وكانت نشطة في منظمات إنفاذ القانون مثل الرابطة الدولية لعلوم الطب الشرعي، والمنظمة الوطنية للمسؤولين عن إنفاذ القانون السود.

عرضت خبرتها في الكتابة اليدوية للمتاحف والمؤرخين من خلال قراءة وتفسير وتحديد مصداقية الوثائق التاريخية، بما في ذلك معاهدات الأمريكيين الأصليين والأوراق المتعلقة بتجارة الرقيق والحرب الأهلية الأمريكية.

وفاتها

وفي سنة 2009، توفيت بيسي بلونت غريفين في منزلها بمنطقة نيوفيلد في ولاية نيوجيرسي الأمريكية عن عمر يناهز 95 عاماً.

بتر الأطراف.. تعدّدت الأسباب والمعاناة واحدة

والجدير بالذكر، أنه قرابة مليون حالة بتر لأحد أطراف الضحايا تجري سنوياً حول العالم، كما تتعدّد الأسباب التي تتطلب ذلك، فأغلب حالات البتر التي تعرفها الدول المتقدمة ترجع إلى بعض الأمراض التي تصيب أطراف الإنسان، مثل الانسداد الذي يصيب الأوعية الدموية فيمنع تدفق الدم إلى العضو البشري، بالإضافة إلى الصدمات النفسية ومرض السكري والسرطان.

أما في الدول النامية فأكثر حالات البتر تقع لأشخاص يعيشون في بيئات غير محمية أو أوضاع اقتصادية صعبة، مثل أصحاب المهن اليدوية كالعمال والمزارعين، الذين هم عرضة للدغات الثعابين والعقارب، أو الإصابة بمرض الورم الفطري الذي عادة ما يصيب الأقدام.

كما أن الحروب والصراعات التي تفتك بالملايين سنوياً، صحيح أن الآلاف ينجون من لهيبها، لكن بأجسادٍ تشوهت جراء انفجار أو قصف أو لغم أرضي.

ضف إلى ذلك حوادث المصانع أو الأمراض التي تنتقل عبر مياه الصرف الصحي. وبحسب “مجلة جراحة وأبحاث العظام الأمريكية” (Journal of Orthopaedic Surgery and Research) ، فإن سوء الرعاية الصحية من أكثر الأسباب التي تؤدي إلى بتر الأعضاء.

حالات إنسانية تستدعي تظافر كل الجهود لتلبية احتياجاتها

وبتر الأطراف هو من الحالات التي تتطلب عناية وإعادة تأهيل تستمران طيلة حياة الشخص المصاب، إذ يحتاج الأشخاص الذين بُترت أطرافهم إلى تأمين المستلزمات الطبية واستبدال العكازات والأطراف الصناعية الأخرى كل ثلاث أو خمس سنوات في حالات الكبار، وكل ستة أشهر بالنسبة للأطفال بسبب النمو الطبيعي لأجسامهم.

لكن ليس كل الدول بمقدورها أن تغطي كامل حاجتها من الأعضاء البديلة للمتضررين سواء بتوفيرها في المستشفيات أو عبر تجهيز مراكز تصنيع هذه الأعضاء.

إذ تشير إحصائيات أصدرتها “الأكاديمية الأمريكية لأطباء تقويم العظام والأطراف الاصطناعية” (The American Academy of Orthopaedic Surgeons)، إلى أن قرابة 80 بالمائة من الأشخاص مبتوري الأطراف السفلية في العالم لا يستطيعون الحصول على الأعضاء الاصطناعية البديلة، التي قد تبلغ تكلفة تصنيعها ستة أضعاف متوسط دخل الأسرة الواحدة في الدول الفقيرة.

ومن المعروف أيضا أن الكثيرين منهم لا يستطيعون إعالة أُسرهم بسبب العجز الذي أصابهم وبالتالي تنقص فرص توظيف هذه الفئة من المجتمع.

الأمر الذي يستدعي من المنظمات الخيرية والإنسانية العمل على تقديم كل الدعم النفسي والمادي للآلاف حول العالم، عبر إطلاق حملات التبرع من أجل توفير الأطراف البديلة وتشييد مراكز تصنيعها في الدول الفقيرة، وكفالة ذوي الاحتياجات الخاصة من مبتوري الأطراف، للتخفيف من معاناتهم خاصة في مناطق الحروب أو المناطق الفقيرة التي تعاني نقصاً في مختلف مناحي الحياة.

ابتسام مباركي - الجزائر

ابتسام مباركي - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
سكيكدة.. إصابة 21 جريحًا في حادث مروري تونس.. شايب يجدّد التزام الحكومة بحماية أفراد الجالية قمة كمبالا.. الجزائر تشارك في رسم خارطة طريق زراعية جديدة الاقتصاد العالمي في 2025.. صندوق النقد الدولي يتوقع استقرار النمو وتراجع التضخم عام 2024.. تسجيل 14700 حالة إصابة مؤكدة بجدري القردة في إفريقيا الحرب على غزة.. 5 آلاف شهيد والإبادة الصهيونية مستمرة إرهاب الطرقات.. وفاة 64 شخصا وإصابة 2087 آخرين منذ بداية السنة أحوال الطقس.. ثلوج وأمطار على هذه الولايات بوركينا فاسو.. الجزائر تقدم مساعدات إنسانية مصدرها من المغرب.. توقيف 6 أشخاص وضبط قنطارين من الكيف بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة.. قوجيل يهنئ الجزائريين حملة التضليل والتشويه الفرنسي.. الخارجية الجزائرية ترد بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة.. الرئيس تبون يُهنئ الجزائريين تنصيب اللواء طاهر عياد قائدا للحرس الجمهوري بالنيابة "الفاف".. وليد صادي يعلن نيته الترشّح لعهدة أولمبيـة ثانية "لم يبق منها سوى فروة الرأس”.. انصهار وتبخر جثث الشهداء في غزة وسط الدمار.. الاستعانة بالسجناء لإطفاء الحرائق في لوس أنجلوس ارتفاع أسعار النفط بنحو 3%.. "برنت" يصل إلى 79,76 دولار للبرميل كيف أصبحت الجزائر "مكة الثوار" في إفريقيا والعالم؟ بمناسبة انتخابه رئيسا للبلاد.. رئيس الجمهورية يهنئ نظيره اللبناني جوزيف عون